نعم أنا الذي غاب عني مؤنسيّ منذ زمن، أنا الذي تركت الشمس خلفي والقمر، أنا الذي بِت في ظلمات الحرمان منذ سنين. احتملت الظلم والقهر، وتجرعت السم عسلاً لأجل الوطن، قلت للجميع: سأغيب يا رفاقي في الظلمات لأجل أن تعيشوا يوماً بحرية؛ اجتهدت.
وهذا اجتهادي الذي كان بالوسع والقدرة، ربما لم أهبكم حرية، ربما لم أغير الواقع، لم أحرر الكون، ولكني حاولت، والمحاولة أفضل من اللاشيء، ربما بتنا أقرب إلى الحرية، بي وبمن سار على دربي، لا أعلم!
مضت أيامي يوماً بعد يوم، تفتيش يتكرر ثلاث مرات يوميا يهدف للتأكد من وجودي في مكاني، رغم أنه لا مفر من هذا المكان، والله لا مفر، فلا نافذة ولا باب، ولا موعد محدد لخروجي من هنا، أعد الأيام بانتظار فرج من رب العباد، فهو وحده الذي يسوق الفرج، ويهيء الأسباب.
| عزل فوق عزل
مضت أيامي كلها متشابهة، لا يختلف الحلو فيها عن المر، لا يختلف يوم العيد عن غيره، لا أعرف من جاء للدنيا ومن غادرها، امضِ أيها اليوم أرجوك، فأنت كغيرك لا تقدم لي شيئاً سوى أن تسرق مني لحظة أخرى، بل لحظات مما يسمى عمري! أنا الأسير، أنا الأسير الذي باع أيامه لأرضه فاشترت، أنا الذي يقال عنه ربح البيع، ربح البيع!
كل من أراد أن يقول: "أنا" أتبعها بجملة أعوذ بالله من كلمة أنا، إلا أنا، فيحق لي أن أقولها بملىء الفم، أنا الذي احتملت بعد الفراق عن أرضي، عن أمي وأبي، زوجتي، وأبنائي، عن أفراحهم وأتراحهم، حُرمت من حساب عدد الشعرات التي ابيضت في شعر أحبتي، وحرمت أن أعيش تجاعيد الزمان معهم، وأشهد ولادة المولود فيهم، وأودع من خطفه الموت منهم، فيمر العمر، وأنا لا أعلم!
قد كان البعد عن مؤنسيّ متحملاً، مستساغاً -حتى وقت قريب- بزيارة ولو كل فترة من الزمن، يجلب لي أهلي فيها مالاً أكل منه وأشرب ما هو متاح، حتى المتاح هنا لا يحتسب، سيء الطعم والرائحة علقم زقوم كجهنم والله، ولكننا اعتدنا القناعة!
كنا نلمس الزجاج في الزيارة، تحيط أعيننا أحبتنا، نلاحظ دوران الزمان على أجسادهم، وثبات أرواحهم التي ثبتت على ما تركناهم عليه، نضحك على دقائق الساعات في أيام غيابهم، فنقنعها بموعد الزيارة القادم، ونقول: "هانت اقترب الفرح، اقترب العيد، هكذا حتى نمتع أبصارنا بهم، ثم يذهبوا، ويتركوننا ورائهم، كما يترك أهل الموتى أحبتهم بعد الدفن، فالسجن قبر يُطحن فيه الرجال، ومع ذلك ننفض تراب قبورنا، ونعود لنضحك على دقائق الأيام ونزين لها القادم بانتظار موعد زيارة جديد.
ولكن منذ أشهر بدأ الحجر الصحي على كل الكرة الأرضية إلا نحن، فنحن في عزل منذ سنين، ومع ذلك أبى ذلك الحجر إلا أن يصلنا، فيزيدنا عزلاً فوق عزل، ظلمات زادت عتمة السجن علينا أضعافاً مضاعفة، غاب الأهل وغاب مدد المادة والروح معهم، لم أعد أدري كيف أضحك على دقائق الأيام..
ارتبكت قليلاً، ولكن كما سبق وقلت: أنا الأسير، أنا الذي أقع واقفاً، أنا الذي حولت محنة العزل منحة، وربطت حزام التضرع، وقلت: لا فكاك، تضرعت فوق التضرع، واضطررت فوق الاضطرار، حتى أنني من قوتي وصبري، وجلادة روحي وقلبي، قلت أن الله ساق "كورونا" في الكون كله لأجلي!
رأيت فيها فرجي وحريتي، قلت من أول يوم: جاء الفرج، شممت رائحته بين الخوف على صحتي وصحة أحبابي في الخارج، رأيته أمامي كما كنت أرى أحبتي من خلف زجاج الزيارة، ضحكت له كما أضحك عند استقبالهم كل مرة في الزيارة، لم أكترث لقلة المال ولا انعدام المدد، قلت لكورونا ربما أنت مدد الله لي، إني استبشرت بك خيراً، أنا الأسير الذي ضحى، أنا الأسير الذي استحمل، لا يضرني زيادة في الصبر، يتبعها فرج باذن الله.
صحيح أن سجاني قبيح الأفعال، لم يزودني بمعقمات ولا كمامة، ولم يفكر حتى أن يكون حريصاً في اتخاذ إجراءات السلامة إلا على نفسه، وصحيح أنه لم يحرك ساكناً في إعطائي أبسط حقوقي الصحية، إلا أنني أنا الأسير، أنا فوق الحجر الصحي، فوق المرض، فوق السجن وسنواته الطوال، فوق المحتل، أنا الأسير أنا الوحيد الذي لم يخف من الحجر الصحي، ولا العزل، فالعزل واقعي منذ سنين، أنا الأسير.. أنا الحرية.