بنفسج

بالصور: "آيا صوفيا".. كيف يكون الفضاء روحيا؟

الإثنين 05 يونيو

آيا صوفيا؛ آية الجمال ورمز السُلطة، والمعلم الإسلامي- المسيحي في آن، المكان الذي طوّعه الإنسان لرغبته وقوّله ما يريد فصيّره مسجدا ومتحفا وكنيسة- نصّره أو أسلمه أو حتى علمنه! معمار تاريخي شغل الإعلام وضجت من أجله وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، في نقاشات وحوارات لا تنتهي حول تحولاته الثقافية والسلطوية، واستعراض لأبرز محطاته التاريخية، وليُغيّب صوت المعمار في كل مرة وكأنه كتل اسمنتية مصمتة!

ب1.png
عدسة جميلة عابد 

غير أن المتأمل في دقيق تفاصيلها ومعمارها، جدرانها وبنيانها، نقوشها وتخطيط أبنيتها، سيدرك أنها ناطقة هي أيضا بحمولاتها التاريخية، وشاهدة على تحولاتها الثقافية والسياسية، التي أفضت بها لتكون قيمة أثرية من الماضي وخزانا للذاكرة ورمزا للتجربة الدينية على اختلاف سياسياتها.

| حديث الدين والعمارة

يستطيع المستقرء والمتمعن لشكل وتخطيط البناء بوصفه أكبر مبنى ديني للإمبراطورية البيزنطية، ومن ثم للإمبراطورية العثمانية -في فترة بداية استلام الحكم- أن يقف على التحولات والإضافات والترميمات التي شكلت نقطة لالتقاء الزمن والتاريخ والحضارات [ البيزنطية والإسلامية] وصنعت زوايا فريدة تشهد على رغبة واحدة مشتركة "القوة والسيطرة والدلالة".

ب2.png
عدسة جميلة عابد 

فلا يخفى على أي مستقرئ للتاريخ أو باحث في نظريات العمارة القديمة والحديثة حقيقة العلاقة التأصيلية بين الدين والعمارة، يُدلِل على ذلك كون أعظم الأعمال المعمارية عبر التاريخ هي مبانٍ دينية، بُنيت لتحاكي شعور الهيبة والقوة الإلهية، ورغبة البشر في التعبير بالمادة المحسوسة والملموسة عما يشعرون به تجاه إلههم وخالقهم، ويشهد على هذا الكاتدرائيات والكنائس والمساجد والمعابد حول العالم، والتي بقي بعضها إلى يومنا هذا قائما بآثاره القديمة كاستمرارية للعلاقة البشرية - المادية التي تمتد بما تصنعه أجسادنا في جميع أنحاء العالم.

| الفضاء روحي في المقام الأول

 

وهنا أودّ التطرق قليلا إلى الحديث عن الفراغ –بشكل عام-، فكيف يصبح الفضاء " روحيا" في المقام الأول؟ تعمد الكثير من المدارس المعمارية إلى القول بأنه ليس هناك شكلٌ أساسيّ لمساحات العبادة في معظم الأديان الرئيسية، على الرغم من أن صورتنا الذهنية لدور العبادة تتشكل مع مآذن الإسلامية والكاتدرائيات القوطية الكاثوليكية، إلا أن التاريخ يشهد على تحول العديد من الأماكن المقدسة - بسهولة نسبياً- من دين إلى آخر اعتمادًا على معايير السلطة ودستورها اللاهوتي. على سبيل المثال ، تم تجريد البانثيون (مبنى في روما كان في الأصل مبنيا كمعبد لجميع آلهة روما القديمة) من تماثيله من الآلهة الوثنية واستبدالها بالصور المسيحية بعد أن تم تحويله إلى كنيسة، بينما بقيت العمارة -فراغيا- في المجمل كما هي ولعبت نفس الدور وظيفيا. كما وتغيرت العديد من الأمثلة المعمارية والمباني من الكنائس إلى المساجد أو إلى معابد يهودية، وبالعكس.

 

ب6.png
عدسة جميلة عابد 

من وجهة نظري فإن السمات المعمارية التي تشترك فيها هذه المساحات الدينية والتي تجعل منها مكاناً "روحيا" بغض النظر عن الدين ترتبط بعدة عوامل: كالضوء والحجم والهيكل ونوع مواد الخام وقيمتها ولونها. فعند الوقوف على أيقونية الدين المنظِمة للمساحة نجد بأن التحكم في هذه العوامل هو الذي يعكس فكرة" الروحانية" ككل. فمثلا يلعب الضوء دوراً أساسيا في تشكيل الفراغ الديني –درامياً وعاطفيا وروحانيا- باعتباره الرمزي وبعده المقدس في كل الأديان السماوية التي تتفق على علاقته المباشرة بالكينونة الإلهية، فهو إما أن يشير إلى الله -أو بمعنى أدق يومئ إليه-، أو أن يجسد الخير والحقيقة بينما يجسد الظلام الشر والشّك.

تنعكس دلالة "النور" في العناصر المعمارية في الشبابيك والفتحات، توزيعها وحجمها وألوانها وكمية الضوء التي تعبر خلالها ضمن الفلسفة القائلة بأن حتى المساحة المخصصة للظلام يجب أن تحتوي على ما يكفي من الضوء للتدليل على ظلاميتها!

| الفضاء كممارسة سياسية

 

ب3.png
عدسة جميلة عابد

إلا أن تداخل السياسة بالضرورة مع الدين أثر على جانب آخر من العمارة وهو حجم المبنى وهيكله العام. فبالإضافة إلى أن حجم البناء وهيكله المتعاظم تاريخياً مرتبط بأفكار دينية تدلل على عظمة الإله، إلا أنه ارتبط أيضاً بأبعاد تُدلل على القوة السياسية كممارسة لامرئية لترسيخ الهيمنة الفكرية والخلفية الدينية للسلطة الحاكمة.

هذا التداخل في حالة آيا صوفيا أنتج مزيجاً مدهشاً وعميقاً من التفاصيل الداخلية للمبنى،وذلك بتداخل العناصر الأيقونية للدين المسيحي القائمة على التصوير والشكل والرسوم المجسِدة للمسيح سواء المنفذّة بالفسيفساء أو بالجصّ الملون "الفريسكو"، لتلتقي هذه التفاصيل مع مميزات العمارة الإسلامية التي تختلف في الموضوع والمفهوم، كون الفن الإسلامي ركّز على اللون والأشكال البلورية والتصميم الهندسي وفن الخط وعدم التجسيد على عكس الفن الغربي الذي اهتم بالشكل والصورة وأهمية أقل للون.

 

ب5.png
عدسة جميلة عابد

التمازج البديع في عمارة آيا صوفيا يظهر للزائر ما إن يعبر من البوابات الكبيرة، فبمجرد الدخول داخل الفناء الداخلي الواسع المغطى بالقبة الضخمة الشاهقة حتى يتسلل شعور الهيبة والعظمة لنفس الزائر، كيف لا وهذه القبة التي نافس بضخامتها الامبراطور جستنيان العالم حينما أمر بتأسيسها كتدليل على قوته وتفرّده في ذلك الزمان، لتُنقش عليها آية الكرسي بماء الذهب على أيدي الخطاطين العثمانين فيما بعد. ثم يسرح الزائر ما بين العناصر المعمارية والزخرفية البيزنطية، خاصة بعد إزالة طبقات الجص وظهور لوحات الفسيفساء والرسوم الجدارية البيزنطية، إلى جانب بعض زخارف تيجان الأعمدة التي بقيت على حالتها الأصلية. أما معالم الفن الإسلامي فيمكن مطالعتها في نماذج أعمال الخطاطين التي تنتشر بين أجزاء المبنى، ويلفت النظر بينها الكتابات الضخمة المنقوشة بألوان الذهب، والتي تضم لفظ الجلالة واسم الرسول الكريم “محمد صلى الله عليه وسلم”، وأسماء الخلفاء الراشدين.

 

ب4.png
عدسة جميلة عابد

بالإضافة إلى بلاطات من الخزف العثماني الحافلة بالزخارف النباتية المألوفة في الفن الإسلامي والعثماني ولا سيما رسوم زهور الزنبق والقرنفل، وعلى بعض هذه البلاطات كتابات بخط النسخ تحوي آيات من القرآن الكريم. أما المحراب الرخامي فتعلوه فتحة عقد المحراب الذي نقرأ في أعلاها “كلما دخل عليها زكريا المحراب” وهو اقتباس قرآني، و شريط كتابي به شهادة التوحيد “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وعلى جانبي حنية المحراب شمعدانان من الفضة.

لا شك بأن العالم الآن يحتوي على العديد من المعابد الضخمة التي ضاهت ونافست عملقة آيا صوفيا، فلم تعد البناء الأضخم في التاريخ، ولكن حتماً ستبقى من أكثر المباني التاريخية رمزية وفردية وهيبة. هذا المبنى الذي تعاقبت عليه الحضارات وكان شاهداً على العديد من التحولات المجتمعية، وانطوى في طبقات جدرانه التاريخ..أظنّ أن آيا صوفيا هي دليل صارخ على استخدام الإنسان التاريخي لرمزية البناء وعمق التفاصيل كأداة لتحقيق نشوة السيطرة وتذكرة الخلود في التاريخ.