بنفسج

"بدنا نروح ع العيد": عن الترويحة في المخيال الفلسطيني

الخميس 22 يونيو

لا تنفك ابنتي الصغيرة التي لم تبلغ السبع سنوات، عن طرح سؤالها المعتاد "متى بدنا نروح؟"، أسأل نفسي كثيرًا سؤال "الترويحة"، هل هي مرادفة فعل العودة، عودة المستقر، الوطن، لماذا تقولها فطريًا وهي المولودة في الأردن، مستقرًا ومعاشًا، وهي التي تزور فلسطين منذ صغرها مرتين كل عام!

وبطبيعة الحال وكما كل البلاد، الحدود مغلقة ولا مسير إلى هناك هذا العام، تشتاق ونشتاق إليه جميعًا، إلى كل الأماكن وتفاصيله الحميمة، وممارستنا التي نقوم بها فقط في ذلك المكان الذي نتماهى فيه ومعه، إلى أن السؤال الذي يخطر في بالي حقًا، كيف للفلسطيني اللاجئ، أو ذاك الذي وُلد وهُجّر، فلم تبق له ذاكرة من هناك، كيف له أن يرسم في ذهنه وطنًا، كيف يساوق بين الصورة، أو المشهد المحكي في ذاكرته، كيف لهذه المشهدية أن تستقر في وجدانه وروحه فتصبح وطنًا، كيف يمكن لها أن تتحول إلى مشاعر تجعله يحزن على جزئه في ذلك المكان، أو يفرح في روحه المنزوعة منه!

 | الترويحة

ن8.png
 

هل هذا السؤال الذي خطر في بال رضوى عاشور عندما كتبت روايتها "الطنطورية"، فقالت: "ذاكرةُ الفقدِ كلابٌ مسعورةٌ تنهشُ بلا رحمةٍ لو أُطلقتْ من عقالِها". يا إلهي! كيف تستطيع وصفًا كهذا، وهل الفقد أمر مرير لو كان المفقود ذاكرة؟ ما الذي ستتذكره من وطن مطرود منه، أو لم تولد فيه؟

ما هي ألوانه في ذهنك، بحر يافا، وجبال نابلس، وخضرة مرج ابن عامر، مزارع أبي الجميلة، أغنامه وأحصنته، الدجاجات التي تنقر المحصول كل عام! أستطيع أن أخبئ كل ذلك في ذهني، تستطيع ابنتي كذلك! "كيف احتملنا وعشنا وانزلقتْ شربةُ الماء من الحلق دون أن نشرق بها ونختنق؟ وما جدوى استحضار ما تحمَّلناهُ وإعادته بالكلام؟ عند موتِ من نحبُّ نكفِّنُهُ، نلفُّهُ برحمةٍ ونحفرُ في الأرض عميقًا".

هل يلفون أولئك الوعي والصورة ويشكلون بها ذاتهم، يحافظون بها على كيانيتهم مهما حلوا وارتحلوا، وقد استحضرني ما كتبه صديق من أبناء المنفى الثاني عندما زار يافا لأول مرة في حياته، "... لكن كي يفقد الفلسطيني شيئاً ما، فإن عليه أن يمتلكه في الأساس قبل لحظة فقدانه. صحيح أن الاحتلال هدم كل ما ملكه الفلسطينيون، وأخرجهم من خارج التاريخ، "عراة"، بلا لون، غير قادرين على الكتابة والقراءة والتلوين، إلّا إن العودة هي بشكل ما امتلاك الحق في اللون و التأويل، وعليه، فإن فقدان اللون ليس إلّا أثراً للاحتلال، والعودة كفيلة باستعادته واستعادة الحق فيه. الاحتلال عدو للون التأويل والمجاز، في خيال الفلسطيني وإدراكه وحتى بلاغته".

كنت وابنتي نود قضاء العيد في هذه "الترويحة" إذ أن ألوانه هناك تبدو مفعمة حية زاهية، تتزين بها طقوس عهدناها، لا أعرف كيف تكون مخيال الفلسطيني الذي لم يرها حقيقة، لم يعشها، لم يأنس بأعيادها، "كلنا يعرف الانتظار، أن تنتظر ساعة، يومًا أو يومين، شهرًا أو سنة وربما سنوات.

يدفعنا ذلك إلى البحث عن أشكال مجازية للعودة تعيد لنا أجزاء الذاكرة المفقود، ما نلفه عبر سنوات في محارم الوجدان. ما جعلني أكتب ربما، ابنتي التي تستشعر أن "الترويحة" في توقفها المؤقت، في لحظة عالمية ما، تصبح هاجسًا لها، سببًا مقلقًا يجعلها تسمي الزيارة السنوية "ترويحة"، فما ما بال "الترويحة" المتوقفة في ذات الفلسطيني المهجر قسرًا، ليس بسبب جائحة عالمية سببها فايروس، وإنما بسبب جانحة احتلالية تكرس وجودها كل يوم، في مظاهر استعمارية إحلاليه تتمظهر في التمدد والتوغل، في الحاجز والجدار، في محاولة ردم الذاكرة، وتلوين الذات حقيقة ومجازًا.

كنت وابنتي نود قضاء العيد في هذه "الترويحة" إذ أن ألوانه هناك تبدو مفعمة حية زاهية، تتزين بها طقوس عهدناها، لا أعرف كيف تكون مخيال الفلسطيني الذي لم يرها حقيقة، لم يعشها، لم يأنس بأعيادها، "كلنا يعرف الانتظار، أن تنتظر ساعة، يومًا أو يومين، شهرًا أو سنة وربما سنوات. تقول طالت، ولكنك تنتظر، كم يمكن أن ننتظر؟".

"ثم ينور اللوز، كأنه يفتح الطريق ويسمح، يتبعه نوار المشمش، ومن بعده تجن الأشجار وهي تندفع إلى المنافسة، أزهارها في الأول، ثم بشائر الثمار، فنعرف أن نيسان قد ثبت قدميه في الأرض، وأن أيار يتبعه ليسوي القمح في البيادر والفاكهة على الشجر".