قمتُ كثيرا جدا بتأجيل الكتابة عن مرحلة ما بعد التخرج، أردت أن أكتب عنها بإنصاف دون إغراق عاطفي، أردت أن أكتب عنها بشكل واقعي وإدراك واعٍ للمشاعر التي نعيشها، والحقائق التي ما إن نتخرج حتى تتعرى من غطاء لعالمٍ وردي رسمناه في مخيلتنا. يُمضي كثير منا حياته الجامعية راكضاً من محاضرة إلى أخرى ومن كِلّية إلى أخرى وإن كان ذو وعي وحظ وافر يقضي أوقات فراغه الجامعية في النشاطات التطوعية والطلابية والمجتمعية، ببساطة يصبح غالب ما نراه من الحياةِ محصورًا داخل أسوار الجامعة، ندخل محاضراتنا، نندمج مع الشرح والتوضيح، نغوص مع الأستاذ في تفاصيل التخصص، تتحفز الأسئلة ويتحفز المنطق فننطلق سائلين ومناقشين ومعارضين لفكرةٍ ومؤيدينَ لأخرى، نُلاحظ إبداعاً لدينا ويُلاحظه مُدرس المساق.
بعضهم يثني علينا قائلاً لنا أن شيئاً عظيماً يمكن أن يخرج من بين أيدينا، وبعضهم قد يزجرنا متهماً إيانا بتضييع وقت المحاضرة، وبعضهم يقف عاجزاً متعجباً أمام أسئلتنا المنطقية التي لم يفكر بها حتى وهو حائز على درجة البروفيسور والباحث! فيمدحنا على استحياء... نقتنعُ حينها بفكرةِ أننا شبابٌ يمكن لنا أن نغير من واقع أمتنا العلميّ والعمليّ وأننا سنجدُ من يحتضن أفكارنا الإبداعية فور بوحنا بها! فيُحيلها واقعاً يتقدم بأمتنا!
ثم ترانا ننطلق نحو الأنشطةِ التطوعية فنكتسب مهارة العمل الجماعي ونصقل شخصياتنا اجتماعياً، تزداد ثقتنا بأنفسنا ونشعرُ أننا أفرادٌ فاعلون في المجتمع، نتعرف إلى مفاهيم تحفز شعورنا وترتفع بهممنا إلى أعالي السماء! ثم تمضي الأيام سريعاً، نناقش مشاريع تخرجنا ونحظى بثناء منقطع النظير من لجنة التقييم المشرفة على المشاريع، نصبح على عتبة التخرج، نمُرُّ على كل شيءٍ وكأننا نودعه، وما تلبث تلك اللحظة حتى تحين سريعاً بشكل لا نتوقعه!
| صدمة العالم الباهت
نأخذ شهادات تخرجنا باليُمنى جذلين فرحين، ثم تفتح لنا الحياة أبوابها على عالمٍ لا نعرف عنه شيئاً أو بالأحرى عن عالمٍ رسمناه في مخيلاتنا بشكل وردي جاهلين حقيقته تماماً!
بعد كل ذلك الصخب وبعد كل تلك المعنويات التي تناطح عنان السماء وبعد كل ذلك الوقت المُستغل المكتنِز، يواجهنا خلف ذلك الباب صمتٌ قاتل وفراغٌ سحيق وعالمٌ باهتٌ خالٍ من كل شعورٍ بالرحمة! نصطدم بصخرة أو جدار شاهق يُسمّى المجتمع بشرائحه الحقيقية ونفسياتٍ وطُرُزٍ من شخصيات كاريزمية لم نسمع عنها أو نتوقعها.
نأخذ شهادات تخرجنا باليُمنى جذلين فرحين، ثم تفتح لنا الحياة أبوابها على عالمٍ لا نعرف عنه شيئاً أو بالأحرى عن عالمٍ رسمناه في مخيلاتنا بشكل وردي جاهلين حقيقته تماماً! بعد كل ذلك الصخب وبعد كل تلك المعنويات التي تناطح عنان السماء وبعد كل ذلك الوقت المُستغل المكتنِز، يواجهنا خلف ذلك الباب صمتٌ قاتل وفراغٌ سحيق وعالمٌ باهتٌ خالٍ من كل شعورٍ بالرحمة!
نصطدم بصخرة أو جدار شاهق يُسمّى المجتمع بشرائحه الحقيقية ونفسياتٍ وطُرُزٍ من شخصيات كاريزمية لم نسمع عنها أو نتوقعها، هنا نُدرك تمام الإدراك أننا مُجرد طيورٍ صغيرة غضّة فقست من البيضة حديثاً وأننا لم نتعلم الطيران بعد أو لعلنا نجد أنفسنا ظباءً هزيلة وُلدت للتو، في كلتا الحالتين نحن أمام خيارين، أن نواجه عالماً قاسياً مليئا بالمفترسين، أو نستسلم لضعفنا وبذا نحكم على أنفسنا بالموت بلا شك، فلا بقاء إلا للأقوى في عالمٍ بات يشبه الغاب. بعد التخرج سنقف عاجزين بادىء الأمر أمام فجوة كبيرة أشبه بالثقب الأسود، سنجد فجوة في كل ما يربطنا بالعالم!، أنفسنا عائلاتنا، مجتمعنا، أوقاتنا ولحظاتنا.
قد يشعر البعض أنه يتعرف على عائلته لأول مرة، ليس غريباً بحكم أن جُل وقتنا كان ينقضي ونحن في جامعاتنا بين دهاليز المختبرات متأخرة المواعيد أو المحاضرات المتأخرة، قد تشعر باختلاف كبير بين أفكارك وأفكارهم وبين كل ما كونت حوله اعتقاداً خلال دراستك الجامعية، قد تتصادمُ معهم في كثيرٍ من الأشياء وهذا طبيعي لأنك ستعرفهم عن قربٍ أكثر وستقضي معهم كل وقتك بينما كنت سابقاً لا تقضي معهم ما لا يتجاوز الأربع ساعات يومياً وإن كنتَ مُقيماً في سكنٍ جامعي فأنت قد تقضي معهم ما معدله يومين تقريباً أسبوعياً إن كنت تعود بشكل منتظم إلى البيت طبعاً! القربُ المفاجىء بعد البعد الشاسع الطويل لا بُد أن يبني لك جداراً جميلاً وقوياً لتصدم به عندما تقترب! لكن ستتغير نظرتك هذه لاحقاً.
سنجدُ فجوةً أخرى تكونُ محورها عقارب الساعة التي تتحول إلى سلحفاةٍ بطيئة لا تُحسنُ السير، قد تمضي أيامنا الأولى بعد التخرج بشكل قاحلٍ ممل خالٍ من أي إنجاز بعد كل ذلك الصخب الذي اعتدنا عليه في حياتنا الجامعية. ولعلك ستصطدم أيضاً بمجتمع لم تألفه وأنت طالبٌ جامعي، ستجد فيه الصالح والطالح وصاحب المصلحة وشخصيات ذات عقد نفسية وعقليات مريضة بشكلٍ أكبر بكثير جداً مما رأيته أو اختبرته في الجامعة، ولن يكون من السهل أول الأمر أن تتعامل معهم حتى تجتاز تلك الفجوة.
تلك الفجوة التي قد لا تستطيع عُبورها دون اكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة! مرحلةٌ قاسيةٌ بكل ما للكلمة ٍ من معنى لكنها لك كالفرنُ للخُبز وكالاحتراق للعود وكالمعركة التي يخوضها أي طائر حتى يتعلم الطيران وحده، فيها حزنٌ واحتراق وفقدان شغف وإضاعة للهدف وعدمُ وضوحٍ في الرؤية؛ لكنك إن كنتَ ربَّاناً جيداً لسفينة نفسك ستخرج منها بشكل تُذهل نفسك فيه، بإمكانك القول أنك ستخرج وقد وضعت أساساً لحياتك القادمة بأسرها، فأَحسِنِ البناء لتُحسن العيش والحياة.
وكما يقول ابن القيم : "تجرع الصبر فإن قتلك؛ قتلك شهيدًا، وإن أحياك؛ أحياك عزيزًا" ، نعم لن تخرج من فجوتك إلا بالصبر وحُسن سُبور أغوار نفسك، حين تدخل فجوتك اجعل منها صومعة لك تعتكف داخلها، تتعرف إلى نفسك أولاً وتتصالح مع ذاتك وتحدد أولوياتك في حياتك، لكن اعلم أن ثمن معرفة النفس احتراقٌ وَوُجوم وهو حزنُ يُسكتُ صاحبه!
لا تفقد نفسك إلى هذا الحد يا صديقي، لا تستسلم للفقدان وعليك بالإلفاء، تمالك نفسك!
صدقني ما أسوأ أن تفقد نفسك، تراها عن بعد متسمرة مكانها، قدماك مثقلتان، مليئتان بالأشواك! ترى خط الوصول لكنك لا تقوى على الحراك بما تبقى من رماد قلبك وأشلائه! لا تفقد نفسك إلى هذا الحد يا صديقي، لا تستسلم للفقدان وعليك بالإلفاء، تمالك نفسك! تحامل! في صومعتك قد تشعر بفقد أو شوق شديد لكل شيء وكل شخص وكل زاوية عرفتها في حياتك الجامعية، لكن عليك أن تقبل حقيقة أن الحياة تسير وأننا لا نبقى في أماكننا طول الحياة.
كن منطقياً واقعياً يا صديقي، فجوتك تلك تنتهي فقط بتصالحك مع ذاتك وحسن قيادة سفينة نفسك وسط كل هذه الأمواج المتلاطمة، سنصل إلى درجة من النضج نكون فيها قادرين على نفض الحزن عن محيانا بشكل قياسي تاركين عقولنا الباطنة تحتضن ركننا الجريح ذو الأنين، فترانا نعوده بين الحين والآخر نضيف إليه جديدًا من معاني الحزن آخذين معنا مفاتيح حكمة وبصيرة يقل نظيرهما.
إننا سنصمد حتى يتغير شيء في هذه الأمة، لا بد أن يتغير شيء وإلا فقدنا حقنا في الوجود.
أن نتحكم بذهابنا وإيابنا وتقلبنا بين الحزن والحبور فهذا يعني أننا احترفنا الغوص بين لجج أنفسنا ووصلنا لتصالحٍ مع الذات ليس بهيّن، ولذلك ثمن لا يكون إلا بسبق الاكتواء بالجمر، لكننا نصل هذا في مرحلة من المراحل! وحين نكتب حروفاً بنكهة الحزن لا يعني أننا نمر بحزن الآن بل يعني أننا أصبحنا نتقن الكتابة عن ركن من أركان النفس البشرية عطّرناه بطابعنا الخاص حين حزنّا يوماً فصرنا نزوره أحياناً ونعتكف في دهاليزه أحياناً أخرى حين تمسنا لوعةٌ أو فقدٌ أو حزن، ثم حين نعيشه ونتقبله نخرج من تلك الحالات بكبسةِ زرٍ نقرر نحن أن نضغطها أنّا شئنا زمانا أو مكانا.
إن أعظم عمل تقوم به في حق نفسك أن تفهمها وتعرف دهاليزها وتقلباتها عند الشعور واستراتيجياتها في استعادة ذاتك حين التيه، حين تتقن التناغم مع ذاتك ستكون سابراً لأغوار نفسك تترك روحك أنّى شئت لتسبح في أي مكان تريد وفي أي قلب تشاء. لا أنفَكُّ أتذكرُ قولَ أحدهم: "لا ،لست يائسًا.. قال ابن خلدون ولعله محق، أننا نعيش زمن اضمحلال، ولكن إذا لم يعمل المرء شيئا في مثل هذا الزمن، ففي أي زمن سيعمل؟ سألت كم سنصمد! وأقول لك: إننا سنصمد حتى يتغير شيء في هذه الأمة، لا بد أن يتغير شيء وإلا فقدنا حقنا في الوجود."
إذا يا صاح لا بقاء لك طويلاً في تلك الفجوة، مجبرٌ أنت على الخروج إن رأيت في نفسك أنك تحمل هم أمة، فاحفظ عليك نفسك وتعلم قواعد الحياة خارج أسوار الجامعات والتي ستكون ذات مقارعةٍ وحرب كرٍّ وفرّ. وَأَمَّا فِي فُنونِ مُقَارَعةِ الجَوى وَالاغتِمَامِ فَلنَا صَولاتٌ وَجَولَات وِإنَّا لَظَفِرُون... وَإنَّ أَروَاحَنا لمُنبعِثةٌ بَعدَ رُقَاد.