بنفسج

وداد بهلول: ماذا يعني الاشتباك من مسافة صفر؟

الجمعة 03 مارس

ربما يكون فعل الشهادة هو الفعل الأكثر بلاغة، لا منطق بعده، ولا قول ولا نسخ ولا تعليق فيه. الشهادة انتقاء واصطفاء واختصاص، ارتفاع للأرواح في أجسادها الطهارة، في دمائها الزكية دومًا. خلود وإن كان فيها موت، إحياء مستمر في الذهاب، نور منبثق لا يخفت، يحقق فينا أملًا، وفعلًا حقيقيًا في جدوى مستمرة، توالدات عضوية تنمو في سياقات دائمة التحقق.

تقرّب من الحقيقة في كل ممكناتها، ابتعاث لحياة في قاب قوسين أو أدنى من الهاوية، لكنها باقية فينا كسبيل أصعب، لكنه الأبقى. إنه أصعب في فعل المغادرة، لأن المشتبك فيها، إنسان حقيقي، له عائلة وأقارب وأصدقاء، ومحيط بيئي واجتماعي لا ينفصل عنه، قصصه في كل هؤلاء، وقصصهم فيه كذلك، صوره وصورهم لا تبرح خزان الذاكرة! بل إن سردية الشهيد هي الجزء الأهم من الحكاية الوطنية الفلسطينية، ما بقي لنا لنحافظ عليه! شهيدنا مشتبك في هذه المروية، فإن حصل وهُجرنا لمرة ثالثة، فهي التي ستبقى ثابتة.

| أصل الحكاية

انفو-الموقع (1).jpg
 

ماذا عن قصتك يا وداد؟ سرديتك أبقى وأبهى! مرويتك ضاربة جذورها في عمق الأرض، لن تنتهي، لن تزول! لماذا تصرين على الرحيل في كل اشتباكاتك الإنسانية هذه. تصرين على القتال رغم نمو طفل في أحشائك، رغم أنك تتزوجين بالأساس، تبنين قصة إنسانية علائقية، وي! إن لهذا من التركيب لما يصعب على العقل استيعابه. ومن ثم تنجبين، تحملينه على ذراعيك، تبتسمين له وسط المعركة، ومن ثم تختارين الفعل الأصعب دائمًا!

هاجرت عائلة وداد عام النكبة من قرية طيرة حيفا، خوفًا من بطش عصابات الهاجاناه التي قامت بقصف القرية بالطيران، عقابًا لها على المقاومة الباسلة التي أبداها أهالي القرية التي لم تسقط إلا في شهر تموز/ يوليو، في حين سقطت حيفا في 16/4/1948، علمًا بأن الطيرة، سُميت طيرة حيفا لقربها الشديد من المدينة حيث تقع على أسفل سفوح الكرمل الجنوبية.

استقرت عائلة الشهيدة وداد في مخيم الرمل قرب اللاذقية، وهناك ولدت وداد في بداية الخمسينات. ترعرعت وداد مع أمها، إذ استشهد والدها وثلاثة أخوة لها في معركة الكرامة بالأردن، مع قوات الثورة الفلسطينية؛ حيث التحق والدها وأخوتها الثلاثة بحركة فتح مبكرًا في منطقة الأغوار الجنوبية للأردن، وشاركوا في معركة الكرامة في 21/3/1968، وعندما انجلى غبارها كان الأربعة؛ الوالد واولاده الثلاثة في قائمة الشهداء.

التحقت وداد بمدرسة الوكالة، وكان اسمها مدرسة بلد الشيخ نسبة إلى القرية الشهيرة، والتي تضم اليوم رفات المناضل الشيخ عز الدين القسام؛ وهي مدرسة تابعة لوكالة الأونروا، ثم أكملت دراستها في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية، وحصلت على دبلوم في اللغة الإنجليزية في عام 1981.

| مناضلة من الدرجة الأولى

معركة خلدة1.jpg
معركة خلدة

أحبت شابًا من مخيمها وتزوجته في عام 1981، وما كادت تصل إلى نهاية حملها الأول حتى حوصرت بيروت في عام 1982، وبدأت المعارك بين قوات الثورة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، وحينها، كان النفير العام في جميع مخيمات الشتات للالتحاق بصفوف الفدائيين، توجهت وداد إلى مكتب حركة فتح في المخيم، وطلبت الالتحاق بصفوف الفدائيين، فجاء الرفض التام بسبب حملها بالشهر الثامن.

ذهبت إلى دمشق، وبالتحديد إلى مخيم اليرموك، نحو مكتب حركة فتح، وطلبت منهم الالتحاق، فكان الرفض من جديد، فما كان منها إلا وأن دخلت لبنان تهريبًا، وهناك، وضعت معسكر الفدائيين - في منطقة البقاع اللبناني - تحت الأمر الواقع بالتحاقها معهم، والتحقت بمحور خلدة الذي كان تحت قيادة الشهيد البطل عبد الله صيام. 

استشهدت وداد وذهب معها الطاقم كاملًا، وتفجرت ذخيرة الدبابة. طفلتها قد كبرت الآن واسمها فلسطين، وتسكن الآن في مدينة أرهوس الدنماركية.

خاضت وداد معركة خلدة الشهيرة، والتي كتب حولها الكثير خاصة من قِبل كتاب إسرائيليين، لكثرة الخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي فيها، حين قام الشهيد عبد الله صيام بتمويه الحفر في الرمال بشكل ممتاز، وربض فيها شباب الـ "آر بي جي"، وما إن أصبح رتل الدبابات في منتصف المنطقة، حتى باشر الشباب بإزاحة السواتر التي كانت تخفيهم، وأمطروا الدبابات بقذائف مضادات الدروع، وكانت المسافة لا تزيد عن عدة أمتار، ما أفقد الرشاشات الثقيلة العمل، لأن ميل الزاوية كان ضيقًا بسبب قرب المسافة. وقد وثقت المعركة من الجانب الإسرائيلي بكتاب من جزئين.

التحقت مع الفدائيين على الجبهات الجنوبية، خضعت الشهيدة لدورة قصيرة. وفي إحدى المعارك، وبالتحديد، معركة محور خلدة، جاءها المخاض، وكانت وقتها بقرب عبد الله صيام، فما كان منه إلا أن ساعدها على الولادة، وأوصلها إلى الخطوط الخلفية من المعركة، وحين وصلت، رفضت المكوث، وأصرت على العودة إلى المعركة، وتركت طفلتها مع الهلال الأحمر الفلسطيني، بعد تهديدها لهم بقتل نفسها إن لم يدعوها تعود للمعركة.

وفعلًا، عادت إلى المعركة، ووجدت عبد الله صيام قائد كتيبة جيش التحرير الفلسطيني قد استشهد، وكانت الدبابات تقترب من الموقع كثيرًا، فتسلحت بثلاث قنابل يدوية -المطرقة أو المدقة كما تسمى عند الفصائل الفلسطينية- وقفزت نحو دبابة قريبة من مطار بيروت، بعد فتح غطاء الدبابة وإسقاط نفسها بالداخل، ففجرت الدبابة بمن فيها. استشهدت وداد، وذهب معها الطاقم كاملًا، وتفجرت ذخيرة الدبابة. طفلة وداد كبرت الآن، واسمها فلسطين، وتسكن الآن في مدينة أرهوس الدنماركية.