بنفسج

التسلط الأبوي: عن خضوع الأبناء لمعتقدات الآباء

الأربعاء 04 نوفمبر

تتعدد مجموعة التحديات التي تواجه الآباء في العملية التربوية، من بينها نقل وتمرير المسلمات والمفاهيم والقيم[1] التي حَملوها أو حُمّلوها على مدار مراحل وسنوات حياتهم. هذا المسعى الذاتي الذي يقوم به الأهل من واقع مسوؤليتهم التربوية تجاه الأبناء، يبدو منطقيا ومستحسنا، لا يلقى وجه معارضة أو انقطاع، ولا يوضع له الحدود ولا يرسم على تخومه قواعد وقوانين واضحة ومحددة، فلا أحد مثلا يستطيع أن يقول لأب: "ليس مسموحا لك أن تربّي طفلك على مبدأ معيّن، أو قضية وأيديولوجية ما".

قضايا 1.png

يرى غالبية الآباء أن امتلاكهم للحاضنة البيولوجية والاجتماعية، كفيلة بمنحهم كل التسهيلات غير المشروطة لتنشئة أطفالهم على المعتقدات والقضايا التي يؤمنون بها؛ لربما هي الأفضل والأنسب والأكثر نقاءً من وجهة نظرهم. وفي العادة تتصل محاولات الزرع والترسيخ في هيئة ممارسات تحمل وجها من التسلط التربوي والعنف الرمزي[2]، الذي لا يمكن تفسيره وفهمه في غالبية الأسر العربية تحديدا، والتي يُفرض فيها أنماط من القيم والمعتقدات التي يتوجب على الأبناء اعتناقها؛ لتصبح العملية التربوية جزءا من منظومة يمارس فيها الترويض والقهر لا التحرير[3]، فبدل أن تتعهد التربية الأبناء وتأخذ بأيديهم إلى صورتهم الإنسانية، ما يحصل هو فقدان قدرتهم في التعرف على جوهرهم الإنساني الذي يبحثون عنه[4].

| الحداثة التربوية: ربّوا أطفالكم لزمانكم

قضايا 2.jpg

 تربية الأبناء على اعتناق القضايا وترسيخها في اللاوعي، وتمظهرها لاحقا في سلوكيات عيانية، يشكل أمرا "مرعبا" في حقيقته، وفي كثير من الأحيان لا يمكن التنصل منه. فالعديد من القضايا فقدت قدسيتها وسلامتها الموضوعية ويجري ذلك على القيم والمعتقدات أيضا؛ بسبب العيش تحت مظلة "الحداثة" وتأثيرها على المستوى الفردي والجمعي.

المهم في هذا الطرح، هل الآباء يأخذون متغيّر الحداثة وتجلياته بعين الاعتبار عند تربية الأبناء، هل هناك محاولات لإدراج "الحداثة التربوية" على سبيل المثال في التنشئة الاجتماعية؟ وإن شئنا أن نستحضر مقولة علي رضي الله عنه:"لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، فكيف يمكن فهمها وتحليلها في هذا السياق؟

ما قامت به الحداثة، هو دفع الإنسان نحو تغيير مواقفه من الحياة، وإحداث تحولات جوهرية عميقة في بنية التصورات السائدة في عالمه ومجتمعه، بالارتكاز على فكرتين أساسيتين: الثورة ضد التقاليد ومركزية العقل والتي تنطلق على عجلة؛ الفردانية والعقلانية والنزعة العلمية والقيم الديموقراطية، في خطوة نحو الرفاه والسيطرة وتحقيق الطموحات الإنسانية[5].

عالم الاجتماع التربوي علي وطفة، يجد أن "الحداثة التربوية" ترمي في جوهرها لاستخدام الأسس التي تقوم عليها الحداثة ولكن في العملية التربوية، من خلال تنمية عقلية علمية ديمقراطية في الأبناء، تعتمد على مبدأ الابتكار ومخاطبة العقل وليست الذاكرة، وتنمية حواسهم بالتركيز على الإنسان الكامن فيهم. وهذا النوع من التربية يقوم على تحرير الابن من حصار الأوهام والخرافات والقيم الساكنة التي ورثها من عالم التقاليد، لتنقله إلى عالم ينضح بالعقلانية والتصورات العلمية[6].

وأمام هذه التحولات العميقة التي نشهدها، هل إخضاع الأبناء للقيم والمعتقدات التي يؤمن بها الآباء أمرا مشروعاً؟ وهل تغيير تصورات الأبناء ورؤيتهم للأشياء يكون عبر العقلية التقليدية؟ أم لا بد أن تؤخذ أسس الحداثة بعين الاعتبار لتشكيل عقلية حداثية أو علمية، ترتكز على التنوير والإبداع وإعادة النظر في التصورات والمقدسات؟

الاستعانة بالحداثة كمتغيّر مُلحّ في التنشئة الاجتماعية هو في حقيقته "رهان تربوي" على حد تعبير العالم وطفة؛ فلا يمكن لأي حداثة أن تتحقق خارج السياق التربوي في المجتمع[7]. ومن أجل التمييز بين معطيات التقليد والحداثة يمكن أن نستعرض هذا الجدول.

منوع-11.jpg

الحداثة التربوية، تتطلب من الآباء أن يعيدوا النظر في القضايا التي يمررونها لأبنائهم، لأنه ستأتي هذه اللحظة التي يجدون فيها أنهم بحاجة لتفكيك وتعييب كل ما وقع في حقيبتهم الفكرية، عدا عن كونهم سيحاصَرون بسلسلة من الأسئلة – الصغيرة الكبيرة- التي ستسبب إرباكًا والديّا في علاقتهم مع الأبناء. وستكون مصدر قلق وإحراج، يهزّ شيئا من "عملقة" الأفكار التي يبدو مشهد انتهائها أيسرًا من حبكة بداياتها في هذا العالم السائل؛ وهنا نتحدث تحديدًا عن قضايا مثل: الانتماء لحزب أو جماعة أو اعتناق فكرة دينية أو مجتمعية. فالتربية العربية ساهمت للأسف في تكريس العقلية التقليدية عبر قيم التسلط والجمود، تراجعت أمامها العقلية العلمية في مختلف حقول الوجود الإنساني[9].

| الحب الأمومي والتسلط الأبوي

قضايا3.png

الأخصائي النفسي د. غاستون ميالاريت[10] يبين أنه لا يمكن الحديث عن فعل تربوي من غير "سلطة" معترف بها، فالمربي فعليًا يمارس سلطة على المتربي وهنا نقصد الابن تحديدا، وإن كانت بأشكال وأدوات تختلف تباعا لشخصية كل منهما[11]. وبهذا تمنح السلطة الحق والقدرة للمربي على التحكم، واتخاذ الأوامر، وإخضاع الآخرين[12]؛ لتتمظهر هذه السلطة تدريجيًا في هيئة "عنف تربوي" يمارس في سياقات وظروف يخضع لها المتربي إما بصورة رمزية أو مادية – فيزيائية-. وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع بيير بورديو، أن النشاط التربوي في أساسه يقوم ضمنيًا على العنف الرمزي، لكونه يتجسد من خلال قوة تُفرض من قبل الأب أو الأم أو جهة أخرى[13].

في هذا الإطار، مما جاء في تعبير المفكر مصطفى حجازي[14]، فإن الطفل العربي يعيش في عالم العنف المفروض داخل الأسرة، والذي يعكس سلطة أبوية يصعب الفكاك منها، لذا نلحظ أن الطفل يعيش بين إكراهات الحب الأمومي والقسر الأبوي. فالأم تفرض هيمنتها العاطفية على أطفالها، وتقلل كل إمكانيات استقلالهم، وتحيطهم بعالم من الخرافات والغيبيات والمخاوف، فينشأ الطفل انفعالي يكون عاجزا عن التصدي للواقع عبر الحس النقدي والتفكير العقلاني[15] للقضايا والمتغيرات الاجتماعية.

فيما أن القسر الأبوي، يقوم على قهر الأبناء ووأد الرأي وإشعال فتيلة التعصب الأيديولوجي، وبهذا تساهم الأسرة في غرس قيم تسلطية تجعل الابن متصارعا مع ذاته ومتأشكلا معها[16]. ويظهر ذلك في محاولات نزوعه الدائم للانفصال "القهري" عن هذه السلطة والتحلل منها، أو ينتهي بالانصياع والاستسلام. وفي كلا المشهدين هناك عمليات تُجرى على إعادة تشكيل سيكولوجيته بصورة تجعله غريبًا ومغتربًا عن أسرته ومجتمعه.

لعلّ الحديث عن السمة التسلطية السائدة في العائلات العربية، أمرًا هامًا لإدراك الصورة التي يتم فيها ربط الأبناء بالقضايا المجتمعية أو المصيرية. ولتوجيه فهمنا في هذا المسعى نطرح سؤالًا: هل يساهم "التسلط التربوي" في ارتباط الأبناء بالقضايا التي تمرر لهم عبر هذه السلطة؟ وهل يساهم هذا التسلط في استدعاء الأبناء لقضايا مغايرة تعزز انتماءهم وارتباطهم فيها، فتصبح جزءا من محمولاتهم الفكرية الجديدة؟

باختصار، "لا يمكن أنت ندفع الطفل خارج عشه لكي يفرد جناحه ويطير، إلا عبر بوابة الإحساس بالأمن والتحرر من القلق والكبت والإحباط، والتي تكون غالًبا ناتجة عن الإفراط في استخدام السلطة الأبوية"[17].

لا يمكن للأبناء اختيار القضايا التي تعبر عن ذواتهم ورؤيتهم للأشياء، فدوما يجدون ذواتهم خاضعين لمجموعة من الإكراهات الفكرية، تذوي بهم بعيدًا عن الحس النقدي والعقلاني، فبدل أن تمنح هذه المعتقدات الحرية المرغوبة، تبقى تكبّل الأبناء وتأخذهم في دوامة وصراع غير متناهٍ.

التسلط التربوي الذي يقتات على السلطة الأبوية، يساهم بشكل أو بآخر في تزييف الواقع، وتشويه الوعي، وقتل الروح النقدية، فالطاعة التي يأتي بها التسلط تعمل شل الإبداع، وتحرم الفكر من أن يكون ناقدا[18]، وبهذا فإن الكثير من القضايا تفرض قداستها تحت مظلة هذه السلطة، ويصبح تجاوزها أو التخلي عنها أمرا مرفوضا وغير متاح.

وفي هذه الحالة، لا يمكن للأبناء اختيار القضايا التي تعبر عن ذواتهم ورؤيتهم للأشياء، فدوما يجدون ذواتهم خاضعين لمجموعة من الإكراهات الفكرية، تذوي بهم بعيدًا عن الحس النقدي والعقلاني، فبدل أن تمنح هذه المعتقدات الحرية المرغوبة، تبقى تكبّل الأبناء وتأخذهم في دوامة وصراع غير متناهٍ، فاترين، غير قادرين على المقارعة والنقاش.

وبهذا ينشأ الابن كامتداد للراشد ومتنفس لعقده على حد تعبير وطفة، عليه أن يرضى غرور الراشد باعتناق قضاياه، وبهذا يعيش في حالة استلاب مزودج، فهو عليه أن يكيّف ذاته مع القضايا والأفكار التي تروجها السلطة الأبوية، ومستلب لكون القضايا المعتنقَة غير عقلانية ولا منطقية[19].

في الجزء الثاني سنتحدث وسنطرح تساؤل كيف يتمسك أطفالنا بالقضايا في زمن السيولة؟

 


المراجع:

[1] القيم: أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية، يتشربها الفرد ويحكم بها، وتحدد مجال تفكيره وسلوكه وتؤثر في تعلمه، كالصدق و الأمانة وغيرها

[2] عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة، أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات

[3] بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، أ.د علي أسعد وطفة

[4] أصول التربية: إضاءات نقدية معاصرة، أ.د علي أسعد وطفة

[5] التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي (39)

[6] المرجع السابق

[7] المرجع السابق

[8]بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق

[9] التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي، مرجه سابق

[10] معلم فرنسي، أستاذ في جامعة كاين، ساهم في تأسيس علوم التربية في الجامعة منذ عام 1967.

[11] بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق

[12] المرجع السابق

[13] بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق

[14] التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، مصطفى حجازي

[15] المرجع السابق

[16] المنظومة الأخلاقية من منظور العلم والدين، الباحث: عبد العزيز كامل

[17] بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق

[18] المرجع السابق

[19] بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق