بنفسج

ذكرى المولد النبوي.. حفظ المعنى وتمم الخُلق

الأربعاء 27 سبتمبر

في يوم المولد، أذكر مرة في المدرسة، في الصف الخامس، كيف فتحت رفيقتي صرة ملفوفة بشريطة جميلة، فإذا فيها "مُلبّس" صغير (وهي لوزة مغموسة بالسكر الأبيض)، وقدمتها لنا بكل فخر: "تفضلن، فإنها مختلفة عن غيرها ومُباركة؛ لأنها من المولد الذي حضرته أمس". أخذتُ منها قطعة، ولم أعرف ما هو المولد، وماذا يعني؟

ومرت الأيام، ودعيت أنا وأمي لمولد، فذهبت متشوقة، فرأيت ما يشبه الحفلات، طعام غُلّف وصُفَّ بطريقة جذابة وشراب، ووجدت نساء اصطففن على الأريكة بنظام، وأخذن يسردن السيرة في قالب قصصي غنائي ويضربن على الدفوف، يجلسن تارة ويقفن تارات ويؤشرن للحاضرات ليشاركن في بعض الحركات، فلما انتهين وَزَّعن "الملبس"، وانصرفت كل واحدة مستبشرة بأنها قامت بواجب كبير تجاه النبي الكريم، وتحصلت على الثواب العظيم!

رجعت إلى البيت وأنا متعجبة، وأخذت أقص على أخواتي القصص، وإذا بأمي، تستغل الفرصة، وتقول: "ماذا استفاد النبي من الاحتفال والغناء والرقص، وماذا استفدنا نحن من سرد قصة حياته بهذه الطريقة السريعة، ومن غير تدقيق؟ فاختلطت الحوادث الملفقة بالصحيحة". وعقبت: "إن أكبر احتفال به، يكون باتباع سنته، والبعد عما نهى عنه، فهو ما يدخلنا الجنة ويؤكد حبنا لنا، ويرضي الله عنا".

قالت أمي كلمتها وانصرفت، ولكن المعاني التي طرحتها، أُثرت بي كثيرًا، وجعلتها نبراسًا لي في حياتي وفي تربيتي لأولادي، إذ نبهتني لأهمية الصواب، وإن سرد الأخبار التي لم تصح، يوقع في البدع، ويبعد عن الدين. ونبهتني أن السلوك والتعامل مساو للعبادة، فلا يكفي أن نصوم ونصلي، وإنما نتهذب ونرتقي، والرسول كان خلقه القرآن.

فأصبح أكثر ما حرصت عليه في تربية أولادي تمثل "خلقه"، فوضعت نصب عيني تهذيبهم، فلا يغضبون، ولا يسبون، ولا يشتمون، ولا يسيؤون الظن، كان هذا ما سعيت إليه، ولم أنس التوجيهات النبوية العظيمة، من وجوب خفض الصوت والاستئذان. كما كنت أنهاهم عن رمي الأوساخ، وأن يكونوا عند حاجة الناس.  ولقد جعلت "المولد النبوي" تذكرة؛ أحكي لهم فيها مواقف من سيرته، بما يناسب أعمارهم، وبما يستطيعون حقاً الاقتداء به.

إن يوم المولد ذكرى جميلة، يجب أن نجعل منها فرصة لمعرفة منهج شخص عظيم، ليس فقط لنقتدي بعباداته -كما يحرصون- وليس لنروي سيرته وكراماته كما يفعلون؛ وإنما لنحذو حذوه بأعماله المبدعة والتغيير الكبير الذي صنعه في أفكار الناس وفي واقعهم.

كنت أقرأ جامع الأصول، وأهتم بأبواب التزكية، وشخصية المسلم وخلقه، لأنقل كل هذا لأولادي. وصار الناس يستغربون مني، فلا يرون أولادي في مدارس تحفيظ القرآن، ولا يقرؤون أسماءهم في لوحة المتفوقين دراسيًا، ولكنهم كانوا إذا عاملوهم، وجدوا سلوكهم مميزاً، وأدبًا جمًا، فيعذروني. كنت أجعل كل حديث حيًا في بيتي، فلا نمر عليه وننساه، وإنما نستعين به في حل الخلافات، وتيسير مواقف الحياة.

 إذا اختلف أولادي، جئنا بموقف نبوي وسرنا على نهجه، وكم كان هذا يشعر أبنائي بالرضى والعدالة. وإن يوم المولد ذكرى جميلة، يجب أن نجعل منها فرصة لمعرفة منهج شخص عظيم، ليس فقط لنقتدي بعباداته -كما يحرصون- وليس لنروي سيرته وكراماته كما يفعلون؛ وإنما لنحذو حذوه بأعماله المبدعة والتغيير الكبير الذي صنعه في أفكار الناس وفي واقعهم.

لقد آن الآوان لنتعرف على نبينا الذي قاد العالم، وأخرج العرب من الظلمة إلى العالم الواسع، وحول الجاهلية بصيرة ووعيًا، ذلك النبي الذي جعلوه أول رجل في كتاب "المئة الأوائل" الذي جمعوا فيه أعظم مئة رجل في العالم، فبات من الضروري تأمل حياته والبحث في أسباب نجاحه. وهذا طرف مما دعا إليه ومما ينبغي سماعه. دعانا للإيمان، فلا نخاف في الحق أحدًا، ولا نطيع في معصية الخالق مخلوقًا، فهل نخاف الله وحده، أم ما زلنا نخاف من البشر؟  دعانا للصدق والاستقامة؛ فلا يكون المسلم غشّاشًا ولا كذّابًا ولا فظًا غليظًا. فكم من المسلمين يأبه؟

دعانا إلى المحبة والأخوة؛ المسلم أخو المسلم، لا يؤذيه بيد، ولا لسان، ولا يظلمه، ولا يعدو عليه. فأين البر والمرحمة؟  دعانا إلى القوة والعزة، والجهاد باللسان والمال والنفس، وأن يعمل المسلم للدنيا كأنه يعيش فيها أبدًا، وأن يعمل للآخرة كأنه يموت غدًا. فهل تركنا متاع الحياة الدنيا؟! وإني أدعوكم في يوم المولد للاعتناء بكل هذا، آملة أن يعيد الله لهذه الأمة بأسها وهيبتها.