بنفسج

قبيل النكبة وبعدها: الشهابي تنظم الجهود النسائية

الثلاثاء 07 مارس

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي

تشكّل وعيها مبكرًا، فوالدها المقدسي الذي يُشهد له بأنه كان رجلًا مناضلًا ومن أعيان مدينة القدس، زرع فيها بذرة الانتماء للبلاد، وأن يكون المرء إنسانًا قبل كل شيء، ويدافع عن أرضه وحقه بكل ما أوتي من علم وشجاعة، الرجل الذي شغل عدة وظائف إدارية في العهد العثماني؛ فكان من أوائل الرجال في تلك الحقبة الزمنية الذين يرسلون بناتهم إلى المدارس ليتعلموا اللغات والعلوم، ولم يكن يعي أنه سيُخرج لفلسطين أيقونة ثورية مناضلة تخوض كافة المجالات، وتكون لها بصمة قوية، وتصبح زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي الفلسطيني على الصعيد الوطني والتنموي والاقتصادي.

| النشأة وبواكير العمل النضالي

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي

زليخة الشهابي اسم يعرفه العديد وارتبط بالنضال ضد الاحتلال الإنجليزي في القرن التاسع عشر، تشكّل وعيها مبكرًا فيما يتعلق بالأطماع الصهيونية في فلسطين، كان والدها مصدرها في معرفة تاريخ القدس وما يجري من مخططات، فأصبحت تنقل كل ما تعرفه إلى زميلاتها في مدرسة "راهبات صهيون"، لتصبح فيما بعد أيقونة تترأس الاحتجاجات المختلفة ضد الاحتلال الإنجليزي.

زليخة المولودة في عام 1901 في مدينة القدس، ترعرعت في عائلة مقدسية مناضلة، والدها إسحاق عبد القادر الشهابي من الأشخاص الذي كان لهم باع كبير ومعروف في وسط المدينة، تنقل بين الوظائف الإدارية في العهد العثماني، وفي عام 1927 شغل منصب رئاسة بلدية القدس، والدتها زينب المهتدي، ولديها من الأشقاء أربعة، صبحي وجميل، ورسمية ورفقة.

| معترك الحياة السياسية

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
أول مظاهرة نسائية عام 1929 بقيادة زليخة الشهابي

بدأت في خوض غمار الحياة السياسية مبكرًا بحكم الأحداث الجارية في البلاد، فأسست برفقة السيدة ميليا السكاكيني أول جمعية نسائية فلسطينية في عام 1921 بالتزامن مع دخول أول مندوب سامي بريطاني لفلسطين، وأطلقت عليها اسم "الاتحاد النسائي الفلسطيني"، وبذلك أثبتت زليخة ومن معها من سيدات فلسطينيات دور المرأة ونشطت عملها على المستوى الوطني. هدف الاتحاد إلى مناهضة الانتداب البريطاني، والتصدي للاستيطان الصهيوني، كما برز دوره في دعم المرأة الفلسطينية على كافة المستويات، ونظم الاتحاد مظاهرات نسائية كبيرة للاحتجاج على الانتداب البريطاني ووعد بلفور، محاولًا التصدي لمحاولات سرقة البلاد.

ترأست زليخة المؤتمر النسائي العربي الفلسطيني في مدينة القدس، والذي عُقد إبان ثورة البراق في عام 1929، وشاركت فيه 300 سيدة، وأصدرن مذكرة وضحن فيها مطالب الشعب، وقمن بانتخاب وفدًا لمقابلة المندوب السامي، وقد تم تسلميه عريضة احتجاجية على استمرار الاحتلال البريطاني بالتمهيد لتنفيذ وعد بلفور وإنشاء دولة لليهود على الأرض الفلسطينية، وطالبن بتوقيف الهجرة اليهودية لفلسطين.

انطلقت بعد المؤتمر النسائي وعودة الوفد المرسل للمندوب، مظاهرة حاشدة قادتها زلخية الشهابي ورفيقاتها في النضال، جابت التظاهرة شوارع القدس موكبًا في ثمانين سيارة، ومرت على دور قناصل الدول الأجنبية، في رسالة واضحة للاعتراض على السياسية البريطانية في فلسطين، والتعنّت الرافض للمطالب الفلسطينية.

أنشأت فيما بعد جمعية النساء العربيات، أي "بعد المؤتمر"، وقيل عنها لجان أيضًا، وفيما بعد سُميت بالاتحادات. لم تقف نساء فلسطين مكتوفات الأيدي في ظل تزايد الهجرة اليهودية لفلسطين، وصل صدى صوتهن لكل العالم العربي، فخرجت زليخة ورفيقات دربها اللواتي كن سبع وعشرين سيدة للمشاركة في "المؤتمر النسائي الشرقي" عام 1938 التي دعت إليه زعيمة الحركة النسائية في مصر السيدة هدى شعراوي، وكانت فلسطين المحور الرئيسي في المؤتمر، وألقت زليخة كلمتها باسم "جمعية السيدات العربيات" في القدس، وتحدثت عن السياسة البريطانية وتاريخها السيء في فلسطين، وقالت "سنعود مقتنعات بأن أهل فلسطين ليسوا وحيدين في ميدان الجهاد المقدس لتخليص بلادهم من المحتل البريطاني".

وفي نهاية المؤتمر، انتُخبت وكيلات لهدى شعراوي من كل وفد، فكانت زليخة الشهابي ووحيدة الخالدي من الوفد الفلسطيني، اقترحت شعراوي على الشهابي بأن يتم توحيد العمل النسائي العربي، فوافقت الأخيرة، وحلت "جمعية السيدات العربيات" في القدس، وأعلنت قيام "الاتحاد العربي الفلسطيني".

| الدور المجتمعي التنموي

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
إليزابيث ناصر وهند الحسيني وزليخة الشهابي في حفل افتتاح جمعية الاتحاد النسائي العربي

لم يقتصر عمل الشهابي في الجمعيات النسائية على مناهضة الانتداب ودحض فكرة الدولة اليهودية، بل كان لها دور كبير على الصعيد الاجتماعي والتنموي والاقتصادي، وأسهمت بشكل مباشر في تنمية النساء الفلسطينيات على كافة الأصعدة، فقد أشرفت مع ميليا السكاكيني على حملة مجانية لتعليم الفتيات الصغار أسس القراءة والكتابة، وأنشأت مدرسة الدوحة التي ذاع صيتها في تلك الآونة، وشُهد لها بالجدارة من كل النواحي.

واصلت المسيرة وعكفت على إيجاد بدائل للبضائع البريطانية وخلق فرص عمل للسيدات، وعلمتهن حرف لتصبح بمثابة دخل لهن، فقامت بتعليمهن الحياكة، وشجعتهن على إنشاء المشاريع الخاصة، فتعلمن صناعة الأزهار الاصطناعية، وكانت زليخة ترافقهن وتساعدهن بذلك، وأيضًا يصنعن سويًا أنواع من الكريمات للتجميل. وقام الاتحاد الذي أسسته بشراء أراضي مزرعة بكروم العنب والفاكهة وقدمنها لعائلات الشهداء ليقوموا برعايتها والاستفادة من ما تنتجه الأراضي.

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
مركز تعليم الخياطة في الاتحاد العربي النسائي

السجل التطوعي للسيدة زليخة غزير بالإنجازات، حيث أنشأت لجنة إسعاف تتواجد في الميدان لإسعاف الجرحى، وأقامت مستوصفًا للتطعيم ضد الأمراض، وآخرُ للعناية بالحوامل ورعاية الأطفال، كما دفع الاتحاد الذي أنشأته نفقات تعليم عشرات الأيتام، وأسس مأوى لهم، وأنشأ منتجعًا شتويًا في أريحا للنقاهة وبيتًا للنساء المعوزات، ودارًا للمسنين في أريحا.

وفي الأربعينيات نشط الاتحاد النسائي في فلسطين في المجال الثقافي، فعكفت زليخة على دعوة الأدباء لتقديم المحاضرات الوطنية والعلمية، ولمناقشة الأمور الثقافية. ولم تنس الجانب الرياضي؛ فقد أسست ناديًا رياضيًا متكاملًا، وحين عقد الاتحاد مؤتمرًا حضره العديد من النساء العرب، رُفعت أعلام كل بلد على جوانب الملعب المؤسس.

نعود قليلا للفترة الواقعة ما بين (1939-1936)، أي في مرحلة الإضراب والثورة الكبرى التي اندلعت رفضًا للانتداب البريطاني، والهجرة الجماعية لليهود لفلسطين، حيث اندلع وقتها أطول إضراب بالتاريخ واستمر لستة أشهر، في ذلك الوقت اعتقل العديد من الثوار، فكانت زليخة صاحبة فكرة الذهاب للمحاكم لحضور جلسات المحاكمة لهم، بغية رفع معنوياتهم وإيصال رسالة مفادها أن الشعب كله معكم.

| ما بعد النكبة

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
أعضاء جمعية الاتحاد العربي النسائي

ظلت مسيرة زليخة عامرة بالأحداث وتسهم بكافة الأشكال في النضال، سواء على الصعيد الوطني أم الاجتماعي، ففي أثناء النكبة عام 1948، ظهر الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني بقيادة زليخة، وكان له دور في إدارة أعمال مستشفى المطلع المقدسي، كانت السيدات يستقبلن الجرحى، وظلت زليخة في المستشفى لأيام طوال خلال الحرب للمساعدة في إسعاف الجرحى، وتشجيع النساء الفلسطينيات على البقاء، وتدريبهن على الإسعاف الأولي. إضافة إلى ذلك كان السيدات يقمن برعاية أسر الثوار في الميدان، ويجمعن التبرعات لإرسال الطعام للمقاتلين.

كما جمعتها علاقة جيدة بالسيدة إليزابيث ناصر وهند الحسيني، حيث أسسن سويًا عام 1952 دارًا للفتيات المشردات اللواتي يتسولن، فأوجدن حلًا لهذه الظاهرة بتأسيس الدار وتعليمهن مهارات ليستطعن خلق فرصة عمل وتوفير مصدر دخل لهن. بقيت زليخة تمارس أعمالها ما بعد النكبة، وأصبحت كثيرة التنقل بين القدس وعمّان، وفي عام 1959 تولت مسؤولية رئاسة اتحاد الجمعيات الخيرية في محافظة القدس. كما شاركت في المؤتمرات العربية والدولية للتعريف بالقضية الفلسطينية. وفيما بعد انتُخبت كعضو في مكتب الاتحاد العام للمرأة العربية، فحضرت عدة مؤتمرات خاصة بالاتحاد في لبنان ومصر والقدس، وكانت عضوًا في المؤتمر الفلسطيني الأول والذي انبثقت عنه منظمة التحرير الفلسطينية في أيار/مايو 1964.

كانت زليخة الشهابي حالة نضالية ثورية بدأت مع الانتداب البريطاني ووقفت ضده، واستمرت حتى ما قبل النكبة وما بعدها وهي تطالب بمطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه. التقت خلال مسيرتها الحياتية بالعديد من الشخصيات العربية والدولية، وشاركت ميليا السكاكيني، وإليزابيث ناصر، وهند الحسيني، وكانت تربطها علاقة جيدة مع هدى شعراوي، والتونسية وسيلة بورقيبة.

ولكونها زعيمة الاتحاد النسائي في القدس، سعت لنشر فكرة إنشاء اتحاد عام للمرأة الفلسطينية، وقدمت دعوة في شباط/فبراير 1965 لاجتماع عام في القدس، حضرته ممثلات الاتحادات النسائية في المدن الفلسطينية، وذلك تمهيدًا لعقد مؤتمر عام يضم النساء الفلسطينيات داخل الوطن وخارجه، ويهدف إلى تشكيل إطار نسوي فلسطيني باسم الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. وأشرفت على عقد المؤتمر النسائي الفلسطيني في تموز/يوليو 1965، في القدس، بمشاركة 174 عضوة.

كانت زليخة الشهابي حالة نضالية ثورية بدأت مع الانتداب البريطاني ووقفت ضده، واستمرت حتى ما قبل النكبة وما بعدها وهي تطالب بمطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه. التقت خلال مسيرتها الحياتية بالعديد من الشخصيات العربية والدولية، وشاركت ميليا السكاكيني، وإليزابيث ناصر، وهند الحسيني، وكانت تربطها علاقة جيدة مع هدى شعراوي، والتونسية وسيلة بورقيبة.

زليخة الشهابي رائدة العمل النسائي
زليخة الشهابي مع وسيلة بورقيبة زوجة الرئيس التونسي الأسبق

ظلت طوال حياتها تمارس أنشطتها التي أزعجت السلطات الصهيونية التي اتخذت قرارًا في العام 1968 بإبعادها إلى عمّان، فخرجت السيدة الحرة المناضلة رغمًا عنها من فلسطين، وظلت مبعدة عن البلاد عدة شهور، وبعد ضغوطات من منظمات نسائية دولية ومحلية والأمم المتحدة سُمح لها بالعودة للوطن، وعادت لتمارس نشاطها كرئيسة للاتحاد النسائي الفلسطيني في القدس، حتى وافتها المنية بعد صراع من المرض في 13 أيار/مايو من العام 1992، وشُيع جثمانها في المسجد الأقصى المبارك.

وهكذا انتهت فصول حياة زليخة الشهابي التي أثبتت على مدار عقود أن المرأة الفلسطينية قادرة على الدخول في كل المجالات ووضع بصمة لافتة لها، رحلت زليخة نعم لكن حكايتها، وأنشطتها التطوعية، وما فعلته طوال حياتها ظل يُدرس للأجيال القادمة.