كنت أبلغ الخامسة من العمر حين كان أبي يوقظنا لصلاة الفجر، بمجرد انتهائها، كان يستدير ويسألنا عما قرأناه في الركعتين، فننفجر ضاحكين. كان يعلم أننا نكمل نومنا في الصلاة، فيساعدنا على التركيز بذلك السؤال، لكننا، غالبًا، لم نكن نتذكر. كلما كبرنا كان يشجعنا على قراءة سور مختلفة في كل صلاة، حتى لا ننسى ما حفظناه. في تلك السن المبكرة، نشأت علاقتي بالقرآن، وكانت علاقة متزنة هادئة.
حين بلغت السادسة، كنت أحفظ «ربع يس» حفظًا متقنًا، وأسعد بقدرتي على دخول المسابقات والفوز دائمًا بالمراكز الأولى، وأفرح عندما يتباهى أبي أمام الناس حين أبدأ الترتيل، وأنا لا زلت كائنًا صغيرًا يبكي لأجل قطعة حلوى إضافية، إلا أن صفو ذلك الوداد مع القرآن لم يدم طويلًا. كعادة أي بيت ذي توجهات إسلامية، يهتم الوالدان بتعليم أولادهم القرآن. المحفّظ ثابتٌ أساسيٌّ بجوار الدراسة والألعاب. ببلوغي العاشرة، بدأتْ حالة التمرد؛ لا أريد أن أحفظ، أهرب من والدايّ بكل الطرق، أحصل المواد الدراسية بسرعة الصاروخ، وأكون من الخمسة الأوائل دائمًا إلا في القرآن، الأمر الذي أصاب أبي بالحيرة.
أحضر لي عددًا كبيرًا من المحفّظين، وكل منهم ترك فيّ أثرًا لا يُنسى، وتركت فيهم قدرًا من الشغب لا أعتقد أنهم نسوه. الغريب أنني كلما قابلت أحدهم، ورآني قد أصبحتُ بنتًا كبيرة، استقبلني بحفاوة شديدة، ومضى يستعرض ذكريات طفولتي، فأضحك في داخلي كثيرًا، يبدو أنه لا يتذكر ما فعلته به.
كنا نطفئ أنا وإخوتي الأنوار تمامًا، وندّعي أن الكهرباء مقطوعة، ونجلس لنحفظ في الظلام حتى تضيع الحصة. آخر كانت طريقته قاسية جدًا معنا، فكنت أشكوه لأبي، فلم يأخذ قرارًا بشأنه، فقررت الاعتماد على نفسي؛ عرفت أنه يتبع نظامًا غذائيًا لتقليل الوزن، فكنت "أعافر" -وطولي لا يتعدى المتر- لأصل لعلبة السكر كي أضع له عشر ملاعق في العصير. وهكذا، حين يغضب ويرفع صوته لم أعد أتضايق، بل أشعر برضى تام، فما هي إلا لحظات وسيشرب العصير الذي أعتبره ردي على تلك القسوة. المهم أنهم عاملونا دائمًا كآباء ولهم فضل لا أظنني سأنساه.
ظللت ستة أعوام كاملة أهرب بشتى الطرق حتى جاء يوم لا أنساه؛ كنتُ جالسة بجوار أبي على السرير حين اشتد مرضه، أفرط له حبات من العنب الأحمر وأضعها في يده. البقع المتزايدة على ظهر يديه تخبرني أن حالته أسوأ. يسألني: «هل تتناقص البقع؟». فأجيبه كذبًا: «نعم.. قريبًا ستصبح أفضل». قصّ عليّ حلم ليلته الماضية: «كلانا في سيارة في الصحراء وأنتِ تقودينها، ثم نزلتُ أنا بعد خمس دقائق، وأكملتِ القيادة بحثًا عن أول نقطة خضراء». صمتتْ، فسألني: «غريب الحلم؟». أضم يديه في رفقٍ بين يديّ واستمر في كذبي: «لا.. بل حلمٌ جميل». لكنني لم أنس ارتجافة قلبي وقتها، ارتجافة من أصبح يعرف أنه سيكمل الطريق وحده، قطع صمتي قائلًا: «لازلتُ أتمنى أن أرتدي تاجًا من نور يوم القيامة بحفظك للقرآن»، صمتتْ ثانيةً.
كنت أحب أبي جدًا؛ أحب خفة ظله، ودعاباته المرحة، وتحويله كل شيء ثقيل على النفس في دنيانا إلى مزحة خفيفة.
كنت أحب أبي جدًا؛ أحب خفة ظله، ودعاباته المرحة، وتحويله كل شيء ثقيل على النفس في دنيانا إلى مزحة خفيفة تعبر على نفوسنا كنسمة بيضاء. حين يسافر، كنتُ أبكي بلا انقطاع حتى يعود، فأصبح يصطحبني في معظم أسفاره ومؤتمراته، فتعلمت أمورًا في مرحلة مبكرة لم أكن لأعرفها لولا أنني رُزقت صحبته. حين طلب ذلك، شعرت أنّي لا أريد أن أخيب أمله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فقررت أن أبدأ.
رمضان بعد أربعة أشهر، وأنا لا أحفظ إلا سبعة أجزاء، ثلاثةٌ وعشرون جزءًا متبقية. قررت أنا وصديقتي "آلاء" أننا سنختم القرآن قبل أول أيام رمضان. يستلزم هذا خطة محكمة، ويستحيل أن يتم بشكل عشوائي. ثمّة أشياء لابد أن تتوفر حتى أنجز هذا التحدي:
| التخطيط: قسّمت 23 جزءًا على 4 أشهر، هذا يعني 6 أجزاء تقريبًا في كل شهر، أي حفظ ربع جزء ونصف الربع يوميًا بمعدل 4 ساعات لليوم الواحد، الأمر الذي ربما بحسابات العقل يكون صعبًا نوعًا ما، لكنه حدث.
| الدافع: في حياتي، أجد صعوبة في تنفيذ الأشياء التي لا أعرف لماذا يجب عليّ فعلها، ومشكلتي القديمة مع القرآن كانت من هذا النوع، كنت أسأل: لماذا يجب أن أحفظ القرآن؟ «حتى يحبك الله، وحتى تقرأينه في الصلوات وحتى ... وحتى .. »، أومئ برأسي لوالديّ لكن الإجابات لم تكن قد تملكتني بعد.
في تلك المرة كان الأمر مختلفًا، الموقف وصل إلى أعماقي، كنت أنظر إلى أبي فأكاد أجن. كيف يمكن أن يعود سريعًا كما كان؛ يتحرك ويضحك ويلعب معنا؟ وددتْ أنْ أجعله سعيدًا بأي شكل، صحيح أنني أتفهم أن الأنثى تولد بشعور الأم، لكنني لم أفهم كيف يمكن أن تحمل شعورًا كهذا تجاه أبيها، كان شعورًا حاضرًا بقوة، ثم أصبح طاغيًا في أيامنا الأخيرة. رغبت أن أكرر معه أشياءنا المشتركة حتى ولو كنت أعرف أنني هذه المرة سأسابق الزمن لأفعلها. اتخذت القرار بعد أن احتل ذلك الدافع نفسي.
| التسميع: لا بد أن يكون هناك من تتلو عليه كل يوم، فمهما كنت متقنًا بمفردك ستكتشف في حضور ذلك الشخص أخطاء لا تتوقعها. قامت أمي بذلك الدور بصبرٍ لا يوصف، كنت أستنزف وقتها كله تقريبًا حتى أتممت الحفظ.
| المتشابهات: من أكثر الأشياء المتعبة في القرآن الآيات المتشابهة التي تختلف في حروف أو كلمات، فحين تعرف أن آية "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات..." تكررت عشر مرات في المصحف، باختلافاتٍ طفيفة في كل آية، ستختلط عليك الآيات ما لم تكن هناك آلية لتمييزها. الحل كان في مصحف كبير بهامش كبير وقلم رصاص، تكتب فيه أن هذه الآية وردت في سورة كذا باختلاف كذا. اشتريت أيضًا كتابًا في رصد المتشابهات في القرآن وقد ساعدني كثيرًا.
| الحروف ونهايات الآيات: هذان هما أكثر ما يحدد مستوى حفظك. لم تكن أمي ترضى أبدًا بخطأ واحد فيهما حتى لو كان حرف "واو"، كنت أراجع مجددًا ثم أعود ثانية للتسميع حتى أتقنها.
| الأوقات البينية: «الاستماع للقرآن» من أكثر ما يساعد على الحفظ الجيد. في المواصلات أو في أي وقت انتظار، كنت أشغل الجزء الذي أحفظه وأعيده مرارًا، فكان عاملًا كبيرًا في صحة مخارج الحروف، والتجويد، وثبات نهايات الآيات.
| التنافس: وضعنا تلك الخطة أنا وآلاء، الصديقة الحبيبة الطيبة التي لا زالت تملك قلبي بصبحتها. شعور أن إحدانا قد تسبق الأخرى كان دافعًا لبذل مزيد من الجهد، خاصةً مع وعد أمهاتنا بحفلة كبيرة عند إتمام الحفظ، فكنا نتسابق من ستكون حفلته قبل الأخرى ويدعو أصدقاءنا لها.
| التفسير: حاولت تذكر كيف حفظت الأجزاء السبعة الأولى في صغري حفظًا متقنًا. في كل مساء، كان أبي يقص علينا تفسير سورة من تلك الأجزاء بشكل مبسط، فصرت أعرف معاني كلماتها والقصص التي تحتويها ومغزى كل آية، فقررت السير على نفس الطريقة. أضفت ساعتين أخريين لأقرأ تفسير الآيات التي أحفظها، زاد الأمر صعوبة، إلا أنه ازداد متعة وفهمًا، وازددت يقينًا واطمئنانًا لما أفعل.
| الجائزة: كانت تأتيني فرصٌ للدراسة بالخارج، أو حضور مؤتمرات وفعاليات كنت شغوفة بحضورها. كان أبي يشعر أنني لا زلت صغيرة كي أسافر وحدي، فعقدنا اتفاقًا: لو أتممت الحفظ ستكون الجائزة هي أن أبدأ في الاعتماد على نفسي وأسافر بمفردي لأول مرة. رغبتي في الحصول على الجائزة كان عاملًا مؤثرًا في إتمام الحفظ.
حفظت القرآن «فقط» حبًا لأبي، وحين حفظته أحببت القرآن لذاته. أحببت الحروف والمعاني بين السطور.
في تراويح أول أيام رمضان، بكيت كثيرًا، بقدر الفرحة التي غمرتني وأنا أتلو القرآن مع الإمام آية بآية، بقدر الضيق الذي انتابني، كيف عشت كل هذا العمر دون أن أشعر بهذه المعاني؟ كيف نتجاهل المتع التي في أيدينا بهذا القدر من الغباء ونلهث وراء السراب أملًا في سعادة لا نحققها!
في البداية، حفظت القرآن «فقط» حبًا لأبي، وحين حفظته أحببت القرآن لذاته. أحببت الحروف والكلمات والمعاني بين السطور. أحببت منه صبر أيوب، وحلم إبراهيم، وعفة يوسف. أحببت منه مريم وخديجة وآسيا، وأحببت أمي أكثر. صرت أحب الله أكثر، أحبه ربًا قويًا عزيزًا غفورًا رحيمًا.
صحيح أنني أفرح كثيرًا بحفظ القرآن، إلا أن الأكيد أنني أخاف منه في كل وقت، أخاف أن أحمل بين جوانحي آيات لا أعمل بها وأرددها بلساني، كلمات لم يستوعبها قلبي. صرتُ أخشى أن أكون كالحمقاء التي تنقض غزلها من بعد قوة، أو أكون من الأخسرين أعمالًا الذين يضل سعيهم في الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
صحيح أني تمنيت لو طال الوقت ولو شهرًا واحدًا ليراني أبي بعد أن أتممت حفظ القرآن، لكن ربما يضيف هذا الغياب المفاجئ للقائي المنتظر به حلاوة، ويضفي على شوقي له زيادة، وعلى ذكراه في نفسي بهجة، وأن أحيا في الدنيا على أملٍ سعيد أن هناك من ينتظرني في الآخرة كي ألبسه تاجًا من نور، وأمسك بيده حين نجري أملًا في نقطة راحة واحدة، فلا نجد ظلًا إلا ظله. لا أعرف الآن صحة حديث أن حافظ القرآن يُلبس والديه تاجًا من نور يوم القيامة، إلا أنني وقتها ستكفيني قبلة على يد أبي حين ألقاه، أنّي وفيت العهد وأديت الأمانة، مع حمدي الله كثيرًا، أن عادت صحبتي له من جديد.