يأسِرُني التأمُّلُ في سلوكِ النساءِ عبرَ موقعِ "الفيسبوك"، خاصةً على المجموعاتِ النسائيةِ الخاصةِ؛ إذْ أشعرُ وأنا أتابعُ الصفحاتِ والأسئلةَ التي يَتِمُّ طرْحُها؛ بأنني أقِفُ فوقَ مبنًى كبيرٍ أُشاهدُ منه أحدَ مسارحِ الحياةِ التي تضيفُ لي خبرةً؛ وتُعزِّزُ قناعاتي، وتُطوِّرُ من طريقةِ تفكيري، وتُعاظِمُ من حُبي لدِيني وعقيدتي وعاداتِ وتقاليدِ مجتمعي.
قبلَ أيامٍ استَوقفَني سؤالٌ؛ طُرِحَ على عددٍ من المجموعاتِ النسائيةِ حولَ رأيِّ النساءِ في الزياراتِ المفاجئةِ؛ هل هي مُحبَّذةٌ أَم لا؟ والحقيقةُ أنّ ما استَوقفَني رُدودَ النساءِ التي في مُجمَلِها تَعتبرُ الزياراتِ المفاجئةَ أمرًا مزعجًا للغايةِ، ومُربِكًا، وغيرَ مُحَبَّذِ بالمُطلَقِ، وجميعُهنَّ قُلنَ: إنّ هناكَ أجهزةَ اتصالاتٍ بإمكانِ الجميعِ الاتصالُ لأخذِ موعدٍ للزيارةِ.
هذه الإجاباتُ نقلتْني إلى عالَمِ الطفولةِ التي عشتُها؛ حيثُ لم يكُنْ هناك أيَّ اتصالاتٍ من أجلِ الزياراتِ، إذْ كانت أُمي تَصحو مبكّرةً؛ تُنجِزُ أعمالَها؛ وترتّبُ بيتَها تَحسُّبًا لأيّ ضيفٍ يدقُّ بابَ بيتِنا، وأتذكَّرُ كيف كان يدقُّ بابُ بيتِنا؛ فأجِدُ أمامَه وَجهَ عمّتي البشوشَ؛ فأصرخُ بأعلَى الصوتِ: "جاءت عمتي"؛ لتَنتقلَ البهجةُ إلى كلِّ أركانِ بيتِنا.
وأتذكّرُ أنّ عمتي كانت تجلسُ حيثُ تتواجدُ أمي؛ وغالبًا كانت تتواجدُ لوقتٍ من الزمنِ داخلَ مطبخِنا، حتى تُنهي أمي ما في يديها؛ ثُم ننتقلُ إلى غرفةِ الجلوسِ؛ لتُصبحَ الجلسةُ أكثرَ أنسًا ووُدًّا؛ يسودُها سَرْدٌ لكُلِّ الأخبارِ الجميلةِ التي حدثتْ في بيتِنا طيلةَ الفترةِ الماضيةِ، وتتغيّرُ ملامحُ عمتي بينَ الفينةِ والأخرى وهي تسمعُ أخبارَنا الجميلةَ، وتحضِنُ أخي الصغيرَ الذي كان مريضًا قبلَ أسبوعينِ، داعيةً له بدوامِ الصحةِ والعافيةِ.
كانت زيارةُ عمّتي أو أيُّ ضيفٍ لبيتِنا حدَثًا جميلًا مؤثّرًا، يُعطي لبيتِنا حُبًّا وفرحةً لوقتٍ من الزمنِ، لم تَكنْ أمي تعيشُ أي "عجقة" تذكَرُ؛ حولَ ماذا ستُقدّمُ للضيوفِ، فقد كان خيرُ البيتِ قائمًا دومًا، وكانت القواعدُ قديمًا تقولُ "الجود من الموجود"، وكان الموجودُ بالبيتِ كافيًا لاستقبالِ كلِّ الضيوفِ، كان أبي يُلِحُّ على الضيوفِ بتناولِ الضيافةِ، وكانوا هم يعتذرونَ بينَ الفينةِ والأخرى؛ أنهم "غلّبونا"؛ فكانت كلمةُ أبي التي لا تزالُ تَرِنُّ في مسامعي إلى هذه اللحظةِ، رغمَ انطواءِ السنينَ والأشخاصِ: "وحِّدْ الله، الضيف ضيف الله ".
غريبةٌ حياتُنا الاجتماعيةُ اليومَ! فعلى الرغمِ من أننا بِتْنا أكثرَ انفتاحًا وعلاقاتٍ ومعارفَ؛ إلّا أننا نمَّطنا وصغّرنا من كلِّ مشاعرِنا وعلاقاتِنا باتّجاهِها المعنوي، اليومَ لا نستقبلُ ضيفًا إلّا باتّصالٍ، وقد نعتذرُ عن الاستقبالِ؛ ليس لضِيقِ الوقتِ مثلًا؛ بل لأننا لا نمتلكُ نقودًا لنشتريَ أو نصنعَ الضيافةَ الطويلةَ العريضةَ، ليس احتفاءً بالضيفِ؛ بل لأجلِ الاستعراضِ والتصويرِ عبر السوشيال ميديا.
لماذا لا نَعودُ إلى وَهجِ الحياةِ الطبيعي؟! لماذا لا نختصرُ كلَّ المُنغِّصاتِ التي نضيفُها لحياتِنا تعجيقًا وتفاخُرًا! لماذا نتركُ سجِيَّتَنا الأُولى؟
ننزعجُ من ضيفٍ اضطّرَ لزيارتِنا دونَ موعدٍ، ونُحرَجُ أنْ نقدّمَ له من ضيافتِنا اليوميةِ الموجودةِ بالمنزلِ، إننا نَنزِعُ من كلِّ تفاصيلِ حياتِنا بساطتَها ووُدَّها، فما الضَّرَرُ أنْ تزورَنا العمّةُ اليومَ؛ فنَشربَ كأسًا من الشايِ؛ ونتسامرَ بضَحكٍ متواصلٍ، هل تضيفُ أنواعُ الضيافةِ الكثيرةُ للجلسةِ حُبًّا أو قيمةً! هل خَلطةُ "التشيز كيك" لها علاقةٌ بتقويةِ العلاقةِ مع الآخَرين!
إنّ تعقيدَ الحياةِ الذي بِتنا نُضيفُه لكُلِّ تفاصيلِ الحياةِ؛ أخرَجَنا من دائرةِ الشغفِ التي تعطي لقلوبِنا حياةً، ولعقولِنا فسحةً جيدةً للاكتمالِ والتنوّعِ؛ لذا أصبحنا أشخاصًا مُمِلّينَ غيرَ مُبهِجينَ، تَتشابَهُ عندَنا الأيامُ والأحلامُ والطموحاتُ، وجوهُنا عابسةٌ، عقولُنا شاردةٌ، نحسبُ للخطوةِ الصغيرةِ ألفَ حسابٍ؛ فلا نخطها حتى وإنْ كانت استقبالَ ضيفِ اللهِ.
أعجَبُ من نفسي ومنكم؛ لماذا لا نَعودُ إلى وَهجِ الحياةِ الطبيعي؟! لماذا لا نختصرُ كلَّ المُنغِّصاتِ التي نضيفُها لحياتِنا تعجيقًا وتفاخُرًا! لماذا نتركُ سجِيَّتَنا الأُولى؟! لماذا نضيفُ لحياتِنا أشياءً لا تُناسِبُنا! ولا تزيدُ نفسيَّتَنا إلّا عِبئًا، لماذا لا نستقبلُ ضيوفَنا دونَ موعدٍ؟!