بنفسج

"رمضان جانا": رمضان في مصر المحروسة

الأحد 03 ابريل

"رمضان كريم"؛ جملة يمكنك أن تسمعها وتراها في كل ربوع مصر المحروسة حتى من قبل حلول الشهر الكريم بأيام طويلة. ينتظر الناس، في مصر، قدوم رمضان كمن ينتظر ضيفًا غاليًا بعد غياب عام كامل، فتجد الناس مترقبين ليلة رؤية هلال رمضان، فإذا أهلّ علينا انطلق الأطفال في الشوارع فرحين، وبدأ الناس في تبادل التهاني والمباركات، ويصل إليك من كل جانب نشيد رمضان المصري الرسمي بصوت صاحبه المطرب محمد عبد المطلب "رمضان جانا"، واستعد أبطال هذا الشهر النزول إلى ساحة أجمل معارك العام.

فمن هم أهم أبطالنا الموسميين خلال شهرنا الكريم؟ فلنبدأ ببائع الفول أو "الفوّال"، وهو أول من ينزل إلى الشارع فور إعلان رؤية هلال رمضان، بطل مائدة السحور الأشهر للمصريين طوال رمضان، فالفول، كما يقول المثل المصري "مسمار المعدة"، وبدونه أنت جائع لا محالة. إلى جوار الفوّال، تجد بائع الفطير "الفطاطري"، شخصية أخرى من الشخوص الرمضانية المصرية التي لا غنى عنها، وإلا، فمن أين نأتي بحلوى الكنافة والقطائف طوال الشهر؟

| رمضان جانا

اشتهرت الكنافة والقطائف كأصناف حلوى رئيسية خلال شهر رمضان، وإن اختلفت طريقة إعدادهم في السنوات الأخيرة عما اعتدناه سابقًا، فابتكرت بعض المحال الحديثة حشوات مبتكرة لهم مثل الشوكولا والمانجو والكريمة، وأصبح الناس ينتظرون كل عام الابتكارات الجديدة في حشو الكنافة، حتى أنه قد ظهرت بعض النكات على منصات التواصل الاجتماعي للسخرية من هذه الابتكارات الجديدة.

وفي معرض الحديث عن المهن المرتبطة بالشهر الكريم لا يمكننا إغفال مهنة عتيقة، تولد ليلة رمضان وتختفي ليلة العيد وهي مهنة "المسحراتي". والمسحراتي عادة ما يكون رجلًا يجوب الشوارع ليلًا حاملًا معه "طبلة" يضرب عليها لإيقاظ الأهالي قبل الفجر ليتناولوا وجبة السحور، ومن هنا أتى اسمه "المسحراتي". وهي مهنة منتشرة حتى الآن برغم توافر كل الوسائل التكنولوجية من منبهات وهواتف محمولة إلا أن مهنة المسحراتي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

الفوال.jpg
الفوال في مصر

الآن نأخذكم في جولة في شوارع مصر المحروسة لنرى كيف يحتفل المصريون بقدوم رمضان. ها هي الزينات والفوانيس معلقةً في كل مكان، أمام البيوت والدكاكين وفي شرفات البيوت. وللزينة والفوانيس في مصر قصص وحواديت وطقوس، ففي المناطق والأحياء الشعبية يتنافس أبناء الشوارع والحارات المتجاورة على تزيين شوارعهم في الأسابيع القليلة السابقة على رمضان لتتحول هذه الشوارع والحارات إلى ساحات احتفالية بهيجة تستطيع بمجرد مرورك منها أن تتنسم روائح البهجة الطفولية احتفاءً بقدوم رمضان.

| شوارع المحروسة

ش.png
شوارع مصر

أما الفوانيس، فلها قصة أخرى، هي عادة ضاربة في القدم، آتية إلينا من حواديت التاريخ - كما هو الحال مع معظم عادات المصريين - توارثها الآباء عن الأجداد عن أجدادهم رجوعًا كما تقول بعض الروايات إلى العصر الفاطمي، فلا تكاد تمر من مكان إلا ومعلقة فيه الفوانيس، وقد تغنى كبار المطربين المصريين بالفوانيس معبرين عن قدر اهتمام المصريين باقتنائه وصناعته وتزيينه استعدادًا لاستقبال شهر رمضان.

بداية، من اليوم الأول في شهر رمضان تمتلئ شوارع المحروسة بالعشرات من الموائد التكافلية "موائد الرحمن"، والتي يقيمها أفراد ومؤسسات بشكل تطوعي تمامًا لإفطار الصائمين غير قادرين أو المارين في الشوارع وقت أذان المغرب، فتمتلئ موائد الرحمن بما لذ وطاب من الأطباق المصرية المشهورة بخلاف المشروبات الباردة والساخنة، ضاربين مثالًا مدهشًا في البذل والكرم. فلن يمر عليهم مار إلا وقد ألحوا عليه إلحاحًا للقدوم للإفطار على مائدتهم كي لا يحرمهم من أجر وثواب إفطار صائم.

موائد.jpg
تجمع للإفطار في محافظة قنا

والآن لندخل إلى أحد البيوت التي قد استعدت هي الأخرى بتعليق الزينات والفوانيس على الشرفات، ولنتعرف كيف تحتفل البيوت بالشهر الكريم. بيوت المصريين لا تخلو أبدًا تقريبًا من الضيوف طوال رمضان، فهم إما عازمين أو معزومين، بالطبع، في ظل أزمة جائحة كورونا التي تمر بنا منذ رمضان الماضي، ولا زالت تلقي بظلالها على الأجواء العامة في رمضان هذا العام، قد تخففت البيوت والأهالي من هذه الزيارات. وإن كان لا يخلو الأمر من طبق ممتلئ هنا من الجارة إلى الجارة، والذي لا يمكن أبدًا أن يعود إلى صاحبته إلا وقد امتلأ مرة أخرى بما لذ وطاب.

| صوت رمضان "محمد رفعت"

لم تكن أبدًا استعدادات المصريين بالمواسم والمناسبات الدينية منحصرة في المظاهر الاحتفالية، فالمشاعر الدينية متشابكة ومتضافرة بشكل عميق وبديع مع مشاعرهم الاحتفالية كقطعة فنية رقيقة. فكما يحتفي المصريين في رمضان بالعزائم والولائم والموائد والزينات، فالمساجد وصلاة التراويح وقراءة القرآن جزء لا يتجزأ من هذه الأجواء الاحتفالية، بل هي لبّ هذه الاحتفالات. فمع بداية شهر رمضان تفتح المساجد، وتزدحم بالمصلين لصلاة التراويح رجالًا ونساء وأطفالًا، لكن مع التدابير الاحترازية التي تتبعها الدولة في ظل الكورونا، تم اختصار هذه التفاصيل إلى حد كبير منعًا للتزاحم وانتقال العدوى.

ولنا هنا وقفة مع تلاوة القرآن الكريم؛ فرمضان هو شهر القرآن، ففيه أُنزل، وفيه ليلة القدر، والتي يولي لها المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا، اهتمامًا بالغًا. فمصر كما يقول البعض هي "دولة القرآن الكريم"، فأخرجت إلى العالم أصحاب أجمل الأصوات في تلاوة القرآن الكريم. وقد ارتبط شهر رمضان ببعض هذه الأصوات، فها هو المذياع تنساب منه تلاوة خاشعة للشيخ محمد رفعت، واحد من علامات القراء السابقين في تلاوة القرآن الكريم، والذي ارتبط صوته في وجدان المصريين جميعهم بشهر رمضان الكريم.

أما بمجرد انطلاق مدفع الإفطار، وبعد أذان المغرب، فيتسلل إلى أذني المستمع صوت آخر من الأصوات الرمضانية الأصيلة مع تواشيح الشيخ سيد النقشبندي الشهيرة، والتي باتت علامة من علامات الشهر. لا ينتهي احتفال المصريين في رمضان عند هذا الحد، فليالي رمضان لها سحر خاص، وإن اختلف الناس في طريقة قضائها؛ فمنهم من يمضيها في عبادة وتهجد وتراويح، ومنهم من يستمتع بالسهر مع الأصحاب على المقاهي في أحياء القاهرة القديمة، ومنهم من يمارس لعب الكرة في دورات ومسابقات رمضانية بين الأصدقاء، وهكذا حتى مطلع الفجر، ليشرق على المحروسة شمس جديدة ليوم رمضاني جديد، نسأل الله أن نكون فيه من الغانمين لا الخاسرين.