فاض بنا الحنين والشوق للقاء شهر رمضان المبارك، بدأنا بإعداد الزينة مما تيسّر لنا من أوراق وألوان وخيوط نسلناها من ملابسنا، هيّئنا ألسنتنا لنضاعف ذكر الله، وأشبعنا الفؤاد بمزيد من الأمل، ووعدنا العيون بألاّ تدمع، باركنا رمضان فيما بيننا وعقدنا العزم أن يكون دعاؤنا بالتحرير لنا ولإخوتنا في سجون الصهاينة.
جاء اليوم الأول وكأنه عيد، فرحٌ وابتسامات أغاظت السجانات والسجانين، تناثرنا وتعاركنا فيما بيننا، على تحضّير الطبق الرئيس، ومن تجهّز المقبلات، ومَن تفتح المعلّبات، ومن تحضّر الحلويات. حتى "حلوة حمامرة" التي كانت تهرب دائمًا من مهمة التقطيع، فاجـأت الجميع هذا اليوم بالمبادرة لتقطيع البندورة باستخدام الغطاء المعدني الحاد لعلبة المخلل والذي نخبئه عن السجانات خوفًا من مصادرته.
مجال مغناطيسي من الفرح جذبنا كلنا لنعدّ إفطار اليوم الأول من شهر رمضان لعام 2016، فرشنا الأرض بأغطية النوم، وأحطناها بوسائدنا التي ننام عليها، ووزعنا الأطباق ممّا صنعت أيدينا وما اجتهدنا بإعداده من القليل القليل الذي توفّره إدارة السجن، وافترشنا جميعًا الأرض في حلقة جمعت الأرواح قبل الأجساد، وعمّ الصمت المكان، فأسير في القسم المُجاور لنا يُسعدنا بالتكبير ساعة الإفطار، وما أن سمعنا "الله أكبر الله أكبر"، خنّا الوعد ونكثنا العهد وفاضت الدموع في المآقي، ورجف القلب، فأيقنّا أننا لم نَصُم يومنا عن الطعام والشراب والمعاصي فقط، بل وعن أحضان أمهاتنا وآبائنا وضحكات أطفالنا، فلم يذهب ظمأنا ولم تبتل عروقنا إلا من رحمة الله، ودعوناه أن يثبّت أجرنا في يومنا هذا.
طبطبت وهدهدت كلٌّ منّا مشاعر الأخرى، "نسرين دموعك مالحة لشو بتوكلي وبتعيطي"، "وإنتي يا حلوة إن ما أكلتي إلا آكل أكلاتك"، دمعة هنا وضحكة هناك، ولكن السجانات استكثرن علينا هذا، وعز عليهن ان نأكل لقيماتنا بما يشيه الهناء والوفاق، فباغتنا السجانون بالقدوم للغرف من أجل العدد الأخير، فقفزنا نلبس حجابنا ونتمسمر كلُّ منّا إلى جانب البُرش الخاص بها كما تنص تعليماتهم، فلا مناص من التعليمات الدكتاتورية في السجون الإسرائيلية، ولا تشفع لنا مائدة رمضان من العدد القميء، بل هي فرصة كالغنيمة لسجانين حاقدين من أجل إذلالنا والتنغيص علينا في كل لحظة وكل حين، واظهار عدم احترام لحظاتنا الدينية.
في السجن فوانيس مُضاءة قلوبها، تنتظر حرّيتها لتخرج وتزيّن بيوتها وحاراتها ووطنها، فوانيس لا تنطفئ أبدًا.
انتهى العدد وعُدنا لإتمام فطورنا الدامع، وما أن انتهينا حتى بدأت حالة الطوارئ داخل الغرف، فعددنا كبير، وكلّنا تريد التوضؤ والاستعداد للصلاة، وقفنا طابورًا لنتمكن من استخدام المرحاض الوحيد في الغرفة، وكنّا قد وجدنا في عبوة العصير البلاستيكية منفعة، فهي جيدة لتعبئتها بالمياه اللازمة لطهارة البدن، وما إن تخرج أسيرة لتدخل أخرى مكانها، وتنتقل الأولى للمغسلة الوحيدة بالغرفة والتي تُسعفنا في كثير من الأوقات، فنحن نستخدمها لغسل الوجه وتنظيف الأسنان صباحًا، وللوضوء لكل صلاة، ولتنظيف الأواني، وللحصول على مياه الطبخ والشرب وشطف الأرض وغسل الملابس.
حان الآن موعد معركة جديدة من معاركنا المحببة، فمن ستكون إمامنا في الصلاة، فالسباق لكسب الأجر لا بّد منه، لكن الامر لم يدم طويلًا، نوينا الصلاة بقلوب خاشعة مُسلِمة مُسَلِّمَةٍ أمرها لله وحده لا شريك الله، ركعنا له سبحانه العظيم، وسجدنا لربنا الأعلى، دعوناه أن يفرج همّنا ويفك كربنا ويَرُدنا إلى أهلنا ردًا قريبًا جميلًا مباركًا فيه.
ما أن أتممنا صلاتنا حتى تناثرنا، كلٌّ منّا على بُرشها تذرف وحدها ما حقنت من دموع، أو تُمسك بكتاب الله عزّ وجلّ وتتلو آياته، أو تلمس وجه أطفالها في الصور القليلة التي حصلت عليها في إحدى الزيارات، أو تطلق خيالها لتنضم لعائلاتها في ساعات ما بعد الإفطار، أو.. أو.. أو.. في السجن فوانيس مُضاءة قلوبها، تنتظر حرّيتها لتخرج وتزيّن بيوتها وحاراتها ووطنها، فوانيس لا تنطفئ أبدًا، ننتظرها لتصبح أيامنا كلّها رمضانية مباركة، نحتاجها ليكتمل نور الحريّة في قلوبنا، فلن نكون أحرار ما دام لنا أسيرًا واحدًا في السجون يُعاني رِجس الاحتلال الصهيوني.