بنفسج

مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش

السبت 04 يونيو

وجهٌ شاحبٌ، عينان ناعستان، جسد منهك، وأنفاس تُحلّق ثم تعود من فرط توترها، تحاول أن تسترق نظرة لترى من هم أمامها ولكن العصبة السوداء تفتك برأسها وتغطي عيناها الخضراوتين، تذكرها بأنه لا مفر من الظلام الدامس الآن، فأمامها سجان لعين، يخفق قلبها بسرعة البرق تود لو سُمح لها أن تضع يديها عليه لتهدأ من روعه، ولتستوعب أنها ليست على مكتبها لتدرس لامتحانها المقرر صبيحة الغد، ولكن قيد يديها كان أقوى، ذهنها تركته برفقة كتابها التي كانت منهمكة معه في غرفتها قبل أن يقتحم منزلها الاحتلال.

قطعة سوداء مشدودة على عينيها بعنف، يظنون أنهم يمنعون عنها الرؤية هكذا، ولكنها كانت تشعر بخطوة المحققة حين تقترب لتصفعها على وجهها دون مقدمات، ثم تمسك بشعرها بشدة، والمحققة الأخرى تبث السم في أذنها "رح تنحكمي عشرين سنة أقل شي، هنعتقل أهلك، مش رح تكملي دراستك"، لعب على وتر نفسيتها بالمزامنة مع العنف الجسدي، لم يكف تعذيبها بكل وسائل التعذيب، بل تعمدوا إسماعها أصوات الأسرى وهم يُعذبون في غرف التحقيق المجاورة، فكان صوتهم يخترق قلبها لا أذنها. على الكرسي المهترئ تجلس مقيدة اليدين، بالرغم من أنها معصوبة العينين إلا أنها تحاول فك قيد يديها ونجحت أكثر من مرة، حتى جُرحت يداها وتناثرت منهما الدماء.

| اعتقال دون وجه حق

ميس أبو غوش، طالبة صحافة وإعلام في جامعة بيرزيت، اعتُقلت في 29 أغسطس من العام 2019، كانت تقرأ عن أساليب التعذيب وأنواعها فتحولت إلى نموذج للتجربة، تعلمت أن السمع عن الشيء ليس كالتعرض له، لا شيء كما وُصف، كله أقسى مما عرفت.
 
تقول: "ليلة الاعتقال كانت مفاجِئة جدًا بالنسبة لي، طرقات جنود الاحتلال على الباب كانت مزامنة مع وجودي على مكتبي لأدرس لامتحاني في اليوم التالي، اقتادوني في المخيم بكلبشات بلاستيك في يديَّ، وحجبوا الرؤية عني، وتم نقلي لغرف التحقيق، وبدأ الضغط عليَّ للاعتراف بشيء لا أعلم عنه شيئًا.

ميس أبو غوش، طالبة صحافة وإعلام في جامعة بيرزيت، اعتُقلت في 29 آب/أغسطس من العام 2019، كانت تقرأ عن أساليب التعذيب وأنواعها فتحولت إلى نموذج للتجربة، تعلمت أن السمع عن الشيء ليس كالتعرض له، لا شيء كما وُصف، كله أقسى مما عرفت، تقول: "ليلة الاعتقال كانت مفاجِئة جدًا بالنسبة لي، طرقات جنود الاحتلال على الباب كانت مزامنة مع وجودي على مكتبي لأدرس لامتحاني في اليوم التالي، فتشوا وكسروا بيتي، ومصادرة هويتي الشخصية وهاتفي المحمول وحاسوبي، وأيضًا حاسوب العائلة. اقتادوني في المخيم بكلبشات بلاستيك في يديَّ، وحجبوا الرؤية عني بقطعة على عيني، وتم نقلي لغرف التحقيق، وبدأ الضغط عليَّ للاعتراف بشيء لا أعلم عنه شيئًا، قلت لهم مرارًا أنا طالبة جامعية وعملي في أروقة الجامعة عمل نقابي وهذا العمل مسموح به في كل دول العالم".

ممر طويل، لا ترى شيء سوى ظلام لا نهاية له، تفرك يديها بغية التخفيف من آلام "الكلبش"، تسير مرغمة لتدخل لتحقيق استمر لثلاثين يومًا، دون أن يُسمح لمحاميها بمقابلتها، تضيف ميس لـ "بنفسج": "كنت أتعرض لضغط نفسي وتعذيب جسدي لإجباري بالاعتراف بلائحة أُعدت من طرفهم، ومُدد لي اعتقالي أكثر من مرة في سجن المسكوبية، وطوال فترة التحقيق العسكري الذي استمرت لثلاث أيام شتمت بأفظع الشتائم، وهددت بعائلتي، وبالفعل، تم اعتقال أخي الصغير وحُكم عليه إداريًا في محاولة منهم لترهيبي".

ميس.jpg
ميس أبو غوش

تنال على كفها الأيسر صفعة تليها صفعة، ثم يتلوه تعذيب بالشبح على الجدار، تُجبر على الوقوف على الحائط وهي حتى لا تراه، ثم تكونا بجانبها محققتان يقومان بالضغط على كتفيها حتى تُطبع علامات أيديهن على كتفها، ثم يبدأن بتجربة أسلوب تعذيب جديد، الموزة، وما أدراكم ما الموزة! شبح بطريقة وحشية، تجعل الضحية في حالة مزرية، تجلس على كرسي ظهره إلى الجنب والأرجل مثبتة بزاوية قائمة مع الكرسي، واليدين غير مقيدتين، والرأس ينزل للأسفل لتصبح على شكل الموزة، محققة تقف عند رأسها لتوشوش في أذنها أفظع التهديدات، والأخرى عند قدميها تبتزها مع الأولى، ووسط كل هذا يسمعونها أصوات المعتقلين الذين يُعذبون بالتحقيق.

"رح نحطك بمشفى المجانين، مش رح تطلعي من هون"، جلست في ممر طويل على كرسي "الشبح" تنتظر المجهول، وتستمع لأقسى التهديدات، وصوت الأغاني عالٍ جدًا يفتك برأسها، فتأتي لها المحققة لتمزق شعرها وتصفعها على وجهها، ثم يدخل ضابط كبير "هكذا عرف عن نفسه"، التقط صورة لميس وقال: "هذه للذكرى". تكمل: "التحقيق كان يستمر لساعات، والزنازين سيئة جدًا، وباردة للغاية، أذكر أنني في مرة جاءتني الدورة الشهرية فطلبت اللوازم وأن أذهب للمرحاض، لم يعطوني ما أريد، انحرمت أيضًا من النوم ومن الماء والطعام إلا إذا قلت لهم كلمة معينة، مثلًا؛ لو سمحت".

| رفقة الأسر

 
بدأت ميس مرحلة جديدة في المعتقل مع رفيقات السجن، فكانوا بمثابة عائلة ثانية بالنسبة لها، لقد اقتربت منهن وسمعت آلامهن وظروف اعتقالهن القاسية، تقاسمن الهمّ معًا، أحببنها وأحبتهن، تعلمت أشياء جديدة معهن، كن يقرأن سويًا ويلعبن ويمارسن طقوسهن الخاصة، يصنعن الضحكة من اللاشيء، تعلقت بهن وتعلقن بها.
 
"في ساحة السجن وقفت لأعطيهن دورة في أساسيات الصحافة، وفي المقابل، تعلمت العبرية برفقتهن، تبادلنا المعلومات التاريخية، لعبنا لعبة الشدة، وصنعنا كيكًا من بسكوت الشاي لأن الدقيق ممنوع من الدخول لنا.

بعد انتهاء جلسات التحقيق انتقلت ميس إلى سجن الدامون، وحينها سمح لها بلقاء المحامي في محكمة "عوفر"، فتنفست الصعداء، تقول: "لقد تم محاكمتي بنظام الصفقة لا المرافعات، المحامي استغل التعذيب الذي تعرضت له للتخفيف من حكمي، تم الحكم عليَّ 16 شهرًا مع غرامة مالية. حين تمت محاكمتي شعرت شعورًا صعبًا للغاية، كنت متأملة أن أعود لمنزلي في أي وقت، فأصبح هناك حكم بالسجن. مررت بلحظات صعبة جدًا، ولكن هم يضعونا بالمعتقل ليكسروا من عزيمتنا، ولكن كان يجب تحدي كل الصعاب مهما كانت".

بدأت ميس مرحلة جديدة في المعتقل مع رفيقات السجن، فكانوا بمثابة عائلة ثانية بالنسبة لها، لقد اقتربت منهن وسمعت آلامهن وظروف اعتقالهن القاسية، تقاسمن الهمّ معًا، أحببنها وأحبتهن، تعلمت أشياء جديدة معهن، كن يقرأن سويًا ويلعبن ويمارسن طقوسهن الخاصة، يصنعن الضحكة من اللاشيء، تعلقت بهن وتعلقن بها، تضيف: "لقد كنا كالعائلة؛ نقسّم المهام اليومية؛ منا من يطهو، ومنا من يتولى أمور التنظيف وغيرها. في المعتقل، عرفت معنى العيد؛ لم أكن أحتفل بالأعياد أو أصنع طقوسًا كبيرة لها، وأيضًا لا أهتم لأعياد الميلاد، ولكن في السجن كنا نتعمد نحن أصحاب الأحكام المنخفضة أن ننشئ جوًا لطيفًا للأسيرات من ذوات الأحكام العالية ونحتفل بكل مناسبة، فهي فرصة لنا للتخفيف عن أنفسنا".

ميش وشذى حسن.jpg
ميس أبو غوش مع الأسيرة المحررة شذى حسن وسماح جردات

"في ساحة السجن وقفت لأعطيهن دورة في أساسيات الصحافة، وفي المقابل، تعلمت العبرية برفقتهن، تبادلنا المعلومات التاريخية، لعبنا لعبة الشدة، وصنعنا كيكًا من بسكوت الشاي لأن الدقيق ممنوع من الدخول لنا، أكلات السجن محدودة نظرًا لأن العديد من الأشياء ممنوعة عنا، تعلمت أن أصنع الكنافة وأنا التي لم أكن أعلم عن المطبخ الكثير، وأخبرت أمي في كل زيارة بكل ما أفعله مع الأسيرات، أخبرتها عن كل أكلة، عن أكلتي المفضلة الزهرة باللبن التي أكلتها من تحت يدي الأسيرة أمل طقاطقة، لقد تعاملت مع السجن كمحطة في حياتي، كنت أقول وكأننا في سكن يجب أن ننجز فيه الكثير من الأمور". تقول ميس.

قصص كثيرة لا تسع الكلمات لقولها، منها الحزين والطريف، مرت الأيام بحلوها ومرها حتى جاء اليوم الموعود للإفراج المبكر عن ميس، فكل أسيرة يمكن أن تتحرر قبل قضاء مدتها الكاملة بشرط أن يكون حكمها أقل من أربع سنوات، من حظّ ميس أن القرار كان مفعّلًا حينها، فخرجت قبل انتهاء محكوميتها بثلاثين يومًا، لم تتوقع أبدًا أن تغادر المعتقل حتى آخر لحظة، راودها شعورًا غريبًا تريد الحرية، وفي ذات الوقت لا تريدها أي شعور هذا كانت تتساءل!

أحبت رفيقات الأسر حتى عزّ عليها الفراق، انتابها الخجل منهن ليلة الإفراج؛ كيف ستغادر وتتركهن ولا تراهن إلا بعد سنوات وسنوات، إن كُتب لهن لقاء، لقد كان إحساسًا صعبًا على ميس. في حفلة الوادع لم تستطع التعبير والتصديق أنه قد انتهى. في المركز، حينما خرجت للتوقيع على ورقة الإفراج، كانت تنتظر في غرفة الانتظار بالسجن، فطلبت من السجانين أن تذهب للمرحاض المتواجد عند الأسيرات فرفضوا إرجاعها مرة أخرى، فكانت أكبر غصة لميس أنها لن تستطيع رؤيتهن لآخر مرة.

| "كل مر سيمر"

ميس1.jpg
ميس أبو غوش يوم الإفراج عنها

جربت البوسطة مرارًا وتكرارًا، وهي من أصعب يمر به الأسرى والأسيرات، وارتدت "الشباص" أي الزي الذي يرتديه الأسرى مرغمة. البوسطة التي تنقل بها الأسيرات شيء غير آدمي ضيقة جدًا، لا مكان فيها لتحرك نفسك، تجلس مكبل اليدين والقدمين، والحديد صريره من حولك يضرب في عقلك، والنافذة حديدية لا ترى من خلالها شيئًا سوى فسحة من السماء، شكلها حافلة نقل، ولكنها قبر مصغر يمنع الأسير من حتى إدارة وجهه بيسر، شديدة الحرارة صيفًا، وباردة شتاءً.

سارت ميس بعدها نحو المصير المعلوم وركضت بكل شوق لأحضان العائلة بعد حرمان دام لـ 15 شهرًا، تزينت بالكوفية الفلسطينية الحمراء، وشعرها القصير يتنسم هواء الحرية، وعيناها تنعم برؤية الأحبة، لم تكن تصدق بعد أن هذا ليس حلمًا وأنه حقيقة، تحاول استيعاب ما جرى والخروج من صدمتها، في أول ليلة في سريرها بكت حين استيقظت ولم ترَ رفيقات الأسر حولها، ظلت تتذكرهم لفترة وتقول: "يا ترى ماذا يفعلون؟ ماذا تناولوا طعامًا اليوم؟ ظلت لفترة بعد تحررها مصابة بفقدان الشهية اشتياقًا وألمًا على فراق أحبتها في المعتقل.

ماذا غَّير فيكِ السجن يا ميس؟ تجيب "التجربة أصبحت شيء واقعي بالنسبة لي، عايشتها عن قرب، غيرت من طريقة تفكيري، وتعلمت العديد منها فمثلًا تعلقت بالحياة أكثر، علمت قيمتها، وبت أهتم بتفاصيل الأمور". بعد الإفراج عن ميس بأربع أيام، ذهبت لمقابلة سلطات الاحتلال، تقول: "أثناء المقابلة تعرضت للتهديد من جديد وقالوا لي لن تنهي جامعتك، ستسجلين الفصل الدراسي وسنعاود اعتقالك من جديد".

"كل مر سيمر"، "ولا يبقى في الواد غير حجارة"، هكذا كانت تهون ميس على نفسها، ظلت ترددها طوال فترة التحقيق، فهي تؤمن أن كل شيء سيزول لا دوام لحال في هذه الحياة، تطمح ميس أن تنهي دراستها الجامعية وأن تعمل في حقل الصحافة والإعلام.