هل المقاهي والمطاعم ومواقع التواصل الاجتماعي تُشكّل شخصياتنا وتصوراتنا وتصرفاتنا في هذا العالم؟ هل ضاعت روح المنزل بين زحام الصور ومقاطع الفيديو، واللحاق بركب السعي إلى المكانة؟ هل المكوث في المنزل وقت الجائحة أعاد دوره الضائع؟ متى تحول المنزل إلى معرض يعبر عن المستوى المادي، وصك للحصول على القبول الاجتماعي؟ أسئلة تدفعك للبحث عن إجابة سؤال متى تحوّل المنزل من مكان إلى لا مكان، ولم يعد له تأثير كتأثير المنزل البديل؛ المطاعم والمقاهي ومواقع التواصل الاجتماعي وصالات الانتظار، والمواصلات.
| هل أصبح البيت نوع من اللاأمكنة؟
كان كل ما يحيط بالإنسان في الماضي القريب، هو المنزل كوحدة أساسية بتفاعلاته وحواراته وممارساته اليومية، وأفراد العائلة والجيران والحي الذي يعيش فيه، الباعة والمدرسة والمستشفى والجامع. وكلها مكونات ثابتة، نوعًا ما، ثابتة جغرافيًا وثابتة في الوظيفة وشكل التواصل معها، متقاربة في المسافة وفي اللغة والاحتياجات. أما اليوم، فقد غابت المنازل عن الحضور والتأثير في حياة الفرد، وحل محلها مواقع التواصل الاجتماعي و(لا أمكنة) أخرى كالمقاهي والمطاعم، وما شكلته من تفاعلات جديدة، ومفروضات وتصورات جديدة. اللا أمكنة هي كل مكان نرتاده لا نحمل له أية ذاكرة تاريخية، لا سمة ثابتة له تشعرك بالاستقرار أو الانتماء إليه، وهو وصف أستاذ الأنثروبولوجيا الفرنسيّ مارك أوجيه في كتابه (اللاأمكنة)، أنها فضاء السرعة والعبور المؤقت.
لا يكون المكان مكانًا إلا بما ينسج ويثبت فيه من رموز ومعان، عبر العلاقات، والتفاعلات، والحوارات.
مع هجرة الإنسان في العصر الحديث إلى هذه الفضاءات العابرة، تحول المنزل هو ذاته إلى (لا مكان) أي مساحة عابرة، يقتني فيها ما يعبر عن درجته الاجتماعية وما يكفي لالتقاط صورة يضعها على الإنترنت، ليشعر بالرضا أو السعادة والقبول الاجتماعي. بل وأصبح مجرد محل يلتقي فيه أفراد الأسرة للنوم، وتناول الطعام في أوقات متباينة بلا عادات تُشعر أفراد المنزل بأجواء الاستقرار، وفقدت الجدران والأدراج والطاولات البعد النفسي، والشعور بالثبات والاستقرار التي كانت تكسبه لأفراد الأسرة عندما كان الناس يسكنون منازلهم في الماضي القريب.
المقصود بالمنزل هنا المنزل كبعد نفسي، المنزل بما يتضمنه من طقوس تعبر عن الخبرات التي تتشكل في وعي أفراد الأسرة. التجمعات العائلية، العادات والتقاليد في المناسبات الدينية، نمط حياة كل أسرة، إننا نتحدث عن المنزل المكان، ولا يكون المكان مكانًا إلا بما ينسج ويثبت فيه من رموز ومعان، عبر العلاقات والأحاديث، والتفاعلات، والحوارات.
| متى حدثت هذه الهجرة الجماعية من المكان إلى اللامكان؟
تتأثر العادات والممارسات الاجتماعية والطقوس والعادات في المناسبات الدينية والاجتماعية بالتغيرات التي تطرأ على المجتمع، فالمجتمعات الحديثة كمثال شديدة التأثر بالقوة الرمزية، كقوة المشاهير وأدوات التسويق، ومن ضمنها الحاجة التي يصنعها وتتقدم في سلم الرغبات إلى درجة الحاجيات الضرورية، والمفروضات الاجتماعية الجديدة التي تفرضها هذه المؤثرات.
فإذا كان الناس في الماضي يعيشون في منازل لها طابع اجتماعي تشاركي حميمي، فاليوم بعد الهجرة إلى التجمعات السكنية الجديدة، والهجرة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ومع النزعة الفردية والقلق من الغرباء، والرغبة في التمرد على كل مفروض في صورة عادات وتقاليد قديمة، تنحى تأثير المنزل جانبًا واختفى البعد النفسي الذي كان يشكل شخصيات أفراده، وتحول المنزل إلى فضاء أشبه بمساحة للعبور المؤقت، يلتقي فيها أفراده صدفة خلال مرورهم بين أرجاء الإنترنت أو المقاهي والمطاعم وصالات الانتظار. واختفى دور المكون الذي كان يشكل الإنسان، وتصوراته عن العالم، والتي تتغير معها عاداته وتفاعلاته الاجتماعية، وهكذا، فهي تصورات وتصرفات تشكلنا ونشكلها في آن واحد.
إن المنازل بمثابة الجلد الثالث، فهي التي تحيط بجسد الإنسان بعد جلده، وهي الملجأ للإنسان.
يغفل الكثيرون عما تتركه الأماكن من أثر في النفس، والمنزل في السابق كان الوحدة الأساسية المؤثرة في شخصية الإنسان، ومكون أساسي له دور في تشكيل ذاكرة الإنسان ومخيلته. يقول المعماري حسن فتحي: إن المنازل بمثابة الجلد الثالث، فهي التي تحيط بجسد الإنسان بعد جلده، وهي الملجأ للإنسان. ويحضر هنا مفهوم بورديو[1] (الهابتوس)، والذي يمكن أن نعرفه بأنه أشبه بما يتراكم في لا وعي الإنسان من خبرات وتاريخ من التفاعلات الاجتماعية تشكل إدراكه للعالم من حوله، أي أنه خلاصة الخبرات التي اكتسبها الإنسان في الماضي القريب والبعيد وتجعله يُعرف الأشياء والعلاقات والعالم من حوله، فتنشأ تصرفاته بناء على هذه التصورات.
تغير الهابتوس في البيئة العربية بتغير مكوناته الأساسية، فإذا أخذنا نقطة بداية، وكانت مثلًا، المكون الذي تغير على المجتمعات والقبائل والشعوب في بدايات الفعل الحضاري الإسلامي والذي أسس لنظرة الإنسان للدنيا وما بعد الحياة، فتغيرت نظرة الفرد لنفسه ولمنزله وأسرته وعلاقاته وتجارته بناء على إيمانه بالحياة الآخرة. فإن هذا المكون تأثر مع مرور الزمن بمكونات أخرى متتالية، كالمكون الذي أحدثه الاستعمار والبعثات الأجنبية إلى المنطقة، ثم العولمة، وبعض المكونات الأخرى التي أحدثت تأثيرًا على المجتمعات العربية كالنهضة والتنمية البشرية وما خلقته لدى الفرد من الحاجة إلى التميز والتفرد، ثم عصر الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي التي عززت التمحور حول الذات، وأصبح للزمن أولوية على المكان، كل ما هو يجلب السرعة ويوفر الزمن له قيمة لدى الإنسان الحديث على حساب المكان.
فبدأ المكان بالتنحي، المكان المنزل و(السكن) الذي كان يمثل الجذر الذي يغذي مشاعر الأمان والحماية، ويلجأ إليه الإنسان من القلق والخوف، ويرتمي بين جدرانه، وأثاثه ورائحته وطقوسه اليومية، المكان (العائلة الكبيرة) و(القبيلة) الذي كان مكونًا أساسيًا في الهابتوس العربي حتى وقت قريب.
| الحاجة إلى المكان
إذا كانت الطبيعة البشرية بحاجة إلى الشعور بالاستقرار والأمان، فالحياة الحديثة لا تمثل شيئًا من هذا الأمان أو الاستقرار، فكل شيء فيها متسارع، حتى سلوك الناس من حولك وأفكارهم، ولا شيء يسد الحاجة إلى الانتماء، والخصوصية. هذه اللا أمكنة مع كونها تعطي شعورًا بالتحرر من كل المفروضات الاجتماعية، والعلاقات، والروتين، إلا أنها تفقد الإنسان علاقته مع (المكان) والبعد النفسي الذي تخلفه الأمكنة في تكوين الشخصية.
مشاعر القلق والخوف وعدم الاستقرار، وغياب الخصوصية من سمات العصر بسبب ضغوط الحياة وتقلباتها المتسارعة، لن يعالجها المنازل البديلة؛ المقاهي والمطاعم، ولن توفره منازل جافة يلتقي فيها أفرادها خلال مرورهم بين أزقة مواقع التواصل الاجتماعي، والمقاهي. بل تحتاج إلى روح المكان، تحتاج إلى المنزل الذي لا يحمي فقط من الرياح والعواصف والنوم في العراء، ولكن يحمي من الضغوط الخارجية، والقلق والخوف، وغياب الخصوصية.
إن الوعي بالمنزل كسكن والبعد النفسي الذي يتركه في النفس، يغير من نظرة الإنسان إلى الكثير من الأشياء حوله، لأن المنزل السكن والمكان سيصبح مطلبًا في حد ذاته. الكثير من المفروضات المادية المكلفة وباهظة الثمن ومرهقة نفسيًا، وضاغطة عصبيًا ستختفي عندما يعيد الإنسان نظرته إلى المنزل، ويبذل القليل فقط كي يعيد علاقته الفطرية بالمنزل المكان، والمنزل السكن، بما سيتركه داخله من أثر نفسي وسد حاجته للأمان والانتماء، والاستقرار والثقة التي غابت عنه في ظل عالم متغير متسارع.
| المراجع
[1] معتوق، فريد. الهابيتوس العربي العنيد والعتيد. مجلة عمران. ع12/3، ربيع 2015. ص139-155.
[2] مارك أوجيه. اللّاأمكنة، مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة. الطبعة الأولى. ت: ميساء السيوفي. هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2018.
[3] آلان دو بوتون. السعي إلى المكانة. ت: محمد عبد النبي. القاهرة: دار التنوير.
[4] بورديو – عالم الاجتماع الفرنسي.