بنفسج

أحلام اغتيلت بكاتم صوت: أتعود لوطنك برفقة تابوت؟

السبت 04 يونيو

أيسافر المرء لمسقط رأسه برفقة تابوت؟ يا لها من مفارقة محزنة، إيناس قُدر لها السفر برفقة أطفالها والتابوت المسجى، فيه زوجها الغارق بدمائه التي تفوح منه رائحة المسك، تناظره تارة، ثم تنقل بصرها الذي تغبش من فرط بكائها وألمها على أطفالها الثلاثة، 13 ساعة في سيارة واحدة مع جثمانه، كان المخطط والصورة المتوقعة أن يعودون أربعتهم سويًا، إلى أرض الوطن، يومًا ما، يحمل هو أسيل ويداعبها وفي حضنها محمد ودعاء، ولكن رصاصات الغدر الصهيونية طالت حبيبها ورفيق غربتها فأودته شهيدًا، أربعة عشر رصاصة نالها فادي، فاتخذت كل منها موضعًا في جسده، لكنها لم تنل من جماله شيئًا. في لحظات الفجر الساكنة صعدت الروح لبارئها، والتي كانت متوجهة لإمامة المصلين لصلاة الفجر، وحين تأخر فادي تطوع إمام آخر ليقوم بالمهمة، كان قتلًا مع سبق الإصرار والترصد لعقلية فلسطينية فذة مغتربة عن الوطن في ماليزيا.

هنا حكاية الشهيد، العالم الفلسطيني فادي البطش الذي كان رحيله مدويًا في فلسطين كلها، بكاه الوطن، وبكته ماليزيا التي منحها علمه وشبابه وجهده. بنفسج تستضيف زوجته إيناس حمودة لتروي لنا عن سيرته الطيبة عن الأب الحنون، والزوج التقي، والمحاضر المتفاني.

| رحل العالم الفذ

انفوجراف فاادي.jpg
السيرة الذاتية للعالم الفلسطيني فادي البطش

قبل يوم من الحادثة، كان أقصى همّ إيناس أن زوجها سيتركها وحدها في المنزل ويسافر لحضور مؤتمر علمي في تركيا لمدة 10 أيام، فحدثته عن قلقها، فأزاله بكلماته الحانية كعادته، تقول لـ"بنفسج": "من أول يوم في زواجنا عهدته خلوقًا تقيًا يراضيني في لحظات خصامنا أولًا، لا يعاتبني إلا بألطف الكلام، كان حافظًا لكتاب الله وعاملًا به، كان رجلًا حريصًا على الارتقاء بي على كافة المستويات، يشجعني لنيل أعلى المراتب، لم أجد في سعة صدره أحدًا، أحببت فيه منذ أول حياتنا سويًا طموحه الذي يفوق القمم، لم يرضَ أن يكون صفرًا في المجتمع، بل حمل هم وطنه وقضيته يتحدث عنها في كل المحافل".

في لحظة واحدة انقلبت حياة العائلة الهادئة، فحين ذهب فادي لصلاة الفجر يوم 18 نيسان/أبريل من العام 2018، قطعت طريقه دارجة نارية عليها مسلحون أطلقوا نيرانهم عليه مباشرة، أربعة عشر رصاصة تفرقت في رأسه وخرجت من الخلف. كان الاغتيال صامتًا، خرجت الرصاصات من مسدس كاتم للصوت، وفي الجهة الأخرى، استيقظت إيناس فوجدت مصحفه الذي نسيه على الطاولة، مرّ وقت على خروجه، لم تشك بشيء، فقد كان دائم الحديث مع الجيران، يقف مع هذا وذاك، في كل طريق له، ثم بدأت الاتصالات تأتيها لتخبرها بما جرى، لم تستوعب، وقفت على نافذة المنزل بعدما سمعت ضجة في الخارج، تضيف إيناس بألم: "رأيته ملقى على الأرض والدماء حوله، لم أستطع الاقتراب، في اليوم التالي ذهبت للمشفى فرأيته ولم أتمكن من لمسه، نظرت له من بعيد كان الرصاص الغادر مخترقًا رأسه خارجًا من الجهة الخلفية، وفي اليوم الثالث رأيته أيضًا، حينها تمكنت من لمسه وشم رائحته التي كانت كالمسك، وجهه تعلوه ابتسامة ونور لم أره من قبل".

فادي1.jpg
فادي البطش أثناء حصوله على السند

غادرت إيناس المشفى لبيتها، ورائحة المسك لا تفارقها، لقد علقت الرائحة، تلك، بمنديل ورقي امتلأ بدمه، رفعته لتشمه من جديد وكلها قهر على رفيق غربتها! لم تعرف ما الذي تقوله لهم، ولكنهم فهموا لوحدهم من الجلبة التي حدثت، إذ جاء أحبة فادي في ماليزيا ليقوموا بواجب التعزية، تكمل إيناس: "في اليوم الرابع للفاجعة التي سقطت على قلوبنا جميعًا تقرر عودتنا لأرض الوطن لدفن فادي في مخيم جباليا، حزمت الأمتعة وجهزت التابوت لنغادر ماليزيا، رافقني في رحلة العودة الأليمة رجل ماليزي وزوجته حتى مطار القاهرة ومن ثم لمعبر رفح، ليكونوا خير عون لي، لم أنس الغصة حين لملمت الأمتعة والجوائز والصور القديمة، والمنديل الورقي الذي علقت فيه دماء فادي ورائحته، ما زلت أحتفظ به منذ ذلك اليوم وحتى اللحظة".

كان الأحبة المكلومون في غزة بانتظار الشهيد وعائلته الصغيرة، بكوه في جنازة مهيبة، فأُغلق مخيم جباليا في إثرها، تقول إيناس: "بعد الجنازة ظل القلب مكلومًا، ولم يكن من السهل على أطفالي أن يتأقلموا على الجو الجديد، فقد ولدوا بالخارج. دعاء كانت في الصف الأول، وأسيل عمرها 4 سنوات، أما آخر العنقود محمد سنة وشهرين. فقد أطفالي السند في عمر مبكر، فكانت المسؤولية أكبر عليَّ".

وجهت أصابع الاتهام للموساد الإسرائيلي في قضية مقتل فادي، وزعموا أنه مهندس الطائرات بلا طيار لكتائب عز الدين القسام وأنه يعمل في تطوير ترسانتها، وهذا ما نفته زوجته مؤكدة أنه مهندس فقط، ولا يعمل لصالح أي جهة.

| بداية الحياة ومنتهاها

فادي4.jpg
غادي البطش أثناء تسلمه جائزة

تعود إيناس بالذاكرة لسنوات عديدة حين غادرا أرض الوطن ليدرس فادي الدكتوراه تخصص الهندسة الإلكترونية، تقول: "الرحلة كانت شاقة، لا عادات وتقاليد ولا توقيت مثل الوطن، فرق عدد الساعات تسبب بصعوبة في التواصل مع العائلة، في السنة الأولى لم أتأقلم ولم أتقبل أي شيء وكل ما تمنيته أن أحزم الأمتعة وأعود لأحضان الوطن، أما فادي فكان سريع التأقلم مع البيئة الجديدة كونه كان يدرس وليس لديه وقت فراغ مثلي، بعد تسعة أشهر من الغربة أنجبت ابنتي دعاء، فأصبحت أشعر بالتسلية قليلًا معها، وبعدها بفترة وجيزة عملت في المدرسة السعودية بكوالالمبور لعام كامل، فانسجمت قليلًا، وبعدها تفرغت للماجستير وأصبحت حياتي مليئة بالعمل، وعقدت صداقات عديدة مع أشخاص من مختلف الجنسيات حتى صارت ماليزيا وطني الثاني".

في الفترة الأخيرة، أي ما قبل استشهاد فادي، سجلت إيناس للدكتوراه، ولكن لم يُكتب لها الانتهاء من الطريق الذي بدأته، فأيقنت بما كان يقوله رفيق غربتها بأن الحياة دار عناء ولا راحة إلا عند أول قدم نضعه في الجنة، فالرجل الحافظ لكتاب الله والمطبق لما جاء فيه، لم يكن يومًا إلا بلسمًا لها يشجعها ويحثها على فعل الخير، إن أخرت صلاتها بسبب الانشغال بأمور البيت يدعوها إلى ترك كل ما تفعله وتذهب للصلاة، ويوصيها بقراءة وردها القرآني اليومي.

فادي رجلٌ منظمٌ، له جدوله اليومي الخاص، كانت أمنيته البسيطة أن يطول اليوم ولو قليلًا ليستطيع إنجاز كل مهامه، تضيف زوجته: "كان يستيقظ فجرًا ليذهب لجامعته التي كان يعمل محاضرًا بها بعدما أنهى الدكتوراه، وفي آخر اليوم يعمل محفظًا للقرآن للأطفال، ثم يذهب للمسجد الآخر ليعلّم الماليزيين كبار السن القرآن بالسماع، وفي يوم الإجازة يستثمر اليوم في حضور اللقاءات الدعوية أو الأنشطة المتعلقة بفلسطين".

فادي2.jpg
فادي البطش مع أطفاله

قضى حياته في التعلم؛ عندما انتهى فادي من دراسة البكالوريوس في قسم الهندسة الكهربائية "اتصالات وتحكم" بالجامعة الإسلامية بغزة، التحق فورًا لدراسة الماجستير تخصص أنظمة التحكم، ثم سعى لإكمال الدكتوراه، فحصل على منحة كاملة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في السعودية، ولكنه فقدها بسبب عدم تمكنه من الحصول على الفيزا لأنه يحمل الجواز الفلسطيني، فعوضه الله بمنحة ماليزيا في جامعة مالايا لدراسة الدكتوراه وأنهاها بجدارة، ثم عمل في جامعة "يوني كي أل" محاضرًا، وكان يطمح للحصول على درجة الأستاذية، لكن قدر الله نافذ.

"وما نيل المطال بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا"، بيت الشعر هذا كان زاد فادي في رحلته الحياتية، فكلما غلبته الدنيا تفوق عليها بجهده وعمله ويقينه بالله، الرجل الذي كان كريمًا معطاءً. تقول إيناس: "حين تزوجته لم أكن أجيد الطبخ، أحيانًا أنقص الملح والبهار، ومرات أحرقه قليلًا، ومع ذلك كان طيب النفس، لم يشكو يومًا، ولا يتلفظ إلا بكلام المدح والشكر، وما رأيت منه إلا كل طيب".

حين استشهد الأب، ظلت إيناس وحيدة تربي أبناءها الذين لم يتوقفوا عن السؤال عن والدهم وهو نعم الأب، تخبرهم بأنه سبقهم ليبني بيتًا لنا في الجنة فيستعجلون الموت للقائه، أو يقولون: لا، نريد القصر نريده هنا معنا. الأب الحنون حين رزق بأسيل قال: الحمد لله باب جديد للجنة قد فتح لنا"، أما ابنته البكر دعاء، فقد ألحقها بدورة "كونفو" حتى تتقوى على حد قوله، ولم يكن يتركها تحمل حقيبتها المدرسية الثقيلة فيصر على إيصالها لباب الباص حاملًا عنها الحقيبة، وآخر عنقوده محمد لم يحظَ بوقت كافٍ مع والده ليصنع ذكريات تكون زاده في رحلته.

| كتاب يسطر سيرة

 
أرادت الزوجة المحبة أن تفعل شيئًا يخلّد ذكرى زوجها، فكتبت كتابًا تحكي فيه عن فادي الشاب والابن والزوج والأب والجار والصديق والمعلم، فكتبت وقالت: "وأمّا عني؛ فقد قطعتُ عهدًا على نفسي من لحظة استشهادك أن أنشر سيرتك العطرة في كل مكان وبأي وسيلة وباختلاف الطرق.
 
 ولن أسمح للزمن بطيّها بإذن الله تعالى، وقد جاء عن الإمام السخاوي (من أرّخ مؤمنًا فكأنما أحياه، ومن قرأ تأْريخه فكأنما زاره)، لذلك كان هذا الكتاب المتواضع صدقة جارية عن روحك الطاهرة. أعتذر منك، لم ولن أوفيك حقك، لكن هذا جهد المقل".

هنا حروف الأبجدية لن تستطيع التعبير عن صفات رجلٍ عالمٍ فذٍ كفادي، تقول عن مواقفه النبيلة: "في مرة أخبرته بأني مغرمة بالشاي من تحت يديه، من بعدها، أصبحت مهمته صنع الشاي لي، وأذكر جيدًا حين كنا في دورة، فخرج أثناء الاستراحة لشراء الهدايا لي ولأطفالنا، فضحك الحضور حينما عاد محملًا بما طاب فأخذوا يرددون: فادي زوج ناجح وأب ناجح، فطلبت المدربة منهم الاقتداء به".

"يا صغيرتي أنتِ أهم شيء لي"، هكذا كان يؤكد فادي لإيناس ويحكي دومًا عن حبه لها بالفعل قبل القول. قبل استشهاده بثلاثة أيام وجد حبيبته الأولى مقطبة الجبين حزينة، فأصر عليها لتخبره عن سبب حزنها وما تركها إلا مبتسمة راضية. ترك الرجل المعطاء فراغًا كبيرًا في حياة كل من عرفه، فكل من صادفه بكاه، حتى جارته الصينية غير المسلمة بكته بكاءً مريرًا يوم وفاته، فكان بشوشًا في وجهها، يرد عليها تحية الصباح يوميًا، افتقدته كما افتقده كل محبيه في غزة وماليزيا.

تكمل إيناس عن مسيرته: "قد حصلَ على السندِ بروايتي حفص وشعبة عن عاصم، ولم يكتفِ بذلك؛ فقد رأيتُ ذاتَ مرةٍ في منزلنا مصحفًا كُتب برواية قالون، وهي الرواية التي يقرأ بها أهل المغرب العربي، فأمسكتُ بالمصحفِ قائلةً له: "سوف أُهدي هذا القرآن لصديقتي من المغرب"، فأجابني على الفور: " لا تفعلي، سوف أجتهدُ في الحصولِ على هذه الرواية"، فكان يطمحُ أن يحصلَ على القراءاتِ القرآنية العشر. ولكنه التقى بربه قبل أن يتمكن من الحصول على ما تمنى، فنسألُ الله أن يكون قد حصل على الأجر بالنية".

فادي3.jpg
جنازة فادي البطش وابنه ممحد مع جده

فادي لديه براءة اختراع في زيادة كفاءة شبكات الطاقة الكهربائية، وحاصل على منحة خزانة الحكومية الماليزية، وهو أول عربي يحصل عليها، وهي من أفضل الجوائز في ماليزيا وأبرزها. لم يكف طوال حياته عن التعلم، فنشر 39 بحثًا محكمًا في مجلات علمية، وحضر مؤتمرات دولية، عُقدت في اليابان وبريطانيا وفلندا واسبانيا والسعودية، وحصل على جائزة أفضل بحث عدة مرات، كما اخترع جهاز تحسين نقل الطاقة الكهربائية، ودرب العديد من المهندسين في مجال الهندسة الكهربائية، كما حصل على تولية من مفتي كوالالمبور "التولية تعني رخصة تسمح لحاملها بتدريس القرآن الكريم والإمامة في المساجد".

أرادت الزوجة المحبة أن تفعل شيئًا يخلّد ذكرى زوجها، فكتبت كتابًا تحكي فيه عن فادي الشاب والابن والزوج والأب والجار والصديق والمعلم، فكتبت وقالت: "وأمّا عني؛ فقد قطعتُ عهدًا على نفسي من لحظة استشهادك أن أنشر سيرتك العطرة في كل مكان وبأي وسيلة وباختلاف الطرق، ولن أسمح للزمن بطيّها بإذن الله تعالى، وقد جاء عن الإمام السخاوي (من أرّخ مؤمنًا فكأنما أحياه، ومن قرأ تأْريخه فكأنما زاره)، لذلك كان هذا الكتاب المتواضع صدقة جارية عن روحك الطاهرة. أعتذر منك، لم ولن أوفيك حقك، لكن هذا جهد المقل".

سطرت إيناس بين سطور الكتاب حكايات لم يعرفها أحد عن فادي عن مواقفه الجميلة، استفاضت في كل فصل من فصوله بالحديث عن كل شيء في شخصيته، أخبرتنا عن إنجازاته الأكاديمية جميعها، تقول في إهداء الكتاب: "أهْــدي هـذا العمــل المتـواضـع إلى روحِ فـــادي التي تعيـشُ بيننا، ولم ترحـــلْ، إن رحلنا".