في خضم ثورة التطور التي نعيشها في كل شيء، من مأكل وملبس وتكنولوجيا وتعليم، خرج علينا أهل العلم، من ذوي الاختصاص في الأسرة والتربية تكاتفًا مع الطب النفسي والأخصائيين في علم النفس، بأساليب حديثة للتربية، وطرق جديدة لإدارة البيوت وتنشئة الأطفال، ومحاولة لخطف "الحذاء" من يد الأم، "وحزام البنطال" من يد الأب، وجعل بين أيديهم خطوات أسمى لمعاقبة الطفل معاقبة نوعية، يعرف خطأه ولا يكرره دون أن يكسر العقاب في نفسه شيء ويطمس شخصيته، وكذلك، نشر الوعي عن الزواج وإخراجه من فكرة أنه من أجل التكاثر فقط، وعادة مجتمعية حين تبلغ سنًا معينًا، وتقديم أفكار عن دراسة شخصية شريك الحياة قبل الموافقة عليه وأخذ خطوة الزواج منه، والأهم أنهم قدموا طرق وسبل لإصلاح وتجاوز العقبات لمن أراد حقًا أن يبني أسرته بوعي وحب في مراحلة التعارف وحتى بعد الزواج والإنجاب.
وصرنا نجد عيادات للمشاكل الأسرية مثل عيادات الطب الأخرى، وصار لها رواد يأتون إليها لأنهم لا يريدون طلاقًا كحل أولي، يريدون حقًا أن يصلحوا ما يمكن إصلاحه. في مقالي هذا أريد نقاش ظاهرة لفتت انتباهي، وهي: جمهور هذا المجال أغلبهن إناثًا! لماذا؟ وأين الذكور عن مقاعد هذه المحاضرات والندوات؟
| أين الذكور؟
أتابع عدة برامج عن الأسرة والتربية، يلفتني دائمًا أن المهتمين من المشاهدين أغلبهم إناثًا، وهذا لا يعني أنه لا يوجد ذكور مهتمين، بلى يوجد، لكن الحضور الأوفر من الفتيات، وهي الفئة الأكثر تفاعلًا على المنصات الاجتماعية، فتراهن يناقشن الطارح للفكرة، إن كان أستاذًا أو طبيبة، يضعن تعليقاتهن للموافقة أو الرفض، حسب تجاربهن أحيانًا، أو حسب ما تثقفن به.
حتى في اللقاءات التي كانت تعقدها المؤسسات الاجتماعية أو ورشات شبابية من قبل جمعيات أو محاضرة أخصائي تستضيفه الجامعات، يكون حضور الإناث طاغيًا، فلماذا؟ لنكون موضوعيين في الطرح، علينا الأخذ بكافة الأسباب والتعليق عليها. في البداية، هناك عوامل رئيسة، وليس لها علاقة في الجندر.
| ثقافة الفرد: فمقدار ثقافته تلعب دورًا مهمًا، سواء ذكرًا أو أنثى فمن يعي في نفسه أن هذا العلم والتطور نعمة يجب أن يستغلها ويمشي بها حتى لا يكون نقمة على أطفاله مستقبلًا، يسعى لأن يثقف نفسه سواء أكان من حضور محاضرات، أو ورشات، أو متابعة برامج، أو القراءة الذاتية في الكتب، ومن قلة إدراكه عن أهمية هذه الثقافة تراه يتخذ "هذا ما وجدنا عليه آباءنا" منهجًا لمستقبل بيته دون محاولة للتجديد، ولا أقصد بالجملة السابقة إقصاء الفكر القديم، بل إصلاحه والاستفادة من الجميل فيه ونبذ الكريه منه.
| العامل المادي: فمعظم اللقاءات والورشات صارت بتذاكر ومسافة للحضور، ويترتب عليها أموالًا للمواصلات، وكذلك فإن العيادات الاستشارية ليست مجانية بل هي أحيانًا مكلفة. وللهروب من السبب الثاني من كان لا يملك مالًا ويملك وعيًا فعليه بالكتب والإنترنت.
| عامل الوقت: فهذه اللقاءات في المراكز أو المؤسسات تكون نهارًا في وقت العمل، وهذا يعطي سببًا مقنعًا لكثير من الذكور عدم الحضور، خاصة إن تكلمنا عن الوظائف التي لا يمكن أخذ مغادرة عمل بسهولة، على عكس الفتيات اللواتي لا يعملن، أو ربات البيوت من الأمهات، ولكن حتى نكون موضوعيين، كما قلنا، هناك برامج على التلفاز واليوتيوب وحلقات لندوات مسجلة، فبعضهم لا يمانع أن يشاهد مباراة من أربع ساعات على أن يشاهد حلقة لنصف ساعة قد تغير تفكيره.
| ثقافة مجتمع
فماذا عن المحاضرات في الحرم الجامعي للطلاب دون تذاكر مدفوعة، وفي إطار فراغ الطلاب والمطالعة الفردية في الكتب والبرامج على مواقع التواصل؟
| أولًا: بخصوص تربية الأطفال، فإن المرأة هي لبّ التربية، والمتعامل الأول مع الأطفال، لذا، يستوجب عليها التفتيش والمتابعة في هذه الأمور لتبدأ مشوار أمومتها بصحة نفسية جيدة وبطاقة كبيرة، وبمدارك عن التربية ذات جودة عالية، خاصة إذا كانت فتاة مثقفة تعي معنى أن يكون لديها وافر جيد من المعلومات والسلوكيات لتنشأ أطفال بشخصيات وعقول مهمة، بالاستفادة من أساليب التربية الحديثة ومواكبة الزمن والأجيال، فتراها تبدأ البحث والاستشارة بكل جدية.
لربما هذا الكلام صحيح في مجمله في بداية الحمل مثلًا، والسنوات القليلة الأولى في حياة الطفل الذي يكون متعلقًا في أمه كبطل أول! لكن برأيي هذا لا يعطي عذرًا للآباء، بما أن التربية مشتركة، والطفل صنيعتهما سويًا، ومع الوقت ستبدأ علاقته بابنه! فعليه أن يتثقف، وأن يعطي الأمر أهمية ووقتًا ليتعلم ويعرف، وعليه فهم المرحلة الجديدة للأم من ناحية حمل وولادة ومسؤولية ليكون مساعدًا لا عالة.
| ثانيًا: في أمور الزواج، كمرحلة وخطوة، واختيار الشريك، ترى الكثير من الفتيات يهتممن في الندوات ومتابعة المتكلمين بهذا الخصوص والكتب للمعرفية الذاتية، وفي نظري، أرى السبب أن خلع الثقافة السائدة كان له الدور الأكبر، الثقافة التي على مر السنوات صهرت الفتيات في قالب "أخرتك للمطبخ والزواج"، وأن الزواج هو الهدف الأعلى لوجودك كأنثى في المجتمع، وحتى لا تصبح عانسة مسكينة في عيون الشارع.
كل هذه الأفكار تحاول الفتيات اليوم مجابهتها ومحاربتها، فترى بعضهن يؤخرن فكرة الزواج بعد إنهاء الجامعة والاستقرار في عمل والاعتماد على الذات، فلم يعد سن 18 يشكل لهن خوفًا إن تجاوزنه دون زواج، لذلك يتثقفن من أجل أن يدخلن هذه المرحلة على نور وفهم، فيحرصن على اختيار شريك حياة جيد وإن لم يكن الشاب جيدًا في نظرها "قبل نظر الأهل والمجتمع" ببساطة ترفضه، فهي لم تعد تريد خاتمًا فقط لتنهي عنوستها و"نق المجتمع"، بل تريد شريكًا يقدر عقلها وشخصيتها، ويكونا يدًا بيد للاستقرار في زواج ناضج وبيت صحي وسليم، لذلك تسعى للمعرفة، وأن تكون في المقاعد الأولى في الندوات، فطرد الجهل لا يكون إلا بالعلم.
| ثالثُا: وهي عطف على النقطة السابقة في صورة موازية، حين تكون الثقافة في صف الذكور على الإناث، ستقتل أي دافع لديهم لتخلص من هذه النظرة والقيود، بما أنني أملك كل حقوقي ومعظم واجباتي معفى منها لماذا أحاول كسر هذه الامبراطورية؟ وللتوضيح سأعطي مثالًا بسيطًا؛ إن تزوج شاب يريد إكمال أحلامه في الدراسة مما يتطلب السفر، أو ممارسة هوايته في مباريات سباق السيارات وحضور مسابقات عالمية أو أي هدف كان لن يعيقه رفض شريكته أو قبولها، لأنه ترسخ في ذهنه وذهنها أنه هو المسؤول الأول عن هذه البيت، فهو سيد القرارات وصاحب الفصل، وبمجرد أرادته لشيء سيفعله، وعلى العكس تمامًا إن كانت الفتاة تطمح في إكمال دراساتها العليا، أو ممارسة هوايتها يجب أن تأخذ الموافقة من زوجها، فإن كان متفهم ويعتبرها شريكة له في هذا البيت وقف معها ودعمها، وإن كان غير متفهم ستؤول الأمور إما الى النزاع أو التنازل عن الفرص والطموح.
في الختام، هناك مقولة جميلة DNA doesn’t make Family، Love does العائلة هي المكان الآمن للفرد، ملجأه ووطنه الأصغر، لا يمكن أن تبنى إلا على حب ووعي من الأب والأم، بإرادتهما وقرارهما الكامل، لذلك عليهما الاستعداد، ليس بالمال فقط بل بالعلم والثقافة، فيجب أن تكون المقاعد ممتلئة من الجنسين، فكل شخص عاش طفولته الخاصة وبنيت في رأسه الكثير من الأفكار الناتجة عن التجارب ولربما تجارب سيئة، فمنهم من عاش في ظل اباء وأمهات لم يحسنوا التربية، بل كانت أيديهم في الضرب والقدح دائمًا جاهزة، فهم أدرى الناس في المعاناة، وعليهم أن يوقفوا هذه السلسلة، ليكونوا آباء رائعين.