المرأة حاضرة دومًا في التاريخ الفلسطيني، لها قبولها واحترامها، وصورتها قائمة دومًا بين ثنايا الكتب وعلى غلافها الخارجي، ودائما ما يفرد لها بندًا خاصًا يتحدث عن "حياة المرأة في.... "، و"دور المرأة في....". وغالبًا ما يتم التطرق من خلال هذ البند _ إن كنا نتحدث عن المرأة في القرى الفلسطينية_ إلى دورها في إعداد الطعام، وطحن الطحين، والمساعدة في الحقل، وإدارة المنزل بعد نهار طويل لها في العمل والفلاحة، وبالرغم من أهمية هذه الأدوار وقوتها، فقد كان للمرأة الفلسطينية أدوار أخرى مهمة، لم تستطع أدوات المؤرخين التقاطها، ولم تنصف أقلام التاريخ المدوّن في رصدها، لم أغفلنا دور المرأة في الدفاع عن الوطن والنضال؟ لم أغفلنا دورها في التعليم ونشره، لم أهملنا صوتها الخافت في حب الوطن؟
وبالرغم من كل ما كُتب ويكتب حولها وحول هذه الأعمال التي تحتاج إلى شجاعة، خاصة ما زلنا نتهم ذواتنا بأننا لم نسمع كل الأصوات بعد، وهناك درر متناثرة هنا وهناك يجدر بنا جمعها وإظهار قيمتها، قبل أن يطويها النسيان وتتطاير من الذاكرة المسنّة. إن مقالي هذا ما هي إلا محاولة متواضعة للبحث عن الأصوات الخافتة التي لن يكتمل مشهد مقاومة ظلم الاحتلال ومجازره عام 1948، بدونها، محاولة جادة للإنصات لصوت المرأة التي عاصرت النكبة وذاقت آلامها، لاستنطاق التاريخ من فمها ومن تاريخها وتفسير الأحداث وفق شهادتها حوله، محاولة استكمال صياغة التاريخ المرصود في الموسوعات بما نسيت إضافته تلك الموسوعات.
| حياة المرأة في الفالوجة قبل النكبة
سنحاور هنا إحدى مهجرات النكبة 1948، وهي الحاجة هادية سليمان السعافين، من سكان الفالوجة، من مواليد عام 1935، وافتها المنية بعد إجراء حوارنا هذا معها، اضطرت للهجرة مع أهلها وعمرها حينها 13 عامًا، وقد كانت مخطوبة لشاب من نفس القرية (يونس عبد المجيد أبو تبانة). تعرّض معها لذات الظروف القاسية في الهجرة، فهاجرت عائلتيهما معا إلى مدينة الخليل واستقرا فيها منذ ذلك الحين، وتزوجا بعد أربع سنوات من تاريخ النكبة، وهي الآن امرأة مسنة عمرها يتجاوز ال 82 عامًا، تعيش مع ابنيها (د.عدنان أبوتبانة) و(أ. أمجد أبو تبانة) وعائلتيهما، ولها أيضا ابنة متزوجة (رائدة أبو تبانة).
خلال المقابلة حاولت طرح أسئلة عامة مفتوحة لفهم ظروف الحياة في قرية الفالوجة، المستوى المعيشي والحياة الاجتماعية وطبيعة حياة النساء فيها وأدوارهن، ولضبط المقابلة؛ قمت بإعداد الكثير من الأسئلة التفصيلية خوفًا من ضياع بعض الأحداث المهمة، وسرعان ما أدركت أن الحاجة هادية كانت دقيقة في إجاباتها ولم تكن تسترسل كثيرًا خارج محاور الحوار.
قرية الفالوجة من القرى الفلسطينية التي شكّلت الكثير من أحداث التاريخ الفلسطيني قبل النكبة، وهي من القرى التي عرفت بقوتها الاقتصادية، وتشكيلها لمحطة مهمة لالتقاء الطرق العامة بين غزة والخليل والقدس ويافا. الفالوجة قضاء محافظة غزة وتبعد عنها 30 كم ، بلغ عدد سكانها عام 1948 : 5417 نسمة ،وقدر عدد اللاجئين منها عام 1998: 33.267 نسمة.
وهذا كما يذكر الخالدي في كتاب "كي لا ننسى"، وتمتلك مجلسًا بلديًا والعديد من الدواوين العائلية (الخالدي 1997، 562) . وكان سكان الفالوجة يعملون بشكل أساسي في الزراعة، وتربية الحيوانات: إذ تقول الحاجة هادية "بقينا في البلاد، والبلاد كلشي فيها، معانا حلال، معانا دواب، معانا بقر، والخير موجود، أبوي مزارع ولنا أراضي ملك 450 دونم هاي حصته لحاله بدون أعمامي، كان يزرع ذرة وقمح وكل شي، وإلنا كرم صبر، وكان لأبوي فرس والفرس جاب بنت، وأجو الوحيدات ياخدوها (تقصد من دار الوحيدي إحدى عائلات الفالوجة) لكن هو ما رضي".
ويظهر من سياق الحديث أن عائلة الحاجة هادية كانت من العائلات الموسرة، وتؤكد هي أن أهل الفالوجة كانت حياتهم مستقرة ووضعهم الاقتصادي جيد، بسبب ملكيتهم للأراضي، والتي كانت تسجل بأوراق رسمية لأصحابها كما تقول :"كله بكواشين، كواشينا معانا وكل البلد هيك وهيهم في غزة، فلا يوجد إقطاعيين أو ملاك محتكرين"، أو هذا ما يظهر للحاجة هادية أثناء وصفها: "ولا واحد بيتحكم في الثاني، حماي كان عنده 1005 دونم عيلتنا كبيرة ،عيلة أبو تبانة بس أنا ماكنتش معهم، كانوا قاريين الفاتحة وبعديها ودشرنا كلشي(أي تهجرنا بعد الأحداث وتركنا الأراضي)".
وقد أثار حفيظتها ابنها متعمدا بقوله: "هل كنتم تسكنون الخيم؟"، فردت بعنفوان كبير: "لا يما إحنا كنا ساكنين ببيوت أحسن من هادي، إحنا كنا غنيين وماحدّش كان فقير في بلدنا كلّه مباسيط، بيخش عليك بضاعة من أرزاقك وشغلك". "كان بيت سيدي _تقول ابنتها _فيه سجاد عجمي، بيت حجر طابقين مليان سجاد عجمي".
| حقوق المرأة قبل النكبة
وحول إعطاء النساء حقوقهن في الميراث، أوضحت بتحفظ عن موقف تشترك فيه الفالوجة مع سلوك أهالي القرى الفلسطينية بشكل عام، وهو إكرام المرأة بحصة مقبولة لها دون قبول توريثها الأراضي، معتبرين أن الأراضي يجب أن تبقى في أيدي ذكور العائلة وليس إناثها. وإجابتها المباشرة على سؤال الميراث كان: "لا، لكن لما يوزعوا الميراث ويصلبوا هالصليبة كانوا يقولوا هاتوا حصة فلانة، يعطوها كيس مخيط قمح، خذي هذي حصتك، يعني حرام كانوا يعطوا ". لم تبدُ مرتاحة وهي تتحدث عن شيء يعتبر فيه نوع من النقص تجاه سلوك رجال البلد، فأحبت أن توضح الأمور بما يحمل الكثير من التبرير لما يفعلونه: "يعني إسمعي تنّي أخرفك يعني مش كلهم، بيعطوش أراضي هم، أراضي بيعطوش أراضي، وفي ناس بس يموت أبوها بيعطوها حصتها، وفي ناس بيعطوش الوليّة حصتها".
للتعليم في الفالوجة مكانة مهمة، وكان في القرية مدارس وكتّاب، لم تتمكن هادية من إعطائي الكثير حول المدارس وعددها، رغم أنها بذلت جهدا لتتذكر، ولم تذكر سوى وجود مدرسة واحدة كبيرة تخرج منها أخوها وأعمامها. وفي الفالوجة_ حسب ما دونه كتاب كي لا ننسى_ مدرستين أحدهما للذكور بنيت عام 1919 والأخرى للإناث بنيت عام 1940. وعلمت الكثير من أهل القرية، ربما لأنها لم تكن تلميذة، ولم تلتحق بركب المدرسة المخصصة للإناث، والتي يذكر الخالدي أنها خرجت 83 تلميذة في عام 1943، أي خلال ثلاث سنوات من بدء عملها (الخالدي 1997، 562).
وتردف هادية أن المدرسة قامت مصر بفتحها (رغم أن المدرستان المفتوحتان في الفالوجة، حسب توثيق مصطفى مراد الدباغ، في موسوعته،قد فتحت من قبل المجلس المحلي). شاركت الحاجة هادية في جلسات الكتّاب لمدة ستة أيام بناء على تشجيع شقيقها الكبير على تعليمها (ويبدو أنه شخصية محورية في حياتها وهو الشهيد سلمي السعافين أول شهداء الفالوجة أثناء الاحتلال): "رحت بشور أخويا وأمي.. ". ثم أجبرها والدها عندما علِم على المكوث في المنزل وعدم الذهاب إلى الكتّاب خوفًا عليها، لأنها فتاة.
والسائد في تلك الفترة من تاريخ الفالوجة قبل أن تطويها يد الاحتلال، تقدير العلم والتعليم المدرسي، إذ إن الأرقام التي تصف عدد الملتحقين في مدرسة الذكور قد وصلت إلى520 طالبًا عام 1947 (الخالدي 1997، 562). غير أن الأولوية في التعليم كانت دائمًا تتجه نحو الذكور، وهذا يظهر جليًا من الفارق الزمني بين العام الذي فتحت فيه مدرسة الذكور (1919)، والعام الذي فتحت فيه مدرسة الإناث (1943)، إضافة إلى الفارق في عدد الملتحقين والملتحقات، ومع ذلك تبقى الفالوجة من مناطق الجنوب التي يُسجل لها فتح مدرسة خاصة للإناث، في وقت لم تتوفر فيه لنسبة كبيرة من القرى الفلسطينية.
وتضيف بطلة حكايتنا ملاحظة قد تُغيِر قليلًا من تفسيرنا لأسباب منع الأهالي من إرسال بناتهم للدراسة في المدرسة: "والمدرسة كان فيها بنات، لكن الأهالي بطّلوهم خوف عليهن من العصابات اليهودية"، خصوصًا وأن مدرسة الإناث حديثة عهد في القرية، أي قبل الاحتلال الغاشم بـخمس سنوات، وتكون نسبة الالتحاق بها قد تضاءلت في الفترات التي سبقت النكبة خوفًا من عصابات الشتيرن والهاجاناة التي كان لها تواجد، ومباغتات تسببت عام 1948 بحرق البلدية والبريد كما سنذكر لاحقًا.
| النضال ضد الاحتلال
الحاجة هادية لم تتوقف كثيرًا عند دور النساء التقليدي الذي كنّ يقمن به بشكل روتيني قبل النكبة وحتى بعدها، في كيفية تدبير أمور المنزل ومساعدتها لزوجها، وتوقفت كثيرًا عند دور آخر كان محط فخر لها، وهو دورها كمناضلة ضد الاحتلال، ففي معرض حديثنا عن أشكال مقاومة الناس أثناء عملية الاحتلال كانت تقول: "القنابل كنت أعبيهم أنا، كان لهم مخازن، وكان يأخذني (تقصد شقيقها الشهيد سلمي السعافين) عالمخازن، وأعبيله الإستن والبرن والميلز (سلاح الماني)، وامسّحها وأعبيها وأسكرهن، ورّاني كيف أسكرها، الله يرحمه".
منع الوالد ابنته الصغيرة من الذهاب إلى الدراسة حماية لها من العصابات اليهودية، لم يدفعه لمنعها من المشاركة في العمل النضالي، بل سمح لها بالمشاركة لذات السبب: "لا، كان يسمحلي والله، ما يخاف عليّ، أضلني مع أخوي، أعبي البارود والقنابل، أنا بقيت كل حين أطخ الشارة خطرتين (تقصد أنها كانت تتدرب بشكل دوري)، تدربت وخلصت"، "أنا كل الكرتونة هالقد أعبيها"، وأعتقد أن عملية مشاركة النساء في تحضير السلاح سمة غير منتشرة في كل القرية، وإنما في البيوت التي فيها رجال مقاومون تجندوا مع القوات الموجودة في القرية وأخذوا يقاومون الاحتلال ويعدون العدة للمواجهة والدفاع، وهذه البيوت كانت تساهم فيها شابات العائلة في المساعدة، وقد ساعد هادية في مهمتها أختها وبنات أخواتها.
لم تكمل في نفس الموضوع بسبب إحدى المقاطعات، لكنها كانت ترغب في خوض تفاصيل متعلقة بموضوع النضال والسلاح بشكل أكبر، وكأنها ترى في هذا المجال دائرة امتياز لها، فقد ذكرت مسألة تحضير الطعام، ولم تتوقف كثيرًا عندها ولم تذكر الإعدادات المنزلية، أما موضوع مشاركتها في النضال فقد أخذ نصيبًا مهمًا من كلامها. "وييجي هالزلمة يدق علينا ويقول لي بدي سلاح، أقول له أنا وليّه وما عنديش سلاح، وشردوا، كإنه خاين وبده يشوفنا وين رحنا ووين جينا، وبعد شوي إلا هو رادد واحد تاني غيره، فقال تخافيش إحنا حواليك، فقلت له مش ضروري تقعد عنا إنت، ما هو ضروري، ولما أجا غبيت البارودة وحطيت الشك في البارودة وطخيت على بعيد، وقلت هالحين بييجي أبويا وإخوتي، وبتعرف ع مين تخش".
إن هذا الموقف وقدرة فتاة بعمر الزهور على التعامل مع رجال غرباء جاؤوا لتخويف النساء، أو تجميع معلومات عن البيوت التي كانت تستعد لمقاومة الاحتلال، إنما له دلالات واضحة على البيئة التفاعلية التي كانت تعيش بها هادية، والتي لم تكن فيها هامشية أو مغيبة عن فهم الحقائق أو التعامل مع الأحداث بجرأة دون استئذان أحد رجال العائلة. أضافت الحاجة هادية بوضوح أن هذه ليست كل الصورة، فقد كان هناك من ساعد واحتضن وتعاطف ومن العائلات التي اهتمت بعائلتها الأولى (أي أسرة والدها) بعد الهجرة مباشرة ،عائلة أخوالها في الخليل، دورا، عائلة الشحاتيت.
| حكايات ما بعد النكبة
وقد أفرد أقاربهم لهم حصة كبيرة من القمح والقطين كمونة خاصة بهم، فقال لهم والدها: "الخبية تبعتكوا خبوها إلكوا". خوفًا من الفقر أو العجز، فرفض أخذها بعزة نفس، وبكت قليلًا وهي تصف حالها. إلا أنها تؤكد أن وضعهم المادي بالرغم من كل الخسارة التي لحقت بهم والأراضي التي سلبت منهم، والسكن المريح الذي كانوا يمتكونه، لم يكن صعبًا، وقد استطاعوا الوقوف على أقدامهم مجددًا بعد أقل من عامين من التهجير.
كما أنهم عندما غادروا البيوت أخذوا ما استطاعوا من المال والذهب، وقد ألحق بهم من بقي من المقاتلين من أهل القرية متاعهم من البقر والمواشي، بل والفرس العربي بعد أيام من تهجيرهم، فرفضوا أن يأخذوا ما عرض عليهم من تموين وطعام، وأصبحوا يبيعون من مواشيهم ليعيشوا به. "كنا نأكل اللحم ونأكل الجمال، إحنا كنا ننام في دورنا ومالنا. كانت تعمل بالخياطة لتعيل زوجها، لكن تؤكد خلال عدة مرات في المقابلة أن وضعهم المادي كان مقبولًا جدًا مقارنة بحال اللاجئين بالعموم، وتؤكد أن أغلب مهجري الفالوجة كانوا بحال مقبولة إلا القلة من الفقراء.
لا أدري إن كان هذا الوصف وصفًا رومانسيًا لطفلة كانت ترى في قريتها المفقودة كل جميل، أم أن أغلب أهل الفالوجة بالفعل كانوا من الأغنياء، غير أن التاريخ يؤكد أن مجتمع الفالوجة كان مجتمعًا مستقرًا اقتصاديًا وله موارد مادية جيدة . ويجدر بي أن أذكر أن هذه الشابة اليافعة قامت في السنوات الأربع التي عاشتها بعد التهجير وقبل زواجها بتربية أطفال شقيقها الشهيد سلمي الثلاثة، بعد رفض زوجته البقاء معهم وإصرارها على اللحاق بأهلها رغبة في بدء حياة جديدة.
قامت هادية بالاعتناء بثلاثة أطفال، أصغرهم رضيعًا، وأكبرهم لم يتجاوز حينها الأربع سنوات، إلى أن تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها، فأصبحت تزورهم بشكل دوري. تقول هادية واصفة شقيقها وكأنها تصف بطلها المفقود: "طوله بيسوى اثنين، عمره اثنين وعشرين، وهذا أكبر اخوتي". ونظرت لابنتها التي شاركتها لحظات الوجوم والصمت: "خالك مع الضباط.. عسكري في الجيش للبلد حماية للبلد". وأضافت وقد بدأت في البكاء: "والله كل ما ييجي في بالي بجن". ثم بدأت تقول كلمات هي أشبه بالشعر قالتها حين وفاته "شيحة تودعهم وشيحة تقول لهم مع السلامة يا كبار العرايب". بكت هي، وبكت ابنتها، ورسمتا لي بدموعهما ذكرى وطن جميل غاب ولا يعرف أحد متى سيعود إن كان سوف يعود.