وصل الباص المخصص لنقل أهالي الأسرى من مدينة الخليل باب سجن إيشل. احتشدت الأمهات على باب السجن. اللحظة المنتظرة بعد ليلة طويلة من الترقّب والانتظار، تمتمت إحداهن: "يا باب السجن ريتك خرابة"، وقالت أخرى باكية: "يجعلها آخر الزيارات يا رب"، وأخرى ترتجف يداها قائلة: "وأخيرًا سأحتضن ابني". كانت الحاجة "أم أحمد الهور" والدة الأسير "جمال الهور"، من بلدة صوريف قضاء الخليل، تنتظر لحظة بلحظة أن يدخلها السجان إلى قاعة الزيارات!
انتهى تفتيش الأهالي، وأعطى الجنود لهم أمرًا بالجلوس على المقاعد المخصصة لهم لانتظار خروج الأسرى. كانت الحاجة "أم أحمد الهور" تنتظر خروج ابنها الأسير "جمال الهور"، بشوق عارم، حيث كانت هذه الزيارة بعد شهور من منعها، ليخرج "جمال" بعد خمس دقائق بزيه البني وابتسامته التي تحبها أمه، وبوجهه الذي يمتلئ شوقًا لها، وهي التي غيّبها الاحتلال عنه لمنعها من الزيارة.
| الزيارة الأخيرة!
التقط سماعة الهاتف بلهفة كبيرة، وأمسكت أمه بيدها، وما إن بدأ الكلام حتى انسابت الدموع من عينيها معبرة له عن شوقها، وما إن مرت عشر دقائق حتى فتح السجان لعشرٍ من أمهات الأسرى الباب الفاصل بينهم، وأدخلهن ليحتضنّ أبناءهن. حسرة كبيرة ملأت قلب أم "جمال"، كيف تنظر للأمهات وهن يتحسسن أولادهن ويبكين في أحضانهم، وهي تجلس وراء الحاجز الزجاجي بقلب يأكله الشوق وكثير من الألم!
شعر "جمال" بحسرة أمه، توسل لها ألا تبكي، وعدها أنه في الزيارة القادمة سيطلب إذنًا من إدارة السجن للسماح بالدخول لاحتضانه والتصوير معه، بكت، لم تواسِها الكلمات والوعود! بقيت تلك الأم المكلومة تبكي، تنظر لولدها كطفلة حرمها أحدهم من لعبتها، قبل أن يصدر جهاز الهاتف صوت الوشوشة، قالت له والدموع تملأ وجنتيها: "فش مرة جاية يا جمال"! "وشش...وششش" كانت الأصوات هذه التي أصدرها جهاز التلفون كسهم أصاب صدر جمال بقهر، وسكنت الهواجس قلبه! ماذا تقصد أمه بأنها آخر زيارة؟ كيف لو كان الكلام صحيحًا، ولم يكن مرة قادمة! غير أن الندم أكل عقله وقلبه، عزّ عليه أن ترى أمه كسرة نفسه حين يطلب من الجندي أن تدخل أمه مع أمهات الأسرى وتحتضنه وتلتقط صورة معه.
ماذا تقصد أمه بأنها آخر زيارة؟ كيف لو كان الكلام صحيحًا، ولم يكن مرة قادمة!
بعد ثلاثة أيام من هذه الزيارة، استطاع "جمال" أن يتصل بأهله من خلال الهواتف المهربة داخل السجن، يتوسل بأي طريقة أن يوصلوه بأمه، كي تقف دوامة الأسئلة في رأسه منذ أن قالت له أمه "لا يوجد زيارة قادمة يما"، ليجيء الخبر كالصاعقة أن "أمك ماتت". لم يستطع "جمال" استيعاب أن أمه لن تزوره بعد اليوم، غير أنه لم ينسَ نبرة صوت أمه والانكسار الذي ملأ تقاسيم وجهها، حين رفض الجنود إدخالها مع أمهات الأسرى لتعانقه. جمال الهور هو أحد قيادات الحركة الأسيرة، يبلغ من العمر "50" عامًا، من بلدة صوريف قضاء الخليل، ومعتقل منذ 10/4/1997، محكوم بالمؤبد 5 مرات و18 عامًا.
نفذ مجموعة من العمليات البطولية بما فيها اختطاف الجندي شارون أدري من أجل مبادلته بأسرى فلسطينيين. اعتُقل "جمال" وابنه أحمد رضيعٌ عام 1997 في لفافة الولادة، وهو في شهره الثامن، ولم يلتق به إلا في زنزانته بعد 13 عامًا يوم أن اعتقله الاحتلال، ثم اعتقلوا ابنه الثاني "تقيّ الدين" فاجتمعوا ثلاثتهم في زنزانة، فتعرفا على والدهما وظللهما بالحنان الذي حرما منه طوال سنوات اعتقاله. التف الأسرى حول "جمال" يومها، يواسونه ويخففون عنه مصابه، نصبوا سرادق عزاء في ساحة سجن إيشل، غير أن "جمال" طلب منهم أن يتركوه وحزنه، يعيش تفاصيله، خاصة أنه كان في حالة ذهول غير طبيعية كما قال في إحدى رواياته!
| كيف يتلقى الأسير خبر الوفاة؟!
الأسير المحرر "عبد الله شتات" تحدّث لـ"بنفسج" عن الحالة الشعورية الصعبة التي يعيشها الأسير عند تلقيه نبأ وفاة أحد أفراد عائلته، حيث شهد وفاة والد الأسير "محمد داود"، بعد وفاة والدته بأشهر فقط! اتصل يومها أحد الأسرى من قلقيلية على أمه وقت الفورة وهو الوقت المخصص لخروج الأسرى إلى ساحة السجن، لتخبره أن والد "محمد داود" قد وافته المنية.
تواصل هذا الأسير الذي علم بوفاة "أبو محمد" مع كبار السنّ ومسؤول القسم في سجن مجدو، كي يذهبوا لتهدئته حتى يتسنى له استيعاب خبر كهذا، لا سيما أن جرح وفاة أمه لم يلتئم بعد! يقول "شتات": "الأسير مختلف عن الآخرين بتلقيه خبر وفاة أحد من أهله، ففي البداية لا يستوعب ما يسمعه، ويكون في حالة صدمة ولحظة لا تصديق، كونه غائبًا عن أهله سنوات، فلا يشعر كثيرًا بالمناسبات السعيدة ولا الحزينة"، ويضيف: "بعد أيام يشعر الأسير بفقده عزيزًا عليه، خاصة عندما يعود للاتصال بأهله ولا يستطيع مكالمة من فقده، حينها يبدأ شعور الفقد يتغلغل داخله"!
في اليوم الأول لمعرفة الخبر -كما يقول "شتات"- ينادي مسؤول القسم في ساحة الفورة أن فلانًا فقد أحدًا من أهله، فيلتف الأسرى حوله، لا يتركونه وحيدًا، وينصبون سرادق العزاء ثم يبدؤون بسرد الأحاديث والآيات القرآنية عن الفقد وثواب الصبر، ويدلي كلٌّ من دلو تجاربه! بحزن بالغ يصف "شتات" الموقف قائلًا: "يطلب الأسير أن يجلس في برشه أو خيمته وحده، يعيش حزنه، ينفّس عن حاله، يبكي، يصرخ، يعيش حالة الفقد، حتى يخرج بعد أيام أقوى من ذي قبل".
بعد أيام بدأ "محمد داود" باستيعاب الموقف كاملًا، لا سيما وأنه تبقى على موعد الإفراج سنة واحدة فقط، يقول "شتات": "كان محمد يبكي بين الحين والآخر ويردد حزينًا كان نفسي أبويا يكون وقت الإفراج عني، كان أبويا بيستناني أتحرر عشان يفرح في زواجي، كان نفسي أبويا يحضنني أول واحد ويستقبلني". شعر "محمد" وقتها -كما قال "شتات"- أنه فقد لحظة الفقد الأخيرة، والعناق الأخير، ذاك العناق الذي حُرم منه وقت تحرره أيضًا، يضيف: "جميع الأسرى الذين يفقدون عزيزًا يذهبون إلى المقبرة يوم تحررهم، يحتضن الحجر كأنه يحتضن البشر الذي فقده".
في حالات كثيرة لا تسمح إدارة مصلحة السجون باجتماع الأسرى في مكان واحد، كما أنهم يحاولون بكل عنجهية أن ينغصوا عليهم حتى لا يستطيعوا الالتفاف حول الأسير المكلوم. "كيف يعرف الأسرى خبر وفاة أحد من ذويهم"؟ كان سؤالنا لـ"شتات" كي يختم حديثه عن مشاهد الفقد في الزنازين، ليخبرنا أنهم يعرفون عن طريق الهواتف المهربة، أو عن طريق المحامي، أو عن طريق البرامج الإذاعية المخصصة لأهالي الأسرى كما حدث مع الأسيرة المحررة "أزهار الشيخ قاسم".
| قلب مقبوض في زنزانة!
تحدثنا مع "أزهار"، عن لحظة معرفتها الخبر، كيف عرفت خبر وفاة أمها، من أخبرها، كيف كانت آخر زيارة لها، متى علمت بالخبر، وكيف قضت وقتها في زنزانتها مذ علمت أن أمها "ريحانة قلبها" كما تسميها قد فارقت الحياة دون قبلة تطبعها على جبينها!! "أزهار الشيخ قاسم" اعتُقِلَت في الثامن من حزيران/يونيو 2019 على حاجز قلنديا الفاصل بين القدس ورام الله، بزعم أنها كانت تنوي تنفيذ عملية طعن، وحُكِمَ عليها بالسجن 22 شهرًا، وتحررت قبل شهور.
عبر إذاعة الأسرى في غزة، كانت الأسيرات ككل يوم يلتففن حول المذياع، يسمعن أصوات ذويهنّ وأخبارهم. عبر برنامج "على جناح الطير". كانت "أزهار" تجلس على برشها في زنزانتها، وهي التي أخبرت الأسيرات منذ صباح ذلك اليوم أن "قلبها مقبوض". سمعت الأسيرة "نسرين أبو كميل" أن والدة إحدى الأسيرات قد أرسلت التعازي لأزهار بوفاة والدتها، فكذبت أذنيها كما قالت "أزهار"، إلى أن سمعت والد أسيرة أخرى يبعث بالتعازي ويصبّر أزهار أيضًا. كانت الأسيرة "بيان فرعون" هي مسؤولة الأسيرات وقتها، فأخبرت الأسيرات بالحدث، فجمعتهن ليذهبن إلى الغرفة التي تجلس بها "أزهار". تقول "أزهار" بوجع بالغ: "أنا كنت حاسة أن أمي فيها شيء، عرفت الخبر من عيون الأسيرات لمّا تجمعوا على باب غرفتي ونادوا عليا، حكتلهم إمي صح؟؟؟ إمي ماتت صح؟؟؟".
"أنا كنت حاسة أن أمي فيها شيء، عرفت الخبر من عيون الأسيرات لمّا تجمعوا على باب غرفتي ونادوا عليا، حكتلهم إمي صح؟؟؟ إمي ماتت صح؟؟؟".
تروي أزهار، أنها فتحت بيت عزاء لوالدتها داخل القسم، ثم عملت الأسيرات القهوة، واشترين التمر من الكانتينة، وجاءت الأسيرات من كل الغرف لمواساتها وتعزيتها، عدا عن أنهن أعددن الغداء والفطور على مدار ثلاثة أيام. لم تجد "أزهار" يوم فقدها لعائلتها إلا أن تمسك بدفتر كبير وتكتب على أوراقه المهترئة رسائل لروح أمها وعائلتها، وكان من تلك الرسائل: "كان صوتك يا أمي محرابي في منفاي، وكل مكان لا تتواجدين فيه هو منفاي".
دوامة من الأسئلة حامت في رأس أزهار وقت معرفتها خبر وفاة والدتها، تقول لـ"بنفسج": "التفاصيل كتير بتهمنا في سجننا، كيف توفت؟؟ شو عملوا لما عرفوا؟؟"، وبقيت في انتظار أول زيارة لأهلها ليخبروها كل هذه التفاصيل كي تقف الدوامة تلك! وختمت حديثها: "وفاة بنت الأسيرة خالدة جرار فتح علي المواجع كلها". فأزهار وحدها تعرف كيف استقبلت الأسيرة خالدة جرار قبل أيام خبر وفاة ابنتها "سها" التي تبلغ "31 عامًا" بسكتة قلبية، تقول: "أنا عشت نفس التجربة ونفس الألم ونفس الأحاسيس التي شعرت بها، أنا وأمثالي فقط من تعرف كيف قضت خالدة ليلة فقدها لابنتها".
| وجع خالدة وعنجهية الاحتلال!
وافت المنيةُ ابنة "خالدة جرار"، وهي القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والأسيرة في سجون الاحتلال، وتبلغ "58 عامًا"، وترسف مع أكثر من 40 أسيرة فلسطينية في سجن الدامون. خلال زيارة المحامي "محمود حسان" لخالدة، أخبرها بوفاة ابنتها، ليتفاجأ "حسان" أنها قد سمعت بالخبر عبر إحدى القنوات التلفزيونية التي يأتي ترددها داخل السجن قبل دقائق معدودة من وصوله لها، مرسلة معه رسالة: "الخبر بيوجع كتير كتير بس أنا قوية قوية".
منذ سماع خبر وفاة ابنة الأسيرة "جرار" التفت المؤسسات الحقوقية والدولية لمطالبة قوات الاحتلال بالإفراج عن "خالدة" كي يتسنى لها المشاركة في تشييع جثمان ابنتها، غير أن الاحتلال رفض ذلك، ثم بعد ذلك وعبر هاشتاج "أفرجوا عن خالدة جرار" طالب الجميع بالإفراج عنها ساعةً كي تطبع قبلة الوداع الأخيرة على جبين ابنتها، أيضًا قوبل ذلك الطلب بالرفض بكل عنجهية! وجاءت الحملة كون الأسيرة "جرار" ترسف في سجون الاحتلال منذ أكثر من عامين، وأنه من المفترض أن تنهي حكمها خلال شهرين، مطالبة بالضغط على الاحتلال محليًا ودوليًا لتتمكن من ممارسة أدنى حقوقها.
لم يكن هذا الفقد هو الأول لخالدة في زنازين الاحتلال؛ فقد جرَّبت الفقد مسبقًا بوفاة والدها خلال اعتقالها الأخير عام 2019.تدرك "خالدة" أن الأسر حالة فريدة في تحدي السجان؛ فهو يريد بكل الطرق أن ينال من عزيمتهن، ذاك التحدي جعل خالدة تكتب رسالة مواساة لكل الشعب الفلسطيني، في وقت يدرك الجميع أن قلبها موجوع على فلذة كبدها، قالت في رسالتها: "حرموني من وداعكِ بقبلة، أودّعكِ بوردة، فراقكِ موجع، موجع، ولكنّي قوية كقوة جبال وطني الحبيب"!!