استغرق الأمر وقتًا لا بأس به حتى نالت الأُنس كما تريد، ولكنها دومًا كانت صابرة شجاعة، أقدمت على تلك الخطوة بالاتفاق مع رفيق الدرب بكل رضا وحماس. اتفقا سوية على كل تفصيل، ذهبا للدوائر الرسمية للسير قدمًا في تقديم طلب لاحتضان طفل بعدما شاء الله أن لا يرزقهم بالذرية من بداية زواجهما، فكان الرزق في باب آخر على هيئة "أنس"، تربع في قلبها منذ أول وهلة، وقالت: هذا هو، التقطت صورة برفقته وأرسلتها لشقيقتها فقالت لها: شو بيشبهك، فتعلقت به أكثر، فأصبح طفلها البكر التي ستشد ظهرها به حتى لو أنجبت من بعده أطفال من صلبها، سيظل أنسها وسرها وأمنها وأمانها يتشكل في هيئة أنس، كل شعور جديد في عالم الأمومة كان برفقته، فكان لها ولمحمد زوجها أول فرحتهم.
| مفترق طريق
أخصائية التغذية رولا علوش تروي لبنفسج حكايتها مع الاحتضان، وتحكي لنا عن طفولتها والعائلة، إضافة إلى العمل وخلاصة تجربتها لسنوات في عالم التغذية، تقول: "تزوجت في أيلول/سبتمبر 2014 واكتشفت بعد مدة بأنني أعاني من مشاكل في الإنجاب، وبعد ستة أعوام بدأت بالبحث عن طفل للاحتضان برفقة زوجي محمد، ومن قبل اكتشافي للمشاكل كنت أفكر بأمر الاحتضان بشكل جدّي من خلال متابعتي لأم كويتية محتضنة تُدعى صفا الفلكاوي، ثم جاءت الصدفة ليصبح هذا التفكير حقيقة، بعد حصولنا على الجنسية التركية، أصبح التحرك أسهل نحو المؤسسات التركية المختصة بهذا الأمر، لنضع أسماءنا على قوائم الانتظار".
لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، في فترة ما أُقفلت كل الأبواب في وجه رولا ومحمد، لا أمل على أرض الواقع في احتضان الطفل المراد، ولكنها كانت تشعر بأن شعور الأمومة بات قريبًا جدًا، تضيف: "في وقت تلك المشاعر المتباينة جاءني خبر حمل أختي أروى، فقلت لها أنتِ حملت لأجلي، سألتني كيف أجبتها بـ"لا أعرف"، فبكت وقالت: هذه المرة كان من المفترض الدور عليكِ، لكني كنت واثقة من شعوري بأن نبأ الحمل ذاك يخصني، وبالفعل، بعد أربع شهور من ولادتها وصلنا اتصال لرؤية طفل في إحدى الجمعيات التركية، ذهبنا، ووقعت في حب ذلك الطفل من النظرة الأولى، كان يشبهنا لدرجة لا توصف، وكأني أنا من أنجبته".
أثناء رحلة البحث عن الطفل المحتضن تعمقت رولا أكثر في البحث عن الفتاوي الشرعية عن جواز الاحتضان، وكيفية إزالة الحرج الشرعي، فطلبت من أختها المرضعة أن تُرضع أنس، وبذلك تستطيع رولا خلع الحجاب أمامه حين بلوغه كونه أصبح من محارمها، ويمكن للأمهات المحتضنات أن يتابعن مع طبيب لرفع الهرمون الخاص بالرضاعة عبر أدوية خاصة، ليرضعن الطفل المحتضن. بدأت رولا في هذا الطريق مع طبيبتها ولكنها لم تكمله بسبب انشغالها بالعمل والدارسة، كون الأمر سيؤثر على صحتها قليلًا، فكان خيار أن ترضعه أختها أكثر سهولة.
| "شو بيشبهكن"
لم تتوقف الأم المحتضنة عن القراءة في كيفية إيصال المعلومة لأنس بسهولة ودون أن تتأثر نفسيته، فتوصلت إلى أنه بعد عمر الثلاث سنوات يتم سرد القصص للطفل لتبليغه بالتدريج عن أصله وأنه طفل محتضن، تقول رولا: "شعرت مع أنس بأجمل مشاعر في العالم، وحتى لو قُدر لي الإنجاب مستقبلًا سيظل أول أولادي والبكر. كثيرون يسألونني عن ماضي أنس؛ من هو وعن جنسيته، وحقيقة هذا يزعجني جدًا، فهذا الأمر لا يهم أي أحد سواه، وإن أراد يومًا ما أن يعرف أصوله فأنا جاهزة لذلك، وسأعطيه كل الوثائق التي تخصه ليعرف من خلالها ما يريد".
ماذا عن رد فعل عائلتك أنتِ ومحمد حين بلغتهم بقرار الاحتضان؟ تجيب: "لم أتعرض لنقد من المقربين، بل نلت تشجيعهم ومباركتهم على تلك الخطوة، إضافة إلى أنني انبهرت بتعليقات المتابعين لي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولمست تغيرًا كبيرًا في المجتمع، وتقبلًا للموضوع عن السابق، فالوعي العام للناس قد ازداد بعدة قضايا بالسنوات الأخيرة، وهذا أسعدني للغاية".
"شو بيشبهكن"، شو لزيز متلكن"، سمعا رولا ومحمد هذا الحديث مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة يضحك قلبهما كطفل في الثانية من العمر، تقول لبنفسج: "الأمومة أهم مشروع في حياتي، أراقب أنس كيف يكبر، وكيف أصبح يفهمني سريعًا، فهو ذكي، يشاكسني، يرسم على الجدران ويكسر الأشياء، من وقت ما جلبناه لنا وهو يتكلم لم ننتظر حتى نسمع كلمة ماما وبابا منه". رولا تحاول أن تعلمه كيف يكون شخصًا منتجًا متوازنًا واثقًا بنفسه، دون غرور، فأنوس كما يحب أن يناديه والداه سيكون نموذجًا ملهمًا بفضل تربية والدته له، تؤمن الأم الشابة بمقولة على قدر أهل العزم تأتي العزائم، لذلك ستجتهد وستبذل جهدها في أن يكون طفلها البكر كما تريد تمامًا.
وتدعو كل سيدة تود أن تقدم على خطوة احتضان طفل أن تكون على قدر المسؤولية والعلم الكامل بأنها ستستغني عن أشياء عديدة في حياتها، كزيارات وأنشطة كانت تمارسها مسبقًا لتكون بجانب طفلها لوقت أطول، وهذا يحتاج لصبر طويل وطاقة مفعمة بالأمل، لذلك يجب التفكير مرارًا في الأمر قبل أخذ القرار النهائي.
تعود رولا بالذاكرة لوقت تعرفها على زوجها محمد تضيف: "هو داعمي الأول، رجل محب كريم وأب عظيم، ولا أظن أني كنت سأنجح بدونه، فالحمد لله على نعمته، تعرفت عليه في سوريا بالجامعة وجمعتنا الثورة السورية وأشعارها، ولقاءات المناقشات والمظاهرات، ثم سافرت بعدها للسعودية إثر تدهور الوضع في سوريا وانقطع التواصل بيننا، حتى التقينا في تركيا من جديد وتم النصيب، وأنا حقيقة أسمي نفسي عروسة الأون لاين، فمراحل الاتفاق بين العائلتين على الخطوبة كان عبر الإنترنت".
| من فتاة بدينة لاخصائية تغذية
ماذا عن الطفولة؟ تجيب بصوت يغزوه الحنين للذكريات: "كنت طفلة شقية جدًا وذكية، أحصد المرتبة الأولى دائمًا، نشأت في بيت مليء بالمزروعات، والدي محب للزراعة يزرع كل أنواع الثمار، كانت لدينا نخلة وشجرة قصب السكر وتوت إضافة إلى الورود، ولدينا مكان مخصص لتربية الحيوانات كالدجاج والأرانب، كنت كثيرة المكوث في الحديقة الممتلئة بالزرع والحيوانات الصغيرة، أحب اكتشاف كل ما هو جديد، لقد عشت طيلة طفولتي في الإمارات ثم انتقلت في الثانوية إلى سوريا بشكل مفاجئ".
حين عادت لسوريا بدأت مرحلة جديدة ولكن الوزن الزائد الذي اكتسبته مؤخرًا تسبب لها في الإزعاج، تقول لبنفسج: "حين عودتي كنت خائفة من المنهاج الدراسي، فأصبحت أدرس أكثر وأكثر، وأتناول الطعام غير الصحي بشكل كثيف، وهذا منحني وزنًا غير مرضٍ بالنسبة لي، وبالمصادفة أنا وصديقتي كنا نفس الوزن تقريبًا فاتخذنا قرارًا بتنفيذ برنامج غذائي لتنزيل الوزن بدون إشراف أحد لأنه لم يكن في ذلك الوقت اختصاصي تغذية في سوريا، ونجحنا في هذه الخطوة".
أنهت دراستها بنجاح وجاء الوقت التي ستختار فيه تخصصها الجامعي، فاختارت رولا الهندسة الغذائية قسم التغذية، ولم تختر التصنيع الغذائي كونها شخص يحب التعامل مع الأشخاص وليس مع الجمادات في المختبرات، ونالت فيما بعد دبلوم في التوجيه الغذائي للأسرة، والآن تدرس الماجستير في تغذية الطعام وتعمل كأخصائية تغذية في تركيا، إضافة إلى عملها في المجال الإعلامي، حيث تقدم عدة برامج صحية على عدة قنوات تلفزيونية.
لكل إنسان محطة في حياته حين يمر بها لا يعود نفس الشخص الذي كان، فالمرحلة الأهم في حياة رولا هي حين انتقلت إلى العيش في السعودية أثناء الثورة السورية التي أجبرتهم على الفرار من وطنهم بعدما حاوطت الدبابات والطائرات مدينتها من كل صوب وحدب ومنعت السكان من الخروج، ومن حسنها حظها أنها كانت خارج المدينة لتقديم اختباراتها الجامعية، تضيف: "شاركت في المظاهرات المليونية دائمًا، فقد قضيت في سوريا ما مدته 5 شهور من الثورة، ثم حين اشتد الوضع غادرت الوطن للسعودية على أمل العودة بعد شهور أو أقل، ولكن امتدت غربتي لعشر سنوات، كلما تمنيته وقت الثورة أن يكون أبي معنا ليرى الهبة الشعبية وتغير الناس لأنه يستحق أن يكون في هكذا حدث، أما عن رحلة السعودية، فهي جعلتني أنضج على المستوى الفكري والديني والعملي، وخضت تجربة العمل في مجال التدريس لمادة اللغة الإنجليزية في المدارس".
تعيش رولا حاليًا برفقة زوجها محمد وطفلها أنس في تركيا، ولها عيادتها الخاصة التي تستقبل بها الراغبين في المتابعة مع مختص غذائي، وتطمح إلى إنهاء دراستها الماجستير والتفرغ للعمل بشكل كامل.