بنفسج

الأمومة: مدرسة النَفَس الطويــــــل

السبت 18 سبتمبر

من أجملِ وأرقى مدارسِ الحياةِ مدرسةُ الأمومةُ؛ فهي عالمٌ مَليءٌ بالتجاربِ والمواقفِ والصوابِ والخطأ، تحتاجُ إلى مشوارٍ طويلٍ، ونفَسٍ أطولَ ممزوجٍ بالحُبِّ والعلمِ والمعرفةِ والتعاملِ الحكيمِ، الأمومةُ رسالةٌ من أعظمِ الرسائلِ الحياتيةِ التي تبني الطفلَ؛ وتحدّدُ شخصيتَه وكيانَه وطريقةَ تفكيرِه؛ وترسمُ له مستقبلًا باهرًا، فلم تنحصرْ الأمومةُ يومًا في أنْ تجهِّزي لطفلِك طعامَه وملابسَه وغرفتَه؛ فهذه أساسياتُ الحياةِ، طفلُكِ يحتاجُ إلى مَن يحتضنُه نفسيًا وجسديًا.

كما يريدُ أنْ تُغرقيهِ بالحبِّ في كلِّ المواقفِ؛ حينَ تشجّعيهِ عندما يفعلُ أيَّ عملٍ، أو تصرُّفٍ جميلٍ حتى لو كان بسيطًا، حين يُخطئُ، يريدُكِ أنْ تحضِنيهِ وتشجّيعهِ على محاولاتِه، أو تشرحي له خطأَه بطريقةٍ أكثرَ لطفًا وتخفيفًا على نفسيتِه. انظُري دائمًا إلى ذلك الكائنِ الصغيرِ البريءِ؛ إنه أرضٌ أنتِ مَن تُزهري فيها الحُبَّ والعطاءَ والمستقبلَ، أنتِ من تختاري النبتةَ التي تريدُها بكافةِ الألوانِ الجميلةِ، وتوجّهيها بالحبِّ لا باللومِ والتوبيخِ.

لا تقتلي مظاهرَ الحياةِ فيه بعَدمِ اهتمامِك به، أو التقليلِ من شأنِه، وعدمِ مشاركتِك عالمَه الصغيرَ الكبيرَ، طفلُك لا يكتفي بتقديمِكِ الطعامَ والحلوياتِ والفُسحَ فقط؛ هو يحتاجُ قُربَكِ منه أكثرَ من أيِّ شيءٍ.

 امنحيهِ مشاركتَكِ كلَّ التفاصيلِ الحياتيةِ؛ ومنذُ نعومةِ أظافرِه، لا تقولي صغيرًا لم ينضجْ بعدُ؛ فهو مُفعَمٌ بالإدراكِ والطاقةِ والحيويةِ، لا تقتلي مظاهرَ الحياةِ فيه بعَدمِ اهتمامِك به، أو التقليلِ من شأنِه، وعدمِ مشاركتِك عالمَه الصغيرَ الكبيرَ، طفلُك لا يكتفي بتقديمِكِ الطعامَ والحلوياتِ والفُسحَ فقط؛ هو يحتاجُ قُربَكِ منه أكثرَ من أيِّ شيءٍ. أحيانًا أستغربُ من بعضِ الأمهاتِ التي أسمعُها تشتكي من أنها تشعرُ بالتعبِ والإرهاقِ الشديدِ؛ فهي طوالَ اليومِ تقضيهِ في الترتيبِ والتنظيفِ والطبخِ والغسيلِ؛ فهذه أمورٌ أساسيةٌ؛ ولكنها لا تنبي طفلًا متميزًا مبدِعًا بالمُطلَقِ، لا تبني عقولًا قادرةً على مسايرةِ الحياةِ، وتَجاوُزِ الأزماتِ، والمساهمةِ في بناءِ مجتمعٍ هو جزءٌ منه.

سرَقتْنا الحياةُ وظروفُها ومشاغلُها من أجملِ اللحظاتِ، طفلي يريدُ أنْ أشاركَه طفولتَه، وأستمع إليه وأنا أنظرُ لعيونِه؛ فهو يريدُ حواسي؛ ولكنْ لا يستطيعُ ترجمةَ طلبِه لي؛ بدليلِ حينَ يتحدثُ طفلُكِ معكِ؛ يضعُ يدَه على وجهِكِ لتنظري إليه، وبرغمِ ذلك لا نُعيرُه اهتمامًا؛ لتكونَ ردّةُ فِعلنا احكِ أنا سمعاك ... أنا معك.. شو بدّك ... تمامًا أنتِ تقتلينَ داخلَه التواصلَ والحوارَ والتعبيرَ عمّا بداخلِه. ما يَحدُثُ معنا نحن الأمهات؛ يستدعي كلَّ أمٍّ مِنا التفكيرَ جيدًا؛ كم ساعةً جلستِ مع طفلِك.

حدّثتيهِ واستمعتِ إليه وأنتِ تنظرينَ إليه وهو يُحدِّثُك، معظمُنا يُحدِّثُها طفلُها ويسألُها؛ وعيونُنا إمّا في الهاتفِ؛ أو نكونُ في المطبخِ نطبخُ نجلي ننظّفُ ونرتَبُ، فعلًا محظوظة تلك الأواني والأجهزةُ الإلكترونيةُ؛ فهي تحظَى بنظرتِنا أكثرَ من أطفالِنا! واقعٌ نعيشُه كلَّ يومٍ، تجاربُ أمهاتٍ نسمعُها ونلاحظُ ثمارَها من خلالِ تصرفاتِ وسلوكياتِ الأبناءِ، وفي النهايةِ نشكو: (ابني انطوائي خجول، قليل الحديث، لا يتفاعل مع الآخرين، دائما صامت)، هو زرعُكِ وأنتِ مَن تَسقيهِ بيدِك بعدمِ اهتمامِك وانشغالاتِك.

استوقفَني فيديو على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي لأمٍّ وطفلتِها؛ لم تُقصِّرْ بطفلتِها؛ فهي تعتني بها وبنظافتِها وترتيبِها، وتقدّمُ أجملَ المأكولاتِ لها، وتوَفرُ لها كافةَ وسائلِ التسليةِ، وتَخرجُ معها لتُرفِّهَ عنها؛ لكنها لم ترفعْ عينها في وجهِها طوالَ الوقتِ، تقدّمُ لها ما تريدُ وهي على هاتفِها؛ تتصفحُ كافةَ المواقعِ الالكترونيةِ؛ وتتواصلُ مع الجميعِ؛ رُبما تعتقدُ أنها تقدّمُ كلَّ ما تريدُه لطفلتِها؛ فهي قطعتْ التواصلَ الوجدانيَّ والعاطفيَّ معها؛ فنظراتُ تلكَ الطفلةِ كانت تُخبِرُ بالاحتياجِ الكبيرِ لوالدتِها برغمِ كلِّ ما تقدِّمُه لها.

هذا -للأسف- واقعُ بعضِ الأمهاتِ، لا تستهينوا بلحظةِ حُبٍّ وقُربٍ مع أطفالِكم؛ فلها مفعولٌ سحريٌّ على نفسيتِهم وشخصيتِهم، لا تستهينوا بالنظرِ إلى عينَيهِ عندما يتحدثُ لكِ، هو يخبرُك أنه يريدُ أنْ يكونَ بجانبِك؛ يشارِكُكِ ما يخطرُ بعقلِه الكبيرِ، ولكنْ يحتاجُ إلى إشاراتٍ منكِ تساعدُه على فهمِ ما يدورُ حولَه؛ يتعرّفُ على عالمٍ وبيئةٍ محيطةٍ به لا تقولي: "الحياة وتجاربُها ومواقفُها مدرسةٌ"؛ مدرستُكِ أنتِ أعظمُ وأجملُ مدرسةٍ، اقترِبوا من أطفالِكم وأغدِقوا عليهم بالحُبِّ والحياةِ؛ فهُم أغلَى وأجملُ ما نملكُ على وجهِ الأرضِ.