بنفسج

"لمّا كنّا قدهم كنّا...": هل نواجه جيلًا أكثر هشاشة حقًا؟

الخميس 04 مايو

لطالما جذبتني، كغيري، تلك العبارات الرنانة البراقة التي تطلب من الآباء ترك أبنائهم على سجيتهم، وفتح الآفاق والمجالات أمامهم ليذودوا عن القناعات الأبوية، ويشق كل منهم طريقه وفق طريقته وأسلوبه، حتى لا يكونوا نسخًا مستنسخة منا كعبارة (أولادكم ليسوا لكم هم أبناء الحياة)، وعبارة (لا تكرهوا أبناءكم على آثاركم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم). لطالما نظرنا من منظور التربية الحديثة، وقررنا الانتفاض على كل تلك العادات التي توارثناها من أجدادنا في التربية، وغيّرنا الكثير من الـأسس والطرق المتبعة قديمًا لننهض بهذا الجيل الصاعد نفسيًا وفكريًا.

لست بصدد عمل جدول مقارنة بين جيل الماضي وجيل اليوم، لأذكر محاسن ومساوئ كل جيل، وأوضح مقدار الهشاشة النفسية التي نتمتع بها مقارنة بتلك التي كانت عند نظرائنا من جيل الأمس، ولكني وقفت على الأسباب، وبحثت عنها.

 لطالما بحثنا عن النهج الذي يُمكننا من جعل أولادنا أكثر أمنا، محصنين نفسيًا وفكريًا وجسديًا، لنكتشف بعدها بأننا نصطدم بجيل هش أكثر، وقابل للكسر بشكل أكبر، غير قادر على حل المشكلات، يعاني أكثر، ويبحث عن مجموعات الدعم، والأطباء النفسيين، ويقف أمام أبسط المنغصات عاجزًا متهاونًا مقهورًا مستسلمًا. يا ترى لماذا؟ لست بصدد عمل جدول مقارنة بين جيل الماضي وجيل اليوم، لأذكر محاسن ومساوئ كل جيل، وأوضح مقدار الهشاشة النفسية التي نتمتع بها مقارنة بتلك التي كانت عند نظرائنا من جيل الأمس، ولكني وقفت على الأسباب، وبحثت عنها، واستخلصت الأسباب التالية:

| الرفاهية الشديدة: كانت الحياة أشد قسوة قديمًا، فكانوا يذهبون مشيًا على الأقدام لمسافات طويلة فقط حتى يحصلوا على الماء. كانت الحياة أعتى وتحتاج نفوس شديدة صلبة لتتحملها، فكان الإنسان يعمل ويكد ويجتهد للحصول على أبسط حاجاته، أما نحن الآن، فبكبسة زر، نسخن ما نريد تسخيه، بفتح الصنبور نحصل على الماء، وهكذا، فإن طبيعة الحياة السهلة تخلف أناس أكثر رقة.


اقرأ أيضًا: الأب الأعزب: ما الذي فعلته التنشئة بأدوارنا؟


| عدم خوض غمار التجارب؛ سواء الحسية والحياتية المختلفة بشكل كبير، وفي المقابل، قضاء معظم الأوقات أمام الشاشات كمتلق خامل، فيصبح الإنسان متلقيًا لكل المعلومات، ويشاهد كافة المشاهد، ويتعرف على الأشياء من خلف الشاشات، وإذا واجهه موقف يحتاج قوة جسدية أو صبرًا وتحملًا فإنه ينهار. وتولي الآباء المسؤوليات مقابل عدم تحميل الأبناء أي نوع من أنواع المسؤولية حتى ما يتعلق بنظافتهم وترتيب حاجياتهم.

حل الآباء كل المشكلات حتى التي تحدث للطفل مع زملاء الدراسة في المدرسة، أو تلك التي تحدث معه في الشارع مهما كانت تلك المشاكل كبيرة أم صغيرة. ما يجعله عند مراهقته أكثر عرضة للفشل عندما تحل أي مشكلة تواجهه لأنه لم يعتد على انتهاج نهج الحل، ووجد الحل جاهزًا مرارًا.

| إهمال الإدارة المالية: وتوافر المال بشكل كبير يؤدي إلى رغد العيش والحصول على كل ما نريد، وإعطاء الطفل المال بشكل غير مسؤول، وبدون سؤال، وبطريقة تفوق الحاجة، يجعله يأخذ كل ما يحتاج من حاجيات وكماليات، وعند عدم توفر المال أو انقطاعه، يحدث لديه شعور بالنقص والعجز، ويؤدي به إلى التبذير واللامبالاة، وبالتالي، يفشل في تحقيق أهدافه المالية مستقبلًا بسبب سوء إدارة المال.

| عدم الاعتماد على النفس: حل الآباء كل المشكلات حتى التي تحدث للطفل مع زملاء الدراسة في المدرسة، أو تلك التي تحدث معه في الشارع مهما كانت تلك المشاكل كبيرة أم صغيرة. ما يجعله عند مراهقته أكثر عرضة للفشل عندما تحل أي مشكلة تواجهه لأنه لم يعتد على انتهاج نهج الحل، ووجد الحل جاهزًا مرارًا.

| الراحة المطلقة: أي استبدال مفهوم الراحة بعد الإنجاز إلى الراحة طوال الوقت، من المفترض أن يقوم الإنسان بالمهام المهمة، وينجز الأمور الأساسية ليحصل على الراحة. أطفالنا اليوم أمام كتلة هائلة من وسائل الإلهاء والراحة واللعب، تجعل المهمة والوقت المفيد هو الوقت المستقطع لا العكس.

عدم وجود نمط واحد وأسلوب واحد ومرجع تربوي واحد، الانهمار المعرفي والانفجار المعلوماتي أدى إلى تعرضنا للكثير من الأساليب التربوية المختلفة المتضاربة، قيمنا أصبحت سائلة لا تحكمها مرجعية واحدة ثابتة.

| تراجع سلطة البالغين: لم يعد هناك صرامة لدى البالغ في تمرير القيم ولا في تنفيذ المهام؛ بسبب تأثر البالغين الشديد بالنمط العصري، مما أضعف هيبة الكبير، وبالتالي، أسقط كثيرًا من القيم والمثل العليا بشكل طردي مع سقوط الهيبة واختفاء الصرامة والعزم.

| تعدد المراجع المعلوماتية: عدم وجود نمط واحد وأسلوب واحد ومرجع تربوي واحد، الانهمار المعرفي والانفجار المعلوماتي أدى إلى تعرضنا للكثير من الأساليب التربوية المختلفة المتضاربة، قيمنا أصبحت سائلة لا تحكمها مرجعية واحدة ثابتة. أدى ذلك إلى التخبط والعشوائية في اتخاذ القرارات، وبالتالي، وجود بلبلة عند الأفراد والجماعات في تقييم السلوك والحكم على صوابه من عدمه.

| فجوة العلاقات: وجود فجوة بين الآباء والأبناء، الآباء، منشغلون بتحقيق الذات خارجًا، ولهم عالم كامل بالخارج، والأبناء لديهم أفكار وطموحات ورؤى تبقى حبيسة ضلوعهم لا يبوحون بها إلا لأقرانهم، فيوجهونهم بشكل خاطئ في كثير من الأحيان.

هذه برأيي تعد أبرز النقاط، وغيرها الكثير الكثير التي أدت إلى انحدار تمرير المثل والقيم إلى أبنائنا، وبالتالي، أضعفت جيل اليوم نفسيًا وفكريًا، وجعلتهم أكثر عرضة للكسر. الأمهات تتولى أمور الدراسة والواجبات، تلخص وتحلل وتحل كل المشكلات، تقوم بعمل مجموعات على الوتساب، والطفل ينام ليله الطويل؛ فأمه ترسم وتحل وتكتب وتقوم بمهامه كلها، فينشأ اتكاليًا عديم المسؤولية. إضافة إلى الآباء الذين يغدقون عليهم بالأموال وتلبية الرغبات بلا حساب أو توقف. في معظم الأسر لا وقت محددًا للشاشة، ولا وقت محددًا للعب. تلك الرقة ورغد العيش هما السبب الرئيس وراء هشاشة أبنائنا النفسية، وبلادتهم الجسدية والفكرية.

أنا أرى أن الإنسان لا بد له من أن يتبنى وجهة نظر واحدة قويمة في التربية، ويسير عليها، وأن لا يتخبط عشوائيًا، وعلينا أن لا نترك الأبناء لسجيتهم وطباعهم وأحلامهم بالمطلق، فنحن أيضًا ارتشفنا من كوب الحياة ما ارتشفنا، ولا يوجد في الكوكب من هم أغلى من أبنائنا. علينا أن لا نتدخل في تحديد مصائرهم بالمطلق، وفرض أنفسنا عليهم بشكل مفرط في الأمور التي تقبل الجدال والنقاش في اختيار التخصص، وفي اختيار الشريك.

أما في الأمور القيمية والثوابت، فلا بد من أن نقوّم سلوكهم، ونرشدهم نحو الهدى، ونحثهم على الصلاة، ونصبر عليهم ليسيروا على النهج القويم بلا إفراط ولا تفريط. وإلا فليعش كل إنسان بفرديته وشهوانيته، وفق مزاجه، ولا داعي لأي ضوابط دينية أو سلوكية، هذا بالطبع أمر مذموم. للأب سلطة لا تنتهي، ولا تسقط بالتقادم، الأصل فيها أن تكون سلطة توجيه ورقابة ليقود أبنائه نحو الاستقامة والصلاح، لا سلطة قمع وديكتاتورية وتسلط أعمى.