بنفسج

سيدة فلسطين "لينا الجربوني" أم وإن لم تلد

الأربعاء 10 يونيو

في وجهها انشراحة كبلورٍ من نور، في مشيتها لمسة قيادية غير عادية، ومن كفيها تنهمر أمومة يهينها الوصف؛ روحها طوق من ألماس إذا ما اجتمعت حبيباته غطت بزينتها وجه الشمس، وإذا ما تفككت في سكون الليل تتكوم الانكسارات على دمع عينيها.

"لينا الجربوني" هذه الفلسطينية التي أتقنت فن العيش بحرية في عددٍ من السجون "الإسرائيلية"؛ بقضائها خمسة عشر عامًا بين زنازينها، كانت فيها تهب الدفء والحياة اللذين سُلبا منها لكل أسيرة رافقت دربها.

 | هيا تأخرتِ يا لينا

لينا الجربوني" فلسطينية أتقنت فن العيش بحرية في عددٍ من السجون "الإسرائيلية"؛ بقضائها خمسة عشر عامًا بين زنازينها...
 
اتهمت لينا بمساعدة رجال المقاومة في تنفيذ عملياتهم الفدائية داخل فلسطين المحتلة، وحكمت "17 عامًا" بالرغم أن الحكم كان حينها "3 سنوات"، وقد تلقى أشخاص في نفس الخلية حكم سنتين وثلاث؛ لكن عقابها كان أشد. ونالت حريتها في إبريل/ نيسان من العام الماضي. 

تساءلت مراسلة "بنفسج" في لقائها مع "لينا" الأسيرة المحررة التي لم يكتب لها الزواج؛ كيف استطاعت أن تمزج بين أمومةٍ حُرمت منها وأمومة وهبتها بلا حدود؟ "كان المشهد الذي يثير في النفس هذا الشعور، عندما أخرج صباحًا لتفقد الأسيرات باعتباري ممثلتهن، أقف على باب كل غرفة لأستمع لهن، لتلتف الأسيرات في الغرفة حولي، حتى أنّ بقية الغرف لا تصبر ليأتي دورها فيتنادون: "تأخرتِ يا لينا".

ولطالما خرجت الأسيرات من السجون يمتدحن لينا الجربوني التي نالت حريتها في إبريل/ نيسان من العام الماضي، تقول: "كنت أعرف بقدوم الأسيرات للسجن الذي أقبع فيه سواء كان الرملة أو هشارون لاحقًا، من خلال الاستماع للإذاعة وأنتظرهن وأستقبلهن بحرارة أحتضن كسرهن وحزنهن، ومنهن القاصرات والأمهات، يأتينَ متعبات من ليالي التحقيق الطويلة إذ أسعى جاهدة لأسدّ جزءًا ولو صغيرًا من ذلك الفراغ القاتل".

وإذا ما سُئلت الأسيرات اللاتي أُسِر معهن أحد أطفالهن، فهم بالتأكيد في أحضان لينا، ليتنافس الصغار على الجلوس بين يديها لحنوها ودلالها الآسِر، "حناني على الأطفال في الأسر كان له ثمنه، فأنا أحبهم بطبعي إلا أن صغاري مثل يوسف ابن فاطمة الزق؛ وبراء ابن سمر صبيح؛ وعائشة ابنة عطاف عليان وغيرهم، كنت أدرك أنهم سيخرجون آجلًا أم عاجلًا؛ بسببهم عشت ليالٍ طويلة من البكاء والاشتياق والافتقاد".

 | سليلة عائلة ثورية

لم يكن حنانها وتضحيتها وليدا السجون الإسرائيلية بل أنهما يمتدان لسنوات طفولتها الأولى، عندما ولدت في قرية "عرابة البطوف" القريبة من مدينة عكا الساحلية بالداخل الفلسطيني المحتل عام 48، وُلدِت لينا لأمٍ مثابرة، تبتسم حين تتذكرها بالقول: "لم أعهد أمي إلا انسانة قوية آثرت انتظار أخيها في سجون الاحتلال لسنواتٍ طوال على حياتها الشخصية، ورفضت الزواج إلى أن نال خالي الحرية بعد أن قضى 14 عامًا في الزنازين".

ودائمًا ما كانت تردد والدة لينا على مسامعها تلك المخاوف والهواجس التي تملأ صدرها، فتقول لها وهي لم تزل ابنة الـ 14 عامًا: "درتُ وراء خالك في كل سجون الاحتلال في صبايّ وأشعر أنكِ ستفعلين بي الأمر ذاته في آخر عمري، وسأبقى أزورك في السجون واحدا تلو آخر، وصدقت نبوأتها، فقد كانت (إسرائيل) تتعمد نقل الأسرى من مكان لآخر لزعزعة استقرارهم وإرهاق ذويهم".   

تلك الحالة النضالية خلقت من شخصية لينا فتاة شامخة مجبولة على حب الأرض، ففي أوج أحداث الانتفاضة الأولى كانت ضيفة "بنفسج" ما تزال طالبة في الثانوية، تشارك في أيّ مسيرة أو مظاهرة أو وقفة تضامنية مع الفتيات والشبان الناشطين.

أمها كانت أنموذجًا رائعًا في العطاء، حين انتظرت زوجها في غياهب السجون لما يزيد عن ثمانية أعوام من العذاب، تعود إلى تلك المرحلة الصعبة من حياتها: "كان عمري لا يتجاوز السابعة عندما استشهد خالي الآخر في الحرب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على لبنان عام 82، وعشت في البيت هذه الأحداث المتوالية وتفاصيل الحياة الثورية، وهكذا نشأت أحمل همّ حلم التحرر ورؤية فلسطين حرة".

تلك الحالة النضالية خلقت من شخصية لينا فتاة شامخة مجبولة على حب الأرض، ففي أوج أحداث الانتفاضة الأولى كانت ضيفة "بنفسج" ما تزال طالبة في الثانوية، تشارك في أيّ مسيرة أو مظاهرة أو وقفة تضامنية مع الفتيات والشبان الناشطين، مضيفة: "كنا أحيانًا نقوم بإغلاق المدارس كما حدث عندما ارتكبت أحد المجازر في غزة منددين بالاحتلال وسياساته، ولطالما نظمنا العديد من الفعاليات والنشاطات المُشابِهة لاسيما في يوم الأرض الذي يحظى بمكانة خاصة لدينا".
 | ظلمات بعضها فوق بعض
لينا إنفوجراف.jpg
نبذة تعريفية عن سير حياة لينا الجربوني 

عاشت لينا بين أحضان عائلة بسيطة تنتصر للحق، وبعد أن أنهت دراستها الثانوية عام 92، شرعت في العمل لتدرس السكرتارية الطبية، تحدثنا عن طموحها في ربيع حياتها: "كان طموحي أن أتعلم فن الطبخ لأنشئ مطعمًا بطابع معين، لكن وضع أسرتي المادي لم يساعدني، وبالطبع، تم اعتقالي قبل تحقيق الدراسة أو الطموح".

في عام 2002، اقتحمت قوة كبيرة من ما يُسمى بــ "حرس الحدود" منزل عائلتها، تصف المشهد قائلةً: "عجّت باحة البيت بالجنود الذين كانوا ملثمين وكسروا الأبواب بعنجهية، ثم اقتحموا غرفتي وقاموا بتكبيلي ولم تنجح محاولات أمي في منعهم، كما اعتقلوا أخي سعيد معي أيضًا".

اتهمت لينا بمساعدة رجال المقاومة في تنفيذ عملياتهم الفدائية داخل فلسطين المحتلة، وحكمت "17 عامًا" بالرغم أن الحكم كان حينها "3 سنوات" وقد تلقى أشخاص في نفس الخلية حكم سنتين وثلاث؛ لكن عقابها كان أشد.

لم يكن أمر اعتقالها مفاجئًا، خاصة بعدما عرفت لينا باعتقال العديد من الشباب في مجموعتها الثورية تلك، لكن وقع الاعتقال رغم توقعه كان قاسيًا على عائلتها: "بعد اعتقالنا، اقتاد الاحتلال لسجونه أختي لميس أيضًا، وبقيت والدتي المريضة في البيت بمفردها، والحمد لله أنها نجحت في تجاوز الأزمة".

اتهمت لينا بمساعدة رجال المقاومة في تنفيذ عملياتهم الفدائية داخل فلسطين المحتلة، وحكمت "17 عامًا" بالرغم أن الحكم كان حينها "3 سنوات" وقد تلقى أشخاص في نفس الخلية حكم سنتين وثلاث؛ لكن عقابها كان أشد: "ضغط الاحتلال عليّ بشدّة عندما اعتقل أخي وأختي وأشركهم في قضيتي ظلمًا، وحتى يُفرج عنهم تحملت أعباء المعتقل، ثم خفف المحامي الحكم لـ 15 عام".

ذلك الحكم الذي لم تتلقاه إلا بعد مرور 3 سنوات داخل السجن، تذوقت فيها آهات وعذابات الخروج للمحاكم كل شهر: "يوم المحكمة هو يوم العذاب، المكوث في "البوسطة" مقيدة اليدين والقدمين بوضعية مؤلمة ليومين، والتنقل من بوسطة لأخرى مع تشديدات لا تطاق؛ لا يمكن أن يمحى من ذاكرة المرء".

وتتابع حديثها: "لم يعد الاحتلال يستخدم التعذيب الجسدي بكثرة لأنه سرعان ما ينتهي بانتهاء علاماته، لكن التعذيب النفسي وقعه على النفس أشد، وهذا هو الأسلوب الذي اتبعته سلطات الشاباك معي". بقضاء الجربوني ثلاثين يومًا في غرف التحقيق بمعتقل الجلمة، عايشت ويلات من العذاب الذي ما تزال تعاني آثاره رغم مرور كل تلك السنوات.

"غرف التحقيق سوؤها يفوق التوقع؛ ذات جدران خشنة ومساحتها لا تتجاوز المترين تشمل الحمام، ولا يوجد بها أي منفذ للهواء أو الشمس، عشت فيها لحظات رعب عندما كانوا يتركوني لثلاثة أيام في الزنزانة لا أُميز الليل من النهار، تلطمني الأسئلة الصعبة: ترى ماذا سيحدث؟ هل ستنتهي قضيتي؟ ماذا يخططون لأجلي؟ هذه الأيام المظلمة مثلّت رحلة عذاب من ألفها ليائها؛ اعترف أنني ما زلت إلى الآن أنهض فزعة على إثرها".

 | رحمة من رب السماء

مرور الليالي القاسية عليها لم يثنها عن اهتمامها بزميلاتها الأسيرات، فقد حولّت حياة "حديثات العهد" بالمعتقل إلى بؤر من العلم والثقافة.
 
"في السنة الأولى من الاعتقال كنا جميعنا أسيرات جدد نعتقل للمرة الأولى وكانت تعم السجن فوضى شديدة؛ منعنا الكثير من حقوقنا جرّاء جهلنا بها، وجرت بيننا وبين السجانات سجالات طويلة  ودائمًا ما كان يتم عقابنا نتيجة أعمال الشغب. 

مرور الليالي القاسية عليها لم يثنها عن اهتمامها بزميلاتها الأسيرات، فقد حولّت حياة "حديثات العهد" بالمعتقل إلى بؤر من العلم والثقافة: "في السنة الأولى من الاعتقال كنا جميعنا أسيرات جدد نعتقل للمرة الأولى وكانت تعم السجن فوضى شديدة؛ منعنا الكثير من حقوقنا جرّاء جهلنا بها، وجرت بيننا وبين السجانات سجالات طويلة  ودائمًا ما كان يتم عقابنا نتيجة أعمال الشغب، استمر الأمر كذلك حتى اعتقلت عطاف عليان، وجاءت لنا رحمة من رب السماء، عرّفتنا على حقوقنا من موعد الفورة ومدة الزيارة والحاجيات المسموحة، ووضعت لنا البرامج التنظيمية لحياة المعتقل".

علمتهن عطاف كيف يحصلن على حقوقهن، تلك الحقوق التي تسميها لينا "المُبيّض لــ (إسرائيل) أمام العالم"، موضحة: "إنها لا تعطي الأسرى حقوقهم بشكل كامل، بينما تسنها لتثبت للمجتمع الدولي أن أسراها ينعمون ببعض الحقوق والامتيازات، والحقيقة أن إدارة مصلحة السجون لم توفر أكثر من 20% من الحقوق التي تنص عليها الاتفاقيات".

سرعان ما قادت لينا الفتيات وحولّت فوضى السجن إلى جلسات تحفيظ قرآن، وتفسير، ومطالعة، وأخرى للنقاش الحر وفق قضية معينة مثارة في الإعلام، وأوقات محددة للتطريز والأشغال اليدوية، وأقامت الأسيرات معرضين كبيرين للأشغال اليدوية، ولكن بعد أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006 منع الاحتلال دخول لوازم الخياطة.

تتسلل ضحكتها هذه المرة كلامها: "كانت من أجمل المعارض وأزهاها، كنا نعلم أنفسنا بأنفسنا ولا نشعر بالملل، فإذا جاءتنا اليوم معتقلة تحمل شهادة في تخصص ما، كنا نعلّق أحد البرامج ونخصص ساعات من يومنا لها لتعلمنا مما درست، لنستثمر فترة اعتقالها بدورة مكثفة في تخصصها".

 | الإضراب والمرض

خاضت الأسيرات بقيادة لينا أول إضراب في نيسان/إبريل 2004، تروي لنا عن تلك الذكرى: "في ذلك الوقت شرحت لنا عطاف عليان معنى الإضراب، ومدى تأثيره الصحي على المُضرِب، وخضنا إضرابًا جماعيًا مفتوحًا عن الطعام للمطالبة بفصلنا عن الأسيرات الجنائيات في السجن اللاتي كن يسببن لنا إزعاج وفوضى كبيرة، لمدة 6 أيام وكان له وقعه في حينها خاصة كونه جماعي، نقلتنا إدارة مصلحة السجون إلى سجن الشارون في قسمٍ خاص بنا".

خاضت الأسيرات بقيادة لينا أول إضراب في نيسان/إبريل 2004، تروي لنا عن تلك الذكرى: "في ذلك الوقت شرحت لنا عطاف عليان معنى الإضراب، ومدى تأثيره الصحي على المُضرِب، وخضنا إضرابًا جماعيًا مفتوحًا عن الطعام للمطالبة بفصلنا عن الأسيرات الجنائيات في السجن اللاتي كن يسببن لنا إزعاج وفوضى كبيرة، لمدة 6 أيام وكان له وقعه في حينها خاصة كونه جماعي، نقلتنا إدارة مصلحة السجون إلى سجن الشارون في قسمٍ خاص بنا".

في سجن الشارون اتخذت الحياة في المعتقل الطابع البرامجي المنظم، وأجريت انتخابات لاختيار ممثل عام عن الأسيرات، وكُن دائمًا ما يخترن لينا الجربوني؛ لقوة شخصيتها ودرايتها في اقتلاع الحقوق من حلق ضباط الاحتلال، ورأفتها بهن.

عانت لينا من الإهمال الطبي لسنوات متتالية: "أصبت بالشقيقة وآلام المرارة، وبقيت لا أقوى على تحمل شدّة الأوجاع التي لم يسمح الاحتلال بعلاجها إلا بالمسكنات حتى بلغ الألم ذروته بعد مرور عام على التهابات المرارة حتى أقرت مصلحة السجون إجراء عملية جراحية لاستئصال المرارة، وبعدها لم أعد أقوى على خوض إضرابات طويلة ومفتوحة".

 | انتزاع اللحظات

في عام 2011، جرت صفقة "وفاء الأحرار" بتبادل1027 أسير فلسطيني بالأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، وكان قد أدرج اسم لينا الجربوني ضمن الصفقة التي شملت في اتفاقها كل الأسيرات الفلسطينيات، لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن لينا تحمل الهوية "الإسرائيلية" فسقط هذا الخطأ الفادح من المفاوض الفلسطيني الذي ترك لها صدمةً قاسية.

"جهزت نفسي مع الأسيرات للخروج، وكنت أغنى معهن في باحة السجن للحرية لكن المفاجأة التي أخفاها الاحتلال طوال تلك الفترة التي تمت فيها برتوكولاتها حتى موعد الخروج بثلاثة ساعات فقط، هي عدم شمول الصفقة اسمي، فكان وقع الخبر صادمًا جدًا عليّ وعلى الأسيرات معي اللواتي تلقينه بالبكاء والعويل والدموع والاعتصام الذي لم يُجد نفعًا، وتركوني أكابد ظلمة المعتقل ولكن هذه المرة وحدي بين جدرانٍ فارغة".

أما في عام 2015، وكانت ما تزال لينا تقبع داخل الأسر مع أسيراتٍ جديدات، حظيت بلقب "سيدة فلسطين لعام 2015"، فكان اللقب يتشرف بها وهي أكبر من الألقاب بتضحياتها الجمّة، وبقيت حتى حظيت بحريتها فكتب الاعلام "تحرير عميدة الأسيرات الفلسطينيات لينا الجربوني".

اليوم تسعى لينا بكل ما أوتيت من قدرة على تكريس كل أيامها لعائلتها ودراستها الجامعية التي التحقت بها حديثًا، كما تحاول تعويض ليالي الغياب عن والدتها الحبيبة وأبناء إخوانها وأخواتها، بانتزاع اللحظات الممتعة من فك الزمن الذي يمضي، دون أن تنسى أبدًا المطالبة بحقوق صديقاتها الأسيرات اللاتي يكابدن الظلم في سجون الاحتلال.