بنفسج

في سير وتراجم النساء: بعض ما أوردته حضارتنا "1"

السبت 08 ابريل

من وحي القرآن وطُهر السّيرة النبويّة، ننتقلُ إلى ملامحِ التّاريخ الإسلامي، ذاكرة وتفاصيل، جولات حياتية ومعارك، انتصارات وهزائم، رموز وشخصيّات لرجالٍ ونساءٍ صنعوا حضارة إسلاميّة مازلنا –إلى يومنا هذا- نقفُ على أطلالها، نتغنّى بها، ونرثيها، معالم وأسماء حين تتبدّى لك ترفعك فوق التّفاصيل، لتتجاوز بك منطق إبصار وفهم السّنن السّارية إلى القدرة على الاستشراف، النّظر والاعتبار، التغيير والتّقويم، الثّبات وضبط المسار والاحتفاء بالقيم، فقراءة التّاريخ لا تعني الاعتكاف بين طيّاته وترك الحاضر، بل هي إحياء للمعنى واستعادة للوجهة والقبلة، ومن بين هذه الأسماء وقفت عند بعض النّماذج النسائيّة التي شدّتني شخصيّتها، وكففتُ قلمي عن البعض الآخر كرهًا حتّى لا يأخذنا الكلام، فننصرف عن الهدف الذي نكتب من أجله.

| من ملامِح التّاريخ الإسلامي

| لُبنى القرطبيّة 

لبنى.jpg

العالمة المعلّمة، رغم أنّها كانت مجرّد أَمَة إسبانيّة مملوكة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعها من أن تثبت نفسها وتصنع مكانتها في قصر الخليفة الحكم الثّاني، فكانت نحوية وشاعرة عروضية، بصيرة بالحساب، عملت في تدوين وترجمة الكتب في مكتبة الخليفة بمدينة الزهراء، لكنّها لم تكتفِ بالنقل الحَرفيّ، بل كانت تُصحّح ما يرد في الكتب من أخطاء وتضيف عليها من واسع عِلمها، فنبغت خاصّة في مجال الرياضيّات لحلّها أصعب المعادلات الرياضيّة، كما اهتمت بتعليم الأطفال الحساب وجداول الضّرب، فكان علمها سبيلها للعتق والحريّة، لتكون من أهمّ شخصيات القصر حتّى أنّ الخليفة لشدّة ثقته بها وبرجاحة عقلها؛ أسند لها التوقيع عنه.

| فاطمة الفهريّة

فاطمة الفهرية.jpg

 السيّدة التي أسست أوّل جامعة في العالم "جامعة القرويّين" بالمغرب التي كانت مسجدًا، في البداية، ثمّ بذلت فاطمة من مالها لتوسيعه وتطويره إلى أن اكتمل بناؤه، وصار بعدها معهدًا دينيًّا، ثمّ أكبر كلية عربية في بلاد المغرب الأقصى، قال ابن خلدون عنها: "فكأنما نبّهت عزائم الملوك بعدها".

| خولة بنت الأزور

خولة.jpg

 شاعرة ومحاربة استهوتها ساحات المعارك، فلم يحبسها شيء عن إشهار سيفها والمشاركة في الحملات، أظهرت بسالة فائقة، وكانت تحارب ملثّمة حتّى خالها البعض خالد بن الوليد، يقول الزركلي في كتابه الأعلام: "خولة بنت الأزور الأسدي: شاعرة وكانت من أشجع النساء في عصرها، وتشبه خالد بن الوليد في حملاتها. وهي أخت ضرار بن الأزور. لها أخبار كثيرة. من فتوح الشّام، وفي شعرها جزالة وفخر...".

كما ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أنها ممن قاتل يوم اليرموك مع الكثير والنّساء، فقال: "وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقًا كثيرًا من الروم، منهن: خولة بنت الأزور، وخولة بنت ثعلبة الأنصارية، وكعوب بنت مالك بن عاصم، وسلمى بنت هاشم، ونعم بنت فياض، وهند بنت عتبة بن ربيعة، ولبنى بنت جرير الحميرية، وعفيرة بنت غفار، وسعيدة بنت عاصم الخولاني".

| الجازية الهلاليّة

الجازية.jpg

سيّدة وُلدت في مجتمعٍ قبليّ، استطاعت بحذاقتها أن تسيطر على رمزيّة "السيرة الهلاليّة"، وأن تنال ثلث المشورة في قومها، كانت مقاتلة، حكيمة، حصيفة الرأي، شديدة الإخلاص لقومها، أحبّت فغَوَت، وتبنّت القتال فرسخت في الأذهان، تزوّجت من شريف ابن هاشم لتخدم ذويها بعد أن أنهكهم القحط، ثمّ عادت إليهم وتركت زوجها وابنها خلفها حين استوجب الأمر ذلك؛ لتشاركهم المحنة وتهاجر معهم إلى شمال أفريقيا تاركةً بذخ العيش مواجهةً المجهول. وما يزال صيتها يُدوِّي في أروقة ذاكرة الشّعوب، يخلّده قبرها الشاهد على تاريخها في مدينةٍ سُمّيت باسمها في الجزائر.

| السلطانة رضيّة

رضيه.jpg

 أوّل حاكمة مسلمة من أصول تركية، والمرأة الوحيدة التي تُوّجت بسلطنة دلهي لمدّة أربع سنواتٍ، تولّت الحكم من بعد أخيها الذي أدخل البلاد في أزمةٍ لانعدام مسؤوليته وانشغاله باللهو عن الحكم، وذلك لما شهد لها به قومها من رجاحة عقلٍ وشجاعة، وكانت على حظّ كبيرٍ من الذّكاء، تحفظ القرآن الكريم، وتُلِمُّ بعلوم الفقه؛ وما إن آل إليها الحُكم حتّى أثبتت استحقاقها، حتى أن مؤرخي الهند أطلقوا عليها اسم "ملكة دوران بلقيس جهان" أي فتنة العالم.

| سُتَيْتَة البغداديّة

ستيته.jpg

عالمة، فقيهة على المذهب الشّافعي، مفتية، وبارزة في الرياضيّات، والحساب، وعلم الجبر، فتركت خلفها حلول كثيرة لمسائل صعبة وحلول مبتكرة لبعض المعادلات الرياضيّة، وقد كان القاضي يستعين بها كشاهدٍ علميّ في محاكم بغداد، حيث كانوا يستخدمون الرياضيات لحلّ القضايا المستعصية (التي تتعلّق بالبناء مثلًا).

| الأميرة ذات الهمّة

الاميرة ذات اهمة.jpg

اسمها فاطمة بنت مظلوم الكلابي، فتاة فلسطينيّة خاضت المعارِكَ بشجاعةٍ وسطَ الرجال، وتصدّرت للدّفاع عن قبيلتها في سنّ مبكرة فلُقّبت لذلك بذات الهمّة، ووصلت بانتصاراتها إلى أَسْر الإمبراطور الروماني في أوجِ الحروب بين العرب والروم؛ لتدخل على رأس الجيوش العربية إلى القسطنطينية، وتصبح أكثر ملوك العرب في عصرها سعةً ونفوذًا، فأفقدت الملوك من حولها صوابهم بما فعلته.

| السلطانة كوسِم

السلطامة كوسيم.jpg

يصفها الكاتب والمؤرخ يلماز أوزتونا، قائلًا: "كانت ذكية إلى درجة استثنائية، ماكرة ومراوغة، أستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، مؤثرة ومقنعة في كلامها، كانت تُعنى بإرضاء الشّعب، لذا تركت خلفها مؤسّسات خيرية كثيرة العدد إلى درجة لا يستوعبها العقل، ثروتها الضخمة جدًا انتقلت إلى الخزينة العامة للدولة، فأنعشتها"، فكانت من أقوى وأشهر السلطانات في عهد الدولة العثمانيّة، امتدّ حكمها لمدّة تتجاوز 30 عامًا، تدرّجت فيها من السلطانة الأم إلى نائبة السلطان، اهتمّت كثيرًا ببناء المؤسسات الخيريّة، كالمساجد ومنابع المياه.

التاريخ يزخم بأسماء لا تُعدّ ولا تُحصى من نساءٍ بلغنَ شأوًا بعيدًا، ونِلْنَ فضلاً من الله وحكمة في شتّى الميادين، مسلمات كنّ أو غير مسلمات، إلاّ أنّي فضّلت ذِكر المسلمات على غيرهنّ، حتّى تدرك فتياتِنا أنّ الدّين لم يكن يومًا قيدًا ولا جدارًا مانعًا للمرأة من التقدّم.

الحقيقة أنّ التاريخ يزخم بأسماء لا تُعدّ ولا تُحصى من نساءٍ بلغنَ شأوًا بعيدًا، ونِلْنَ فضلاً من الله وحكمة في شتّى الميادين، مسلمات كنّ أو غير مسلمات، إلاّ أنّي فضّلت ذِكر المسلمات على غيرهنّ، حتّى تدرك فتياتِنا أنّ الدّين لم يكن يومًا قيدًا ولا جدارًا مانعًا للمرأة من التقدّم، وأنّهن لسن أقلّ شأنًا وذكاءً وفطنةً من غيرهنّ، فالمشكلة أنّنا عندما غفلنا عن حقيقة ما عندنا -كمسلمين- رُحنا نتقمّم من روايات الغرب وغثائهم وأساطيرهم، وبين ما نأخذه عنهم وما نُعايشه واقعًا وما نستنبطه، تجد النّفوس تنحرف عن الجادّة؛ فتتعقّد الحياة ويعود هذا بالوبال على النّفس، فالأسرة، فالمجتمع.

فكلّ امرأة من هؤلاء النّساء الجليلات (بدءًا بزوجات الرّسول اللواتي تربّين في حُضن النبوّة إلى الصحابيّات، فالتّابعات وما تبعهنّ عبر التّاريخ، سواء حُفرت أسماؤهنّ في الصّفحات أو ذُكرن بأقلامٍ خجلى وحبرٍ مسجونٍ ) تصلح لأن تكون قدوة لكلّ فتاةٍ تصطدم قناعاتها ومعتقداتها مع الظروف المحيطة بها، أو أفكار المجتمع والقيود من حولها، مهما ساء المشهد وبدا لها مُعتمًا... نساءٌ خُضن لُجج العِلم والعمل في شجاعة، وفي جرأة، وصبرٍ وجَلدٍ، بل في شوقٍ ولذّةٍ، وسماحةٍ، وإشراقةٍ غامرةٍ، فلم يُحجمهُنّ عن البحث في قضايا المُجتمع على اختلافها، علميّة أو مدنيّة أو اجتماعيّة شيء.

استطعن أن يوازنّ بين طاعة الله عزّ وجلّ دون خرقٍ للضوابط ولا الوقوع في المحرّمات و"الاسترجال"، وبين المشاركة الفاعلة في مجتمعاتهنّ، وترك أثرهنّ كلّ حسب مجالها وقدراتها ومهارتها، فجمعن بين قوّة السلطة والإيمان. وخرجنَ من فقاعة أحلام النّساء البسيطة، كأن تقلّل وزنها وتتجمّل لأنها أصبحت غير مقبولة بشكلها الحالي، وأن تظهر لمجرّد حُبّ الظهور دون امتلاكها لأفكار بنّاءة ومعارف حقيقيّة، ومن مقارنة نفسها بغيرها من حيث نمط ومستوى المعيشة، وبهرجة الأزياء والأفرشة وحليّ النّساء الفاخرة، التي ما هي في حقيقتها إلاّ شكليّات باهتة تنمُّ عن فراغٍ عظيمٍ!

 إنّ حضور المرأة وتمكينها لا يعتمد على احتلالها مناصب فحسب، بل المهم هو الغالبية المشاركة، والتي لا بدّ من تمكينها، فالمعيار في ذلك هو حضورها المدني بزادٍ معرفيّ، وقُدرتها على الكشفِ عن خبرتها في المُجتمع. وهذا لا يعني بالضرورة المشاركة السياسيّة فقط، أو حتّى على مستوى المجتمع ككل.

 إنّ حضور المرأة وتمكينها لا يعتمد على احتلالها مناصب فحسب، بل المهم هو الغالبية المشاركة، والتي لا بدّ من تمكينها، فالمعيار في ذلك هو حضورها المدني بزادٍ معرفيّ، وقُدرتها على الكشفِ عن خبرتها في المُجتمع. وهذا لا يعني بالضرورة المشاركة السياسيّة فقط، أو حتّى على مستوى المجتمع ككل، بل يمكنها فِعل ذلك في مُجتمعها المُحيط بها، وهذا يُمكن لأيّ امرأة أن تقوم به، كل واحدةٍ وفق ظروفها وقدرتها، كالتكفّل بالمُحتاجين من حولها والتصدّق والتطوّع في خدمة النّاس بمالها أو بما تستطيع، أو التدريس أو التّوجيه من خلال حلقات ومحاضرات بسيطة، وكلّ ما يمكن أن تقوم به من أفعال صغيرة ذات آثار كبيرة، فالأفعال الصغيرة قد تكون أوسع صدى وأعمق تأثيرًا وأكثر امتدادًا واستمرارًا من الأفعال الكبيرة.

وذلك دون أن نُهمّش ضرورة تفعيل دور الأمّهات في المجتمع، فالأمومة قوة وليست ضعفًا أو تراجعًا، فهي تحقق قوة وقيمة عالية تُضاف للمجتمع، ذلك أنّ حسّ المسؤوليّة لدى الأمّهات تجاه أبنائهنّ وحرصهنّ عليهم، وعلى تنشئتهم في أوساط مناسبة تساعدهم على تنمية أفكارهم وذكائهم، والحفاظ على قيمهم وإثبات أنفسهم هو شاغلهنّ الأكبر، وهذا بحدّ ذاته محفّز ودافعٌ قويٌّ للالتحاق بالرّكب دون خوفٍ من الدّخول في الصورة النمطيّة التي وضعها المجتمع لها.