بنفسج

لأسباب نفسية أم اجتماعية؟ لماذا تخاف المرأة من الفشل؟

السبت 20 نوفمبر

بين واقعِ الحال ومزالقِ التوهُّم، تجدُ المرأة نفسها في أغلب الأحيان تتَهاوى في تلك الفجوة السّحيقة الفاصلة بينهُما، يُغريها العلوّ ويشغفُها بلوغ المرام، لكن يكبحُ جِمَاح تَوْقِها التردّد، أو ربّما تصدّها عن التقدّم فزّاعة الخوفِ من الفشل، خوفٌ يورِثُ العَجز لا أكثر، وآخر يشوبه فرط الرّجاء الذي يورث التواكل والتّكاسل.

بعد كلّ فرصةٍ منفلتةٍ من بين أناملها، تعلقُ هي بين غصّة النّدم وغيظِ ركونِها إلى أوهام عقلها البائس رغم وضُوح الحقيقة، تَحطُّ من قيمة نفْسها وتظلُّ تجلد ذاتها حتّى تُسقِطها في بؤرة اليأس، في حين أنّ مكامِن النّفس وحدود قُدرتها، وكذا خرائط الغيب وسُبل التيسير، لا يعلمُها إلا الله، ولا يفتح أبوابها أحدٌ سواه {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.

| سيكولوجيّة المرأة والفشل

خوف 2.jpg

في الوقتِ الذي يفوقُ فيه عدد الإناث عدد الذكور في التّحصيل العلمي وتمتعهنّ بأعلى درجات حاصل الذكاء، لقدرتهنّ على الانضباط الذّاتي بتعليمات ومناهج المؤسّسات التعليمية، إلاّ أنّ هذا التّعداد يتراجع بالنّظر إلى نسبة تواجدهنّ في مساحات العمل والمناصب الرياديّة على اختلافها، فمثلاً، في السياسة، ما زال دور المرأة مغيّبًا بشكلٍ ملحوظ سواء في المجتمعات العربيّة أو الغربيّة، ففي البرلمان الأميركي لا تتجاوز نسبة الإناث امرأة واحدة مقابل أربعة رجال، وضمن 500 شركة أميركيّة تترأّس المرأة عشرين شركة منها فقط.

قد يعودُ هذا التّراجع الواضح في دور المرأة في مجتمعات العالم عمومًا والعربية خصوصًا إلى سيكولوجيّتها من جهة، وإلى ثقافة المجتمعات من جهة أخرى؛ فالمرأة ليست جادّةً في السّعي نحو أهدافها، وإن كانت جادّة، فعادة ما تفشلُ في تحديد مسارها، كما أنّها تُواجه صعوبة في تقبّل النّقد وتُبدي حساسيّة مُفرطة تجاه ردود الأفعال، وتتوقّف عند التّفاصيل على بساطتها، عاطفيّة من جهة ومضغوطة بأنوثتها من جهة أخرى، ممّا يوجب عليها التزام اللباقة واللطافة بشكلٍ دائمٍ حفاظًا على العلاقات، ومن ثمّ تجنب الدخول في أيّ نزاع

في حين تجد أغلب الرّجال على خلاف ذلك؛ فوضويّون بطبعهم، يتّسمون بالجرأة والشجاعة، لا يكترثون كثيرًا لعلاقاتهم، وهذا يقحمهم في نزاعات تجعلهم يطوّرون مهاراتهم لحلّها. كما تتمتع بعض الفئات من النّساء باتجاه فكري عقلي ذي "عقليّة ثابتة"؛ حيثُ يُؤْمِنَّ بأنّه لا يمكن تطوير قدرات ذكائهنّ البسيطة، ويفسّرنَ الرغبة في التحدي والطّموح والإبداع على أنّها هبات وعطايا إلهيّة فطريّة يستحيل اكتسابها، وعليه، يفضّلن اختيار أسهل الطرق، وأكثر الوظائف أمنًا دون الرغبة في تجربة استراتيجيّات أخرى، يحاولنَ إثبات ذكائهنَّ، لكن دون استخلاص المعرفة ولا السّعي نحو التطوير، وهذه خطوة أولى نحو الفشل.

| بين الإقبال والإدبار، مساحة وهم!

الحقيقة أن مخاوف المرأة التي تُعيقها عن التقدّم كثيرة، إذ تستمر معها على امتداد عُمرها وإن انتفت مصادر التهديد، فتستعبدها دون درايةٍ حتّى تنقلب المفاهيم لديها؛ فيصير الجُبن حكمة وعقلانيّة، والإقدام تهور وغباء.

من هذه المخاوف ما هو مبرّرٌ ومنها غير المبرّر: المخاوف المبررة هي ما أسماها باومان بـ "الخوف المشتق" المُعاد تدويره، وهي أثرٌ ناتجٌ عن خبرٍة ماضية في مواجهة الخطر، كفشلٍ شخصيّ سابق. ومخاوف غير مبررة ناتجة عن تجارب سيّئة قرأت أو سمعت عنها وتوقّعات وهميّة زائفة ضخّمتها في نفسها، حتّى صار صوتها أعلى من غيرها.

الحقيقة أنّ مخاوف المرأة التي تُعيقها عن التقدّم كثيرة، تسكنها حتى تُهيمن على كل تصوّر وفعل لها، وباطنُ هذه المخاوف أخطر من ظاهرها، إذ تستمر معها على امتداد عُمرها وإن انتفت مصادر التهديد، فتستعبدها دون درايةٍ حتّى تنقلب المفاهيم لديها؛ فيصير الجُبن حكمة وعقلانيّة، والإقدام تهور وغباء، والقعود أمن، والمغامرة مقامرة، ومن هذه المخاوف ما هو مبرّرٌ ومنها غير المبرّر:

| مخاوفُ مبرّرة: وهي ما أسماها باومان بـ "الخوف المشتق" المُعاد تدويره، وهي أثرٌ ناتجٌ عن خبرٍة ماضية في مواجهة الخطر، كفشلٍ شخصيّ سابق يوقعها في بؤرة الخوف من محاولة إعادة التجربة، أو فشل أشخاصٍ من المُحيط القريب كالأهل مثلاً. وهذه التجارب الفاشلة تبقى عبارة عن هواجس تقيّدها دائمًا وتوهمها بالأمان الزّائف إن هي أعرضت عن المُحاولة، فتُصبح عاملاً مهمًا في تشكيل السلوك البشري، حتى وإن اختفى التهديد المباشر، فتُخلّف شعورًا بفقدان الأمان، مقابل العالم الذي يعج بالأخطار، ثم شعور بالعجز.

| مخاوفُ غير مبرّرة: ناتجة عن تجارب سيّئة قرأت أو سمعت عنها وتوقّعات وهميّة زائفة ضخّمتها في نفسها، حتّى صار صوتها أعلى من غيرها، كما تخاف على نفسِها أن تجنح للعناد، أنْ تُعاند الظروف، التّقاليد، والمجتمع، ثمّ تذهب مذهب الهوى، وتنشغل بعملٍ أو مبلغٍ ما أن يضيع من بعد كلّ ذلك جهدها هباءً، وكذا تخاف على الوقت أن يشوبه التسرّب فينقضي العُمر دون وصولٍ.

ليس عليه أن يَقبل مباشرةً بأيّ عرضٍ يأتيه مهما كان مُغريًا، بل عليه خوض نقاشٍ فيما يتعلّق بتفاصيل الأمور وفرض شروط وظروفٍ تناسبه (ما يتعلّق بالدّخل، أوقات العمل، وتحديد ماهيّته بشكلٍ مضبوطٍ، هذا في الوظائف مثلاً)، فإذا آمن الإنسان بتعدّد الفرص واستحقاقه للأفضل؛ سيكون مستعدًّا دائمًا للتفاوض بفاعليّة.

من جهة أخرى تخالُ المرأة أنّها محدودة الفرص، لذا، تُقيّد نفسها غالبًا بأوّل خيارٍ يُتاح أمامها وتتمسّك به، سواء كان في إطار علمٍ أو وظيفةٍ أو زواجٍ أو غيرها من الفرص التي قد تتبدّى في طريقها، كلّ امرأة حسب مساحات سعيها ورغباتها، في حين أنّ الفرص المتاحة أمام المرء عمومًا كثيرة وواسعة ويمكنه تشكيلها بما يتناسب وشخصه، لذا، ليس عليه أن يَقبل مباشرةً بأيّ عرضٍ يأتيه مهما كان مُغريًا، بل عليه خوض نقاشٍ فيما يتعلّق بتفاصيل الأمور وفرض شروط وظروفٍ تناسبه (ما يتعلّق بالدّخل، أوقات العمل، وتحديد ماهيّته بشكلٍ مضبوطٍ، هذا في الوظائف مثلاً)، فإذا آمن الإنسان بتعدّد الفرص واستحقاقه للأفضل؛ سيكون مستعدًّا دائمًا للتفاوض بفاعليّة دون انتقاص من النّفس ولا غرور.

| المرأة وفزّاعة الإقصاء

خوف2.jpg

أما الوجهُ المغبرُ الآخر لفشلِ المرأة؛ فهو ثقافة الإقصاء السّائدة في المجتمعات التي تخفيها تحت مظلة العيب الاجتماعي أو الموروث الثّقافي، فتُحدّد لها مساحات وجودها وفق منظور ومعايير مُجحفة، وهذا يُعرّضها للتثبيط الدّائم، فيوهمها بعدم أهليتها لتولّي مسؤوليات كبيرة إن هي حملت طموحًا، فإذا ما نالت الفُرص التهمها ذنب عدم الاستحقاق، فتراها تنأى عنها من تلقاء نفسها.

وكذا حين ترى المجتمعات نجاح امرأة ما محض مصادفة عابرة، أو بفعل مساعداتٍ خارجيّة، والأدهى من كلّ هذا أنّ المجتمع يميلُ في بلدان كثيرةٍ إلى الترويج لنظرة سلبيّة للمرأة الناجحة والطموحة على أنّها متمرّدة، مسترجلة، متهرّبة من مهامها الطبيعيّة (الأمومة والبيت) كون هذا النّجاح سيكون –دون شكّ-على حساب عائلتها، في حين أنّ العالم يعجُّ بنماذج ناجحة استطاعت الموازنة بين وظائفها كأمّ وزوجة، وبين طموحاتها وتطلّعاتها الشخصيّة، منها: العالمة والباحثة السعوديّة حياة سليمان سندي، الباحثة سيرين حمشو، المحامية بيان محمود زهران، وغيرهنّ الكثير.

ولو أنّ المرأة تصمُّ أذانها عن كل هذا الهرج، وتتعامل مع مخاوفها على أنّها مشاعر عاديّة كغيرها من مشاعر الحزن والفرح، الغضب والتوتر، إذْ يمكنها أن تتسلّل إليها، وأن تخرج منها متى انتابتها بشكلٍ طبيعي جدًّا دون رفضٍ ولا صدٍّ؛ لاستطاعت الإقدام دون تردّد ولأزاحت كلّ التصوّرات السلبيّة التي تلتهمها وتُضيّق عليها الفرص.

تقول الكاتبة برينيه براون، في كتابها Daring Greatly: How The Courage To Be Vulnerable Transforms The Way We Live, Love, Parent And Lead: "إذا أردتِ أن تكوني ناجحة، عليكِ أن تكوني على استعداد لتخافي، فهي الطريقة الوحيدة لتحقيق أي شيءٍ ذي قيمة حقيقيّة." عند اتخاذ قرار فيه مخاطرة في العمل عليك توقع: الخوف والشك الذاتي، والمقارنة، والقلق وعدم اليقين. فبدلاً من السماح للخوف بإيقافك، توقعي أن يكون موجودًا واعترفي به، تعرفي بالضّبط على الخوف وتجاهليه وكأنك تقولين: أراك وأسمعك، ولكنني سأفعل ذلك على أيّ حال. قد يكون ذهابك غير مأمون ولكنه أرحم من التفكير، في نهاية حياتنا، ماذا لو ذهبت؟ كيف كان الأمر سيختلف؟ ".

| رحابة الشّرع وضيق المعايير المجتمعيّة المتهالكة

حين تتأمّل الواقع ستُدرك ضيق آفاق المرء عامّة وقصور أفكاره؛ حين يحدّ خيارات غيره ويُقَوْلِبها في منهجٍ واحدٍ ونموذجٍ واحدٍ، كأن يقيّد النّجاح بشهادات أكاديميّة أو درجاتٍ علميّة معيّنة أو بوظائف ومُدن ومساحاتٍ مُزخرفة أو حتّى بأعمار محدّدة... في حين أنّ المساحة بين القَدَر والاختيار تكفلُ تنوّع الخيارات، وتسعُ كلّ ما قد يخالف تصوّراتنا.
 
 ببساطة لأنّها أوسعُ من أن تُحدَّ وأعمقُ من أن تُسطّح وفقًا لمنظورنَا البشريّ البائس  الذي فقد بصيرته، فصار إمّعة تقوده المعايير المجتمعيّة. وكم يبدو لفظُ الفشل هنا كملاءة ضخمةٍ رثّةٍ تُواري بها المجتمعات أُطرها المشوّهة وأنظمتها المتهالكة، وتحسبُ أنّها تصنعُ مجدًا.
حين تتأمّل الواقع ستُدرك ضيق آفاق المرء عامّة وقصور أفكاره؛ حين يحدّ خيارات غيره ويُقَوْلِبها في منهجٍ واحدٍ ونموذجٍ واحدٍ، كأن يقيّد النّجاح بشهادات أكاديميّة أو درجاتٍ علميّة معيّنة أو بوظائف ومُدن ومساحاتٍ مُزخرفة أو حتّى بأعمار محدّدة... في حين أنّ المساحة بين القَدَر والاختيار تكفلُ تنوّع الخيارات، وتسعُ كلّ ما قد يخالف تصوّراتنا، ببساطة لأنّها أوسعُ من أن تُحدَّ وأعمقُ من أن تُسطّح وفقًا لمنظورنَا البشريّ البائس الذي فقد بصيرته وأفلت بوصلته، فصار إمّعة تقوده المعايير المجتمعيّة.
وكم يبدو لفظُ الفشل هنا كملاءة ضخمةٍ رثّةٍ تُواري بها المجتمعات أُطرها المشوّهة وأنظمتها المتهالكة، وتحسبُ أنّها تصنعُ مجدًا. فتلك التي لم تستطع إنهاء تعليمها لعجزٍ ماديّ أو لانغلاقٍ فكريّ، يشوبُ أذهان ذويها أو لأسباب وظروف سيّئة أجبرتها على عدم إنهائه هي فاشلة، تلك التي قرّرت عدم العمل وآثرت البقاء في بيتها ورعاية أبنائها على أيّ منصبٍ وظيفيّ فاشلة، المرأة التي اختارت العمل في غير تخصّصها أو حتّى تلك التي تعمل من منزلها أيضًا فاشلة، التي أصرت على الطلاق من زوج لم يحفظ لها حقًّا ولا كرامة هي زوجة فاشلة، الأمّ التي تعبت في تربية أبنائها وكرّست حياتها من أجلهم، لكن لم تجن شيئًا من تعبها وسنوات عمرها المنفلتة فاشلة... والكثير من النماذج التي قد صُنّفت وفق معايير المجتمع ضِمن الفئات الفاشلة في حين أنّها ربما لا صلة لها بالفشل أبدًا.
| الاستحقاق حق!
تمكين4.jpg

كل هؤلاء النّساء ناجحات بطريقة ما، في مكانٍ ما، في شيءٍ ما؛ لأنّ ما يُسمّى نجاحًا هو شيءٌ نسبيٌّ في الحقيقة، ثمّ إنّ الاستحقاق حقٌّ، فكلهنّ يَسْتَحْقِقْنَ التقدير والثّناء، من شخصٍ ما على جهدٍ ما على هذه الأرض، حتّى وإن لم يُكافئهنّ العالم، ولم يلحظْ وجودهنّ المُجتمع، فالأمّ ناجحة بنجاح أبنائها لأنّهم دعمتهم وآزرتهم وأسندت أكتافهم، لأنّها آمنت بهم حين كفر بهم الجميع، وصدّقتهم حين كذّبوهم، لأنّها كانت لهم ركن الحياة الليّن حين قسى العالم عليهم، والتي اختارت الزواج دربًا أيضًا ناجحة، ببنائها لبيتٍ زوجيّ متينٍ على أسسٍ قويمة، في ظلّ الكثير من النماذج المناقضة، والمرابطة في القدس سيّدة ناجحة لأنّها تقفُ صامدةً تحمي المقدسات من براثن العدو الإسرائيلي في ظلّ التهاون العربيّ، وفي العراق وسوريا واليمن كلّ سيّدة، تقدّم أبناءها وزوجها دفاعًا عن الوطن وتتحمّل بصمودٍ مرارة التقسيم الطائفي والفكر التكفيري أيضًا ناجحة.

لكنّنا ننشغلُ عن هذه الحقيقة بالجري خلف النّجاح المجتمعيّ الذي لا نهاية له، ونضيّق زوايا نظرنَا للأمور في حين أنّها تحتاج بدل ذلك التضييق عدالة وخرائط وموازين. ولستُ أقول هذا لكِ كدعوةٍ للقعود والرّضا بالقليل، وإنّما ليُعينكِ على تحديد موقفكِ وموقعكِ، وحتّى لا تُثنيكِ مناهج التفكير وموازين القياس عن متابعة المسير، ولعلّ القليل من الوعي يخفّف عنكِ استنزاف الروح في التنازع الدّاخلي أو الخارجيّ.