بنفسج

"عطب لا يعوض": عن الغياب حين يوقف عجلة الحياة

الأربعاء 10 يونيو

بتأمل بسيط، بسيط جدًا، نظرت إلى حالي منذ خمس سنين مضت، بصحة أنا والحمد لله، لدي أبنائي أقوم بتنشئتهم كما يجب، أو هذا ما أحاول أن أقوم به، كأي أم مثلي، وخاصة، إذا كانت أمًا تخوض حروب هذه الدنيا وحيدة، لدي عملي وسيارتي الخاصة ومنزل يؤويني، هو ليس بدفء منزلي الأول الذي عاش معي تفاصيل حياتي السعيدة، إلا أنه منزل في النهاية، ممتلئة أنا بغمرة من الرضا!

إنني أقدم لمجتمعي من خلال وظيفتي كمعلمة، ووظيفتي كزوجة أسير توصل رسالة الأسرى، إلا أنني أعيش هذا الشعور الغريب بالفراغ منذ زمن، رغم كل ما سبق ذكره، بالإضافة للقراءة والبرامج المنوعة والخروجات والزيارات وغيرها من الأمور التي تسير معها الحياة ولو كان سيرها بطيئا.

وكأن فينا رغبة ملحّة للحياة التي نتطلع لأن نعيشها، كل منّا لديه حروبه الخاصة في هذه الحياة، كل منّا يعاني نقصًا ولو كان بسيطًا، إلا أنه نقص، وخاصة إذا كان هذا النقص فقدًا لشخص.

هذا الشعور استوقفني كثيرًا، حيث أن غياب زوجي مع كل هذه الميزات لا يجب أن يترك كل هذا الفراغ، لو نظرت إلى المزايا، لوجدت حياتي كاملة مثالية ورائعة بالنسبة للكثير، فلم يخنقني شعوري هذا، ويعيدني للنقطة صفر؟ لم يتملكني هكذا؟ ولم قد يسيطر الفقد على الفاقدين فيتركز نظرهم وتفكيرهم عليه، ويصبح محور حياتهم؟

ألا يكفينا ما لدينا، أم هي الرغبة بالكمال؟ أم أنه طمع خُلق في الإنسان صاحَب فطرته؟ هل يكون نوعًا من أنواع عدم الرضا؟ أم لأننا نعيش واقعًا جميلًا لكنه ليس الواقع الذي نريد، نشعر أننا غرباء فيه، كمن ينظر لكل شيء حوله ويقول: من هؤلاء؟ ما هذه الحياة؟ لماذا أنا هنا؟

وكأن فينا رغبة ملحّة للحياة التي نتطلع لأن نعيشها، كل منّا لديه حروبه الخاصة في هذه الحياة، كل منّا يعاني نقصًا ولو كان بسيطًا، إلا أنه نقص، وخاصة إذا كان هذا النقص فقدًا لشخص، وخاصة إذا كان هذا الشخص على قيد الحياة، وعلى نفس الأرض، وتحت سماء واحدة، يتنفس الهواء ذاته، تفصلك عنه ساعات قليلة، وحواجز واحتلال وحكم مؤبد، وسجن، دعك من الاستطراد الأخير وأكمل معي، واستشعر ما أقول!

ما أقوله هو: أن تعيش حياة روتينية ليس كأي روتين، حياة بلا تفاصيل حياة، وكأن عجلة الدنيا توقفت يوم الغياب، أصابها عطب لا يُعوّض، مهما جربت من طرق لإصلاحها، تعود لتصب في جدول واحد، ألا وهو غيابه!

اليوم حصل معي موقف بسيط؛ أصاب سيارتي عطل بسيط، تركتها عند من يصلحها وركبت سيارة أجرة مع حاج كبير، كانت المصادفة أن سائق الأجرة عرفني، فاستغربت ذلك، وقد رفض أن يذكرني بنفسه حتى أذكره، وفعلًا تذكّرته، فهو من دهس ابني خطأ قبل عامين، ضحكنا على الصدفة، وعدت للبيت سعيدة من هذه المحادثة البسيطة الغريبة، ثم لمعت برأسي إجابات كل تساؤلاتي السابقة، نحن نفتقد الحياة، نفتقد الغائب بأيامه الحلوة والمرة، بالتحديات التي نخوضها معًا، بحالات الملل من بعضنا البعض، واشتياقنا واشتعال جذوة الحب مجددًا.

 شعرت بما تتلخص فيه تفاصيل أيامنا فنحن في بلاء رضينا به، وإن تغيّر شيء فمعظم الذي يتغير يكون سلبيًا معظم الوقت، لا لأنني أنظر للحياة بنظرة سلبية، ولكن هذا حال معظم الناجين من ابتلاءات عظيمة، لأن توابع هذه الابتلاءات لا ترحم، وتجذبك لقاع أعمق كلما ظننت أنك وصلت لأبعد نقطة قد تأخذك لها الحياة، صحيح أننا نعود وننفض عنا تراب المصائب الجديدة وننطلق للحياة، إلا أن أرواحنا التي تعلم كرم ولطف الله لا زالت تطمع بحياة يشتعل فيها القلب فرحًا، وتحن لأيام تشرق فيها الروح، وتعود لعروقنا النبضات الدافئة.

 نشتاق للحماس في التفاصيل، والتطلع لتحديات الحياة، لا يهم إن كانت حياة مبهجة كالأساطير التي سمعنا عنها، أو قرأنا في آخر القصة "وعاشا في سبات ونبات وأنجبا صبيانًا وبنات" أو كما يقول الأجانب  they lived happily ever after ، ما يهم أن تعمل هذه العجلة مجددًا، تعمل كما تحب قلوبنا، تعمل بما يعوضنا عن سنوات العطب والتوقف تلك.

سأختم الآن بما ختمت به تفكُري، وبما خاطبت به نفسي.. ستعمل هذه العجلة لمن تأمل بالله، وعمل بما يوافق الأمل، ستعمل لأن عوض الله إذا جاء أنساك ألم الفقد، أنساك من نسي فهو منسي، أي أنك لن تذكره لا صورةً ولا شعورًا. وللمفارقة، قل لفقدك وألمك وتوقُف الحياة عندك "وما كان ربك نسيا" لن يدعك على هذا الحال ثق بالله.