لطالما كان للمرأة دور في نهوض الحضارات، فهي التي تُظهر في لمساتها مزيج من الجمال والإبداع، ولطالما كانت الحضارة الإسلامية حاضنة لهذا الإبداع، والتي لم تعارض دور المرأة، بل أنصفتها خير إنصاف، وأعطت فسحة لخيالها لنحظى ببعض التحف الفريدة، ولنشاهد إبداعات متعددة، وهنا سنستفرد بدور المرأة السلجوقية، حيث حققت هذه المرأة إنجازات جمّة شملت عدة مجالات دينية، اجتماعية، واقتصادية، كما وشاركت ببناء المنشآت الخدماتية والتعليمية، ويُعد "مجمع طبي جوهر نسيبة" واحدًا من هذه الإنجازات وإن لم يكن الوحيد؛ فهو المجمع الحادي عشر الأكبر في تركيا، لكنه الأول في العالم لبنائه وتعليمه الطب، كما أنه أضاف شيئًا جديدًا، فميزه عن غيره من المجمعات الطبية في ذلك الوقت؛ فمن قام بإنشائه؟ وما هي الرواية المتداولة لقصة بنائه؟ ومن ماذا يتألف؟ وما الخدمات التي قدمها؟
| ملكة تعالج الجروح
الملكة "جوهر نسيبة خاتون بنت عز الدين قلج أرسلان الثاني"؛ هي إحدى ملكات القرن الثالث عشر، وهي صاحبة الفكرة في إنشاء هذه المنشأة، وتم اختيار منطقة (معمار سنان) الواقعة وسط حديقة خضراء جميلة شمالي مدينة قيصرية (مدينة في تركيا) موقعًا لهذه المنشأة، ولم يكن اختيار المنطقة عبثًا إنما لاستيفائه الشروط الصحية الواجب توفرها في المجمع الطبي، ليغدو الأول من نوعه في دولة السلاجقة [1] حيث ضم مدرسة لتعليم الطب، ومستشفى للتطبيق العملي وسمي "مجمع طبي جوهر نسيبة"، ليكون بذلك أقدم المستشفيات في الأناضول، وتحفة فريدة في عمارته وتخطيطه، جوهر نسيبة، للأسف، لم تشهد اكتمال هذه التحفة حيث توفيت قبل إتمامه وهي في ريعان شبابها.
لكن ما القصة وراء إنشائه، وخاصة أن الملكة جوهر نسيبة قالت إنها "مدرسة لعلاج جرحى السيف والحب معًا"، ويبدو أن الحب شق طريقه في هذه المنشأة! تقول الرواية العابقة في كل زاوية في هذه المنشأة أن الملكة "جوهر" أحبت قائدَ عسكر القصر التي كانت تقطنه، ولعل أخاها "غيث الدين" قد شعر بحبها؛ فما كان منه إلا أن أرسل قائد العسكر هذا إلى الحرب، ليوهمه أنه إن أثبت حنكته العسكرية سيقوم بتزويجه أخته "جوهر" إلا أن القائد عاد مصابًا إصابات بليغة، لتحزن "جوهر" حزنًا شديدًا وتصاب بمرض السل، فما كان طريق حبها إلا طريقًا لموتها، وقد زارها أخوها "غيث الدين" وهي على فراش الموت طالبًا منها مسامحته ومعربًا عن ندمه وإن كان بمقدوره عمل أي شيء لتسامحه، وأغلب الروايات التاريخية تذكر أنها طلبت منه إنشاء مجمع طبي باسمها من ميراثها وثروتها الخاصة ليكون هذا المجمع مخصص لعلاج جرحى السيف والحب معًا.
فبدأ أخوها "غيث الدين" بتشييد هذه المدرسة حتى اكتملت بين عامي (605-606هـ/1205-1206م)، فعلى مساحة (2800م2) تم إنشاء هذا المجمع الطبي الفريد من نوعه، بأبهته وتخطيطه، حيث يتكون هذا المجمع الطبي التعليمي من مدرسة، وتم بناء بيمارستان ملاصق لها، وتم توصيلهما معًا بواسطة دهليز داخلي، ونتيجة لهذا التخطيط المزدوج أطلق عليهما اسم "المدرسة التوأم"، وبالنسبة للبيمارستان [2]؛ فهناك نقش إنشائي يطالعك عند الدخول:
" أيام السلطان المعظم غياث الدين والدنيا كيخسرو بن قلج أرسالان دامت أنفق بناء هذا المارستان
وصية عن الملكة عصمة الدنيا والدين كوهي نسيبة ابنة قلج أرسالان أرضاها الله سنة اثنتين وستماية".
ويعلوه نقش آخر يدل على وظيفة المبنى كبيمارستان؛ وهو عبارة عن ثعبانين متقابلين، هو الرمز المستخدم للدلالة على الصيدلة وعلومها، تتوسط القاعة الرئيسية بركة مياه الغرض منها أيضًا للعلاج؛ حيث يضفي صوت خرير المياه راحة نفسية للمرضى. وقد احتوى البيمارستان على أربع إيوانات [3]، وتتوزع بين هذه الإيوانات عشرين غرفة، استخدمت كعيادات للكشف عن المرضى وأخرى مخصصة لإقامتهم، كما وتستخدم لتخزين الأدوات الطبية، إضافة إلى وجود مطبخ للحساء. لاحقًا زود بجناح خاص للعمليات، ومختبر، وبيت للدواء وغرف لحجز المرضى، أما غرف الأطباء فكان مبدأ عملها كعمل العيادات الخارجية حيث يُكشف عن المرضى ووصف الدواء لهم دون الحاجة لدخول البيمارستان. قدم هذا البيمارستان خدمات جديدة؛ حيث كان يتم فيه علاج الأمراض العقلية والنفسية، في الوقت التي كانت أوروبا تعامل المرضى النفسيين معاملة المجرمين ويتم وضعهم في السجن، كما وتفرد باستخدام أساليب جديدة وغير مألوفة للعلاج كالموسيقى والألوان، كل هذا يتم بغض النظر عن أعراق المرضى أو لغتهم أو ديانتهم.
| مدرسة بطراز إسلامي
أما المدرسة فتتبع طراز المدارس الإيوانية المزودة بمسجد وقبة، مدخلها خالٍ من الزخارف، تحتوي إيوانًا رئيسًا وثلاث إيوانات صغيرة المساحة وقاعات، وتوجد تسع غرف بين هذه الفراغات تستخدم لإقامة المدرسين والمعيدين والطلاب كحلقات دراسية، وتكاد تخلو هذه الغرف من النوافذ الخارجية، وإن وجدت فهي قليلة، كما يوجد أيضًا مطبخ للحساء، أما الحمامات، فكانت تقام بمكان منفصل مغطى خارج المبنى الرئيس. وقد نجحت هذه المدرسة بتخريج العديد من الأطباء، بل وحتى مشاهير الطب.
قدمت هذه المنشأة خدماتها الطبية للمرضى حتى عام 1820، ليتم تحويلها في عام 1982 لمُتحف خاص بتاريخ العلوم الطبية في عهد الدولتين السلجوقية والعثمانية، ويتبع المُتحف حاليًا لجامعة أرجاس بمدينة قيصرية، ويحتوي المُتحف على ألبسة الأطباء في الفترتين المذكورتين، إضافة إلى صور للملكة جوهر نسيبة، كما وضم أدوات جراحية مستخدمةفي تلك الفترات، ويبلغ زوار هذا المُتحف سنويًا (100ألف) زائر، وبذلك فقد غدًا مُتحفًا ينطق كل ما فيه من أدوات وصور إلى تحف أثرية تحاكي ما عاصرته في ذلك الوقت، لتسرد ما شاهدته بأعين زائريها.
| المراجع
اوقطاي آصلان، فنون الترك وعمائرهم،1987م.
فاطمة الربيدي، الحريم السلطاني في بلاد الأناضول في العصر السلجوقي، 2013م.
ابن سرحان، سلاجقة الروم في الثلث الأول من القرن السابع الهجري،2002م.
أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الإسلام،1981م.
فاطمة سالمان، المؤسسات الطبية التعليمية السلجوقية
| الهوامش
[1] الدولة السلجوقية: أُسست على يد عائلة عسكرية كانت تحكم قبائل الغز التركية، ويرجع نسبهم إلى "سلجوق بن دقاق"، موطنهم الأصلي وسط آسيا (تركستان حالياً)، وبدأوا بهجرات ضخمة نحو الشرق بسبب الظروف الاقتصادية والحروب، ليعتنقوا بذلك الإسلام وليتمكنوا من تأسيس امبراطورية كبيرة ضمت الشام والعراق والأناضول وشملت أيضاً كامل أراضي إيران وأفغانستان ووسط آسيا، وذلك في الفترة ما بين (429-552هـ) (1037-1157م)، وكانت واحدة من الدول الكبرى في تاريخ الإسلام والتي لها كان إنجازات سياسية ومعمارية، إلا أن الخلافات والصراعات فككتها إلى ولايات منفصلة في النهاية، وقد عرفوا بعد هذا بالأتراك، وكانت لغتهم اللغة الفارسية.
[2] البيمارستان: كلمة فارسية معربة، تتكون من مقطعين "بيمار" أي المريض، و"ستان" أي مكان أو محل ليصبح معناه (محل المرضى أو دار المرضى /المستشفى)، أما باللغة التركية القديمة فهي " خسته خانه".
[3] الإيوان: هو قاعة أو مساحة مستطيلة، وهو مصطلح فارسي للبوابة التي تبرز من واجهة المبنى.