كنا صغارًا، وكان الشتاء يعني لنا الحب والدفء والجلسات المسائية وأكلات والدتي التي لا تعوض، فرائحة طعامها تخترق أنوفنا عن بعد، نتسابق لتذوق الطعام وصوت ضحكاتنا يصل حتى آخر الحي، وتنادي هي أن: "غيروا ملابسكم السفرة بتكون جاهزة". ذكريات الشتاء مع أسرتي لا تنسى، ما زالت الذاكرة تحتفظ بالكثير من المواقف؛ فالشتاء يرتبط بجمعاتنا المسائية، نتحدث ونلعب وتتعالى أصوات ضحكاتنا لتلعو على صوت المطر، كنا ننتظر مجيء المساء لنعد أباريق الشاي بالمريمية والخبز المحمص والزعتر، ما زالت رائحتها عالقة بداخلي، لا يمحوها عمر ولا مواقف.
يأخذنا الحنين إلى تلك الأيام الجميلة التي كانت تخلق الأجواء الأسرية في زوايا البيت؛ فحين نتحدث لأبنائنا عن طفولتنا، وكيف كنا نستغل انشغال والدتي، لنخرج تحت المطر حتى نبتل بالماء، فتحتك أسناننا من شدة البرودة مع بعضها وتتحول شفاهنا للون الأزرق، برغم ذلك، كنا في غاية السعادة؛ قلوبنا وأرواحنا يغلفها الدفء والحب الذي يخفف علينا برودة أجسادنا.
واليوم، أشعر بالحزن على أبنائنا وعلى أيامهم، وكيف سرق الصندوق الأزرق طفولتهم وجعلهم أسرى لصفحاته ودردشاته وألعابه، يدورون في فلكه، فكل منهم منهمك في عالمه الخاص، يأكلون على عجل، لا سفرة تجمعهم ولا جمعة مسائية خالية من ذاك الصندوق الذي فكك شمل الأسرة وأوصلهم لحد الإدمان، بنى بينهم جدرانًا من الوحدة والعزلة الاجتماعية. نحن كأمهات، شاركنا هذا العالم وأدخلنا أطفالنا إليه بمحض إرادتنا، أبعدناهم عنا، ووصفناهم بجيل التكنولوجيا والاتصال. أدخلناهم إلى هذا السجن، ومن ثم بدأنا نشتكي من عزلتهم وعدم تفاعلهم وحيويتهم. وفي نفس الوقت، نلجأ إليهم عندما نعجز عن فتح تطبيق معين أو نواجه مشكلة ما ونتفاخر أمام الجميع: إنهم يفهمون هذا العالم أكثر منا؛ فهم جيل خلقوا له. للأسف، نجحنا في سلخ أبنائنا عن مجتمعهم الحقيقي.
| العالم الأزرق
أصبحت بيوتنا تفتقر إلى اللمات الأسرية وأجواء الإخوة التي يملؤها المزاح والضحكات والاختلاف، إنها الأجواء الطبيعية لكل بيت يضج بالأبناء. واليوم، يدخل الأب البيت فلا يجد من ينتظره ويرحب بعودته، ويفتح الأحاديث معه وهو ما زال يحاول خلع حذائه، نقف بلهفة ننظر إلى الأكياس التي معه. تحولت عاداتنا إلى صمت قاتل. اليوم يبحث الأب عن أطفاله، ولا مجيب، فكل منهم منغمس في عالمه الأزرق؛ فما يكون منه إلا أن يدخل في عالمه الخاص هو أيضا! لتكون المحصلة أن نشتكي نحن من غربة الأبناء عن الآباء.
وفيما يتعلق بغربة الأبناء، فإنني استغرب جداً من الأهالي الذين يشغلون أبناءهم بالهواتف الذكية في وقت حضور الضيوف إلى بيتهم، لكي لا يسمعوا لهم صوتًا، حتى يوفروا لضيوفهم الهدوء، وعند السؤال عنهم تكون الإجابة جاهزة على الفيسبوك أو اليوتيوب؛ فنقتل بذلك روح المشاركة والتعارف وتقوية أوصال المحبة بين الأهل والأصدقاء؛ فالابن لا يعرف من أهله إلا الأقارب من الدرجة الأولى.
وهُنا أتساءل أيضا، أين نحن من تربية أولادنا والحديث معهم ومشاركتهم عالمهم وأفكارهم؟ هل فكرنا أننا نقتل أطفالنا ونحولهم إلى أشباه أجساد متحركة؟ متى كان آخر حديث بينك وبينهم؟ وكم كانت مدته؟ متى آخر مرة تأملت ملامح ابنتك أو ابنك وشعرتي إنه كبر ودخل مرحلة المراهقة وهو الآن بحاجة إليك أكثر من أي وقت مضى؟ هل خصصت وقتاً لتجتمعوا وتتسامروا، هذا يدفعنا إلى إعادة تغير البوصلة التربوية وإعادتها إلى مدارها الصحيح في تربية الأبناء وتنشئتهم بطرق تربوية واجتماعية صحيحة.
الواقع والمتغيرات تحتاج إلى جيل قوي حيوي فعال مندمج في مجتمع اختلفت عاداته وتقاليد ضعف فيها النسيج الأسري، فالتربية الأصيلة تحتاج الاتصال والتواصل المباشر مع الأهل والاحتكاك بالأصدقاء والتعرض للمواقف والتجارب، وترك المساحة للأطفال في كيفية التصرف وقياس القدرات لديهم واندماجهم في عالمهم الحقيقي بعيداً عن عالم الشاشات الخادعة التي تذيب المشاعر والتواصل والتفاعل.
لنكن أكثر حذراً وذكاءً في التعامل مع الهواتف الذكية التي تحمل في طياتها عالماً قائماً بذاته من العلاقات والمعلومات، أصبحت أمراً واقعاً يطارد الجميع، نعترف أن ليس بالإمكان تجاهلها أو الابتعاد عنها؛ فهي وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها، قربت كل بعيد واختصرت المسافات، كل ما نريده أن نكون حذرين في التعامل معها وعدم الاندماج بها لحد الإدمان، لا نريد أن تبعدنا عن عالمنا الاجتماعي الحقيقي وتفاعلنا ومشاركتنا، فنحن جزء من عالم حقيقي لا عالم افتراضي. علينا أن نحدد لأولادنا أوقات محددة لاستخدامه ونكون حاسمين في ذلك، علينا أن نركز على الجلسات العائلية والحوارات والنقاشات التي تخلق الألفة بيننا، وأن نبتعد عن الحوار الإلكتروني ونحن داخل البيت الواحد.
لنغير الصورة النمطية التي أصبحت منتشرة في معظم بيوتنا؛ الزوج والزوجة يجلس كل واحد منهما وفي يده جهازه المحمول يتصفح عالمه الخاص، ويتحدث مع أصدقائه. فيما الأبناء ينصرفون إلى الألعاب الإلكترونية والدردشة مع الأصحاب ويجدوا التسلية والمتعة معهم أكثر من عوائلهم، جو أسري يشكو البرودة القارصة، يفتقر لتفاصيل الحياة اليومية واللحظات الجميلة، ذاكرة فارغة لا تحتفظ بمواقف وذكريات عائلية، فبرودة الصندوق الأزرق أشد قسوة من برودة يناير تحرق القلوب والأرواح وتفقد لذة الحياة، ترى ماذا سيتذكر أبنائنا.