"في تاريخ المجازر يتكلم الموت أولًا، ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل. لقد تكلم الموت، وتكلم القتيل، وتكلم الشهود، وما زال الضحايا الأحياء ينتظرون القاتل كي يتكلم". قالتها سيدة أفنت حياتها لأجل قضيتها، الكاتبة والصحافية والمؤرخة التي شهدت على حقبة زمنية مهمة في تاريخ فلسطين.
"ابن الوزّ عوّام"، هذا المثل ينطبق عليها، فهي تشبه رجلها الأول بطريقة ملفتة للأنظار، وكان لوالدتها حصة في الشبه، فورثت منها الحاسة الشعرية، فكتبت الشعر. ولدت في مدينة القدس، وظل بيتها هناك الشاهد على كل الحكايات. والدها كان يأتمنها على مكتبته بالرغم من صغر سنها، فكانت على قدر المسؤولية، تعلم جيدًا مكان كل مرجع وكتاب، فتأتي له به حين يطلبه. تاريخها حافل بالإنجازات وقصصها لا تعد ولا تنتهي، ولا تكفيها بضع سطور لسرد كل ما أنجزته خلال حياته. نكتب في هذا التقرير عن السيدة بيان نويهض الحوت التي كانت تعرف نفسها، فتقول: "أنا ابنة الزمن العربي. أنا ابنة النكبة وزمن عبد الناصر".
| ذكريات الطفلة والأب
لمولدها وسط مهتم بالأحداث والحروب والصراعات في البلاد دور في بزوغ اسمها في التأريخ؛ فوالدها الصحافي والمؤرخ عجاج نويهض، وخالها فؤاد سليم، من مؤسسي الجيش الأردني، وله دور في الثورة العربية عام ١٩١٦. عقد والدها وخالها صداقة متينة في القاهرة، تكللت في نهايتها بالزواج من أخت فؤاد الروائية والشاعرة جمال سليم، عاش الزوجان في كل بلاد الوطن العربي من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وأنجبا خلدون ونورا وسوسن وجنان.
ولدت بيان في القدس عام 1937، وشهد الحاج أمين الحسيني على ولادتها، ولم يكن يعي أن المولودة التي قبالته سيكون لها شأنًا رفيعًا كوالدها. لم تنس بيان طوال حياتها أول منزل عاشت فيه بالقدس، في حي بناه الألمان في أوائل القرن العشرين، تذكر جيدًا الدرج الطويل وحديقة المنزل التي تطغوها الأشجار بالكامل، ومكتبة والدها الكبيرة التي صادرها الاحتلال فيما بعد إلى الجامعة العبرية، عاشت الطفولة في القدس ثم انتقلت للدراسة في رام الله.
تقول في لقاء صحافي سابق لها: "مكتبة والدي كان لها بصمة في عقل الطفلة بيان لا تُنسى. أعرف عناوين الكتب كلها وأين يضعها بالتحديد، توليت مسؤولية مساعدته حين يريد أحد الكتب منها، مارس مهنة المحاماة في منتصف الأربعينيات. ومن المواقف التي لا أنساها حين ذهبت له في مكتبه لأوصل ورقًا مهمًا، ركبت الباص وحدي وكنت متحمسة للغاية وأنا ذاهبة".
كانت بيان في عمر الحادية عشرة عندما حدثت النكبة، فعايشتها وشهدتها. في السابعة من عمرها زارت المسجد الأقصى مع جارتهم، حين سمحت لها والدتها المنشغلة مع أختها الرضيعة، بعد تفكير بالذهاب معها. ظلت بيان ممتنة للجارة التي اصطحبتها لرؤية الأقصى لأول مرة. ركضت في ساحة المسجد بعدما بادلها رجل مسن التحية على الباب، وهي تركض من فرحتها نادتها الجارة وقالت لها: "بتجري بالمسجد الله هيحطك بالنار". خافت للغاية بعد قول الجارة، ولكنها لم تصدق فنادها الرجل المسن، وقال: "العبي واركضي يا بنتي هذا بيت الله"، فتعلمت منه ماذا يعني بيت الحرية وارتباط الإيمان بالحرية من رجل لا تعرف اسمه ومن هو! درست رفقة أشقائها في مدرسة شميدت الألمانية، أحبت المدرسة كثيرًا بزيها الأبيض والكحلي، فظل اللون الكحلي لونها المفضل حتى بعدما تخرجت من المدرسة.
والدها كان يصحبهم إلى قرى فلسطينية في عطلة الصيف، ليعرفهم إلى البلاد كلها، وآخر عطلة صيفية لهم في فلسطين اصطحبهم فيها إلى جبل بيريا المقابل لمدينة في بيت العم صبحي، زوج خالتها أنيسة، وهو من رجال الحركة السياسية في فلسطين، وله حضور قوي ودور بارز في مقاومة الغزو الصهيوني لفلسطين، ولما وقعت مدينة صفد في أيدي الاحتلال كان أول عمل لهم هو هدم منزله بالكامل.
اقرأ المزيد: فدوى طوقان تؤرخ الحياة النسائية في رحلتيها الصعبة والأصعب
بيان مستمعة جيدة لنشرات الأخبار؛ فكانت تخبر والدها بكل خبر يُبث عبر الإذاعة. وفي إحدى المرات، وبعد الانتصار في معركة القسطل، وكان لديهم في المنزل أصدقاء لوالدها، سمعت بيان خبر استشهاد عبد القادر الحسيني من إذاعة عبرية أذاعت الخبر بالعربية، فركضت لوالدها وأخبرته في أذنه بصوت هامس، فتبدلت الوجوه الفرحة بالانتصار وأصبحت حزينة، وحينها تعلمت بيان قيمة الشهادة في سبيل الوطن.
بعدها تدهورت أمور البلاد حتى وصلت لمجزرة دير ياسين، ظل والد بيان يرفض قطعيًا مغادرة فلسطين، بالرغم من طلب خالها نصري سليم، المقيم في عمّان، بشكل متكرر الانتقال إلى حيث يسكن، ولكن نويهض كان يرفض، حتى تمكنت والدتها أن تقنعه بالسفر إلى لبنان حتى تتحسن الأوضاع.
غادرت الطفلة بيان القدس. لم يستوعب عقلها حينها معنى المغادرة، ولكن شعورًا داخليًا أخبرها بأنهم لن يعودوا إلى فلسطين، تقول في مقابلة صحافية: "سألت أمي لما تضعين ملابسَ شتوية في حقائبنا ما دمنا ذاهبين لقضاء عطلة صيفية؟ فأجابت بأن جبال لبنان باردة حتى في الصيف! لم أقتنع وقتها بالجواب، وفضلت الصمت. وفي 26 نيسان/أبريل 1948، غادرنا القدس ورافقنا والدي حتى عمّان، وعاد إلى القدس، وذهب أخي خلدون معنا حتى دمشق، ثم عاد حيث أبي، شعرت بفرحة وأنا أغادر كوني سأرى أقربائي الذين عرفني إليهم والدي في حكاياته، ولم أكن أعي أنها رحلة طويلة الأمد".
| الرحيل من البلاد
بدأ فصل جديد في حياة بيان في لبنان، فسكنوا في رأس المتن مسقط رأس والدها الأصلي، وساندهم العم علي نويهض، فدخلت وشقيقاتها الكلية العلمية للبنات في الشويفات، وهي مدرسة داخلية، نالوا فيها الترحيب. تقول في مقابلة صحافية أجريت معها في وقت سابق: "كان يعتريني الحزن حين أسمع أختي نورا تحكي عن التفريق بين الفلسطيني واللبناني، حيث راتب الأستاذ الفلسطيني نصف راتب اللبناني. وبدأت أعرف أكثر عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، وعن شعور اللجوء شعرته في دمشق قبل أن نتوجه لرأس المتن، هناك سمعت لأول مرة كلمة لاجئين من فتاة كنت ألعب رفقتها. قالتها لفتاة أخرى مرت من عندنا وسألتها عني، فقالت إنهم لاجئون، فكانت الكلمة الأقسى التي سمعتها في حياتي، فخطر لي أننا لن نعود للقدس، فركضت لأمي وقلت: ألن نعود إلى منزلنا في القدس؟ فأجابت: بلى، سنعود".
توالت السنوات والوضع السياسي في البلاد لم يستقر، فمكث والد بيان في عمّان، وانتقلت العائلة كلها في عام 1951، والتحقت الأخوات بمدرسة الملكة زين الشرف. أصبحت الأخوات هن الأوائل في الشويفات، فرأت مديرة المدرسة أن يدخلن الصفوف الأعلى، فأُخذ برأي المديرة، ودخلت بيان الصف الثاني الثانوي.
فيما بعد التحقت بيان بكلية دار المعلمات في رام الله التي تأتيها إليها الطالبات من كل أنحاء الأردن، فكانت تصفها بأنها أجمل سنوات العمر، فقالت في حوار سابق: "كنت في كلّ ليلة أسهر على الأضواء المنبعثة من القدس، وأكتب القصائد على ضوء خافت بعد أن تنام زميلتي في الغرفة، وأشعر بالفرح حين أزور القدس". بعد تلك المرحلة أكملت دراستها في عمّان تخصص الأدب العربي.
في عام 1959، قرر والد بيان الانتقال للاستقرار في لبنان، حيث مسقط رأسه في رأس المتن، فأكملت دراستها الجامعية في بيروت في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية. ومن هنا بدأ الحس الصحافي التي ورثته بيان من والدها بالظهور، وهو الذي أسس مجلة العرب في القدس، فعملت مع أختها نورا التي أسست مجلة نسائية أسمتها "دنيا المرأة" في 1960، فتعرفت إلى ثلة من الأدباء والشعراء كفدوى طوقان، ونازك الملائكة، ويوسف الخال.
| الصحافية بيان
واصلت بيان العمل في السلك الصحافي، فوصلها خبر بأن الأستاذ سعيد فريحة يبحث عن محررة لمجلة الصياد التي أخذت محررته إميلي نصر الله إجازة أمومة، فهاتفت المجلة، وذهبت لمقابلة سعيد، وكانت قد قابلته مرات عديدة بحكم الصداقة التي تجمعه بوالدها، فاختارها للوظيفة، وكانت أول مقابلة لها مع الشاعر جورج صيدح، وحين طلبت إجراء حوار معه، جاءها لبيت أختها نورا. فيما بعد توالت المقابلات للصحافية بيان، وأجرت مقابلة مع الكاتب ساطع الحصري الي كان في زيارة في لبنان، فذهبت له في الفندق الذي يقيم به، فكان لقاؤهما ممتعًا، والرجل كان متواضعًا، وحين سألته عن رأيه في قيام دولة فلسطينية أجابها: "أنا من دعاة قيام وحدة عربية شاملة، فكيف أوافق على قيام كيان مستقل لدولة عربية ما؟". فعقبت: "كان صادقًا مع نفسه في جوابه".
أثناء وجودها في عمّان انتسبت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، فوجدت فيه ما تربت عليه من إيمان بالعروبة، فاتفق مبادئه مع مبادئها. كان نشاط الحزب محظورًا في الأردن، لذلك كانوا يعملون بشكل سري، وتمحور دور بيان حول التوعية العامة للجماهير، وصرحت في مقابلة لها: " كنت أتردد إلى دمشق لاقتناء المراجع من كلية التربية. اشتركت مع رفيقات لي بأعمال سرية مع ضباط أردنيين ينتمون لأحزاب مختلفة، كنا ننقل رسائل من عمّان إلى دمشق، ونعود برسائل لا نعلم ماهيتها، كنا نعلم فقط إن كانت رسائل شفوية.
استطاعت الصحافية الصاعدة وقتها التسبب في صدور قرار عن السلطات السورية يريح الطلاب الوافدين من الأردن، حدث ذلك خلال قيامها بالتسجيل للانتساب للجامعة السورية "دمشق"، وكان صديقتها سورية الأصل، سينم بدرخان، تسجل في الجامعة نفسها، واتبعتا الإجراءات سويًا، فصادفت بيان أن أحد الشروط للدخول للجامعة للطلاب غير السوريين هي حصولهم على شهادة حسن سير وسلوك من أوطانهم، وحينها لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة للطلاب الأردنيين عامة بسبب التوتر السائد حينها بين البلدين، فخافت بيان إن قدمت طلبًا للحصول على تلك الورقة أن تمنعهم الأردن من دخول دمشق أصلًا، وبالصدفة كانت زميلتهن غادة السمان ستذهب للتسجيل رفقة بيان وسينم، فوصلتا إلى منزلها واستقبلهما والدها الدكتور أحمد السمان، فعرض عليهن توصليهن إلى الجامعة، في الطريق أخبرته الفتيات بالمشكلة، فوعدهن بإيجاد حل لها، فوجئوا بعد يومين بأن الجامعة تعفي الأردنيين من تلك الشهادة، ومن بعدها أصبحت الروائية غادة السمان صديقتها.
| الدكتوراه ولقاء القادة
والد بيان عمل عشر سنوات مع الحاج أمين الحسيني في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في القدس، ثم أسس مجلة العرب، وكان يخاطبه مع أنهما في عمر واحد ويقول: "أنت يا عجاج وأنت يا ابني.. لا تنفع للصحافة، الصحافة عمل مالي، وأنت ما إلك علاقة بهكذا أمور، لذلك ستغلق المجلة".
علاقة الصديقان كانت قوية للغاية، فحينما بدأت التحضير لرسالة الدكتوراه في أوائل السبعينيات، أرادت مقابلة الحاج أمين، فسألت والدها عنه محاولة لتجميع أكبر قدر من المعلومات، كانت متحمسة للقاء رجل بحجم الحاج أمين؛ فهو مفتي القدس، راجعت الأسئلة وذهبت للقائه. تقول بيان: "التقيته في قاعة كبيرة جدًا، فجلست على الجانب لأنه من البديهي أن يجلس هو في صدر القاعة، فاستأذن مني مرافقوه بأن أجلس في الصدر وأترك المجلس الجانبي له، وهذا كان الصحيح من الناحية الأمنية. فور دخوله استقبلني بابتسامته المعهودة، وبمجرد جلوسه قال لي: أنا حضرت ولادتك وحضرت زواجك، قلت له: الأولى لا أتذكرها، الثانية أذكرها. فابتسم، وأخذت منه ثلاث مقابلات".
سجلت بيان عجاج نويهض حوالي خمسة وأربعين شريطًا مع والدها، حكى خلالها فترات من حياته، والتاريخ العربي، فقد ظهر عجاج في التسجيلات بصوته، وكان يتحدث عن كل شيء، وعن رجال الثورة العربية والأحداث الذي شهدها خلال حياته. في العام 1969، قرّرت بيان التفرغ للدارسة والعائلة، فتركت النشاط في العمل النسائي في "الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية"، وغالبية نشاطاتها الأخرى، وركزت جل اهتمامها على نيل شهادة الدكتوراه، ليس من أجل الشهادة ذاتها، بل لغاية التفرغ للكتابة والتدريس الجامعي مستقبلًا.
كان موضوع رسالتها الدكتوراه "القيادات والمؤسسات السياسية الفلسطينية ١٩١٧-١٩٤٨". رافقها في الرسالة المشرف أنيس الصايغ، وحين شرعت بالبحث عن المراجع، اكتشفت أن المتوفر من مراجع لا تغطي 20%، وهذا معناه أن عليها البحث في موضوع آخر بسبب عدم توافر المصادر المرجعية، فطلبت من مشرفها منحها عامًا للبحث عن مراجع أخرى، فوافق، قالت في مقابلة سابقة: "إن عملي الصحافي أثر في دراستي الأكاديمية؛ فأنا بدأت البحث عن المراجع من خلال إجراء مقابلات مع أفراد من جماعة العمل النضالي والسياسيين الذي شهدوا مرحلة الانتداب، وأعطاني كل منهم ما يملكه في مكتبته الخاصة، ومن أبرز ما قابلت المفتي الحاج أمين الحسيني، والأستاذ أكرم زعيتر الذي منحني يومياته الخاصة. ولجأت إلى مجلدات جريدة الجامعة العربية التي أصدرها الأستاذ منيف الحسيني لسبع سنوات. ولم أنس يوم أعطاني إياهم وحملها في صندوق السيارة، فشعرت وأنا أقود سيارتي من منزل الحاج أمين في المنصورية، بأنني أحمل ثروة هائلة، والفضل الأكبر يعود لوالدي الذي لم يبخل عليّ بمقابلات وبأوراقه الخاصة".
تكمل بيان في نفس المقابلة: "بعد نيلي للدكتوراه في عام 1978، عشت مرحلة جديدة، فأصبحت محاضرة في الجامعة اللبنانية، وأردت أن أحذو حذو أساتذتي الكبار بدءًا من أنور الخطيب وبطرس ديب وصولًا إلى صلاح الدباغ. واعتقد البعض من قيادات المنظمات اللبنانية أو الفلسطينية أنهم من خلالي سيستطيعون تمرير بعض الأمور. في مرة كان زوجي مجتمعًا مع ضباط من مجلس قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني، وقد أتوا إلى منزلنا للمراجعة لطالب زميلهم رسب في مادة القضية الفلسطينية التي كنت مدرستها، رفضت تعديل الدرجة ووافقني شفيق الرأي، جلست مع التلميذ الضابط وناقشته في سبب رسوبه فقط، ولم أعدل النتيجة أبدًا".
| عن بيان ورفيق دربها
في خضم الأحداث الكثيفة في حياة بيان الحوت، التقت رفيق دربها شفيق الحوت، فكان أول لقاء لهما في مكتب محسن أبو ميزر في مجلة الصحافة التي اتصلت به بيان، لتسأله عن مؤلفات للكاتب ساطع الحصري التي تجهز نفسها لإجراء مقابلة معه، فكانت تريد مؤلفاته لقراءتها مرة ثانية، لأن مكتبة عائلتها ما زالت في الصناديق المغلقة منذ مجيئهم إلى عمّان. قال لها محسن بإنه لا يعلم، ودعاها إلى مكتبه لحضور ندوة صحافية وكان عدد من الكتّاب مدعوين لها. بدأت الندوة، وبعد وقت لا بأس به دخل عليهم شاب بدت عليه الحماسة، واعتذر عن التأخير بسبب عمله في مجلة الحوادث، لم يعجبها طريقته بالاعتذار، ولكن عندما تدخل بالحديث جذبها بفكره السياسي وجرأته وثقافته، فيما بعد تعددت اللقاءات بينهما، وكان هو المحاضر ذات مرة في محاضرة بعنوان "اليسار والقومية العربية".
واستمرت اللقاءات بين بيان وشفيق، وكان حلقة الوصل بينهما حاضرًا في غالبية اللقاءات، الشاعر كمال ناصر. تقول في مقابلة سابقة: "كنا نحن الثلاثة مقتنعين بأن حزب البعث وغيرهم من العروبيين لم يقوموا بواجبهم في حماية الوحدة. وتوطدت علاقتي بكمال وبدأ ينشر مقالات في مجلة الحوادث، وقبل النشر يطلب رأيي، وخلال أغلب اجتماعاتنا كان يأتي لنا شفيق ويدعونا لمكتبه لنتحاور في أمور عدة، وكانت تلك اللقاءات باعثًا جديدًا لعلاقتي بشفيق، وتزوجنا بعدها".
بيان التي سمعت عن شفيق إشاعات كثيرة، فثمة من يقول إنه شيوعي، والبعض الآخر يؤكد أنه يميل للفكر السوري القومي الاجتماعي، وبالرغم من هذا أصرت أن تكتشفه بنفسها، فعرفت أنه كان رجلًا يساريًا في تفكيره. تزوجا في العام 1962، ولم يمنعها الزواج من إكمال دراستها في العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية، ولا عن متابعة عملها في حزب البعث، فقد كانت مسؤولة عن شعبة "الشياح"، وبعد الانفصال قررت بيان ورفاقها توجيه الدفة النضالية بطريقة جديدة، فأنشأت شعبة فلسطين.
كان ثمرة هذا الزواج ثلاثة أبناء: حنين وسيرين وهادر، وعندما ولدت الابنة الكبرى لهما حنين، كتب سليم نصار في جريدة الأنوار خبرًا مفاده: "رزقت زميلتنا بيان نويهض بمولودة أسمتها جزائر". في تنويه منه عن كتابتي لـ ١٧ مقالًا عن ثورة الجزائر في عام واحد. بعد الزواج، انتقلت من "حزب البعث" إلى العمل مع شفيق الحوت، في حزب أسسه وأسماه "جبهة التحرير الفلسطينية- طريق العودة". آمنت بأفكار هذا الحزب وانتمت له، وقد كانت بالأصل أعلنت انفصالها عن حزب البعث، عملت في الشعبة النسائية بقيادة الصحافية سميرة عزام.
عاشا سويًا سنوات مليئة بالأحداث المهمة على الصعيد السياسي. شفيق كان متحمسًا لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وهو من المؤسسين لها بحسب تصريح لبيان، تقول في حوار سابق لها: "زارنا أحمد الشقيري عدة مرات بخصوص هذا الأمر، حقيقة، احترمت حماس زوجي وإصراره على هذه الخطوة وعمله الدؤوب عليها، ولكن كنت خائفة بسبب عدم ارتياحي لجامعة الدول العربية، بالرغم من ثقتي في جمال عبد الناصر وقادة الثورة في الجزائر". فيما بعد أصبح شفيق مديرًا لمكتب منظمة التحرير في بيروت، واستقال من مجلة الحوادث، أما بيان فقد تركت العمل الصحافي واقتصر علمها الإعلامي على الكتابة الإذاعية.
عاشت بيان ورفيق دربها مرحلة حرجة في الاجتياح الإسرائيلي، فكانت منطقتهم "وطى المصيطبة" عرضة للقصف بشكل دائم، وفي المنطقة مقر الحركة الوطنية ومكتب منظمة التحرير الفلسطينية. فغادروا المنزل، إلى منزل شقيقتهم نورا، ثم انتقلوا إلى منطقة ساقية الجنزير، وكان ياسر عرفات يزورهم باستمرار، وتوافد عليهم عدد من الأدباء والمفكرين والصحافيين الأجانب للحصول على أحاديث من شفيق الحوت.
قالت بيان في مقابلة صحافية سابقة: "لقد توفي والدي في 25 حزيران/يونيو، وقد كان أوصى أن يُدفن في الضريح الذي بناه في حديقة منزله في رأس المتن، وحينها بقي جثمانه في براد كلية الطب حوالي أسبوع، بسبب الحواجز الإسرائيلية التي أعاقت الوصول لرأس المتن، لم أتمكن من مرافقة جثمانه، ولكني شعرت بارتياح لأني نفذت وصيته".
بعد انتهاء الاجتياح الإسرائيلي، عادت بيان وشفيق إلى منزلهما، وبدأوا بإصلاح ما خربه القصف الإسرائيلي، كان أولادهما قد غادروا رفقة الأخت الكبرى حنين التي ستلتحق بجامعة في ألمانيا. لم يكد يمضي وقت طويل على وصولهم للمنزل حتى جاء جار لهم في الحي، وأخبرهم بأن الإسرائيليين سألوا عن منزل شفيق الحوت، وحينها كان رفقة بيان أبناء شقيق زوجها زياد وهناء زوجته، فطلبت بيان من هناء مغادرة المنزل حتى لا يتأذى الأطفال ولكنها رفضت المغادرة رفضًا تامًا.
اقرأ المزيد: وجيهة الحسيني: امرأة الثورة وصانعة الثوار
تشرح بيان: "سمعنا طرقًا على الباب، أربعة عسكريين على رأسهم ضابط سألني بجمود: هل شفيق الحوت هنا؟، فأجبته لا. ثم صمت قليلًا وقال: هل من العادة أن يهرب رجالكم؟ فقلت: أنت تعلم أن موعد مناقشة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة قد اقترب، وزوجي يكون حاضرًا في كل الجلسات بحكم منصبه في منظمة التحرير. ثم فتشوا كل شيء أمامهم، وبعدها سألني: أتشهدين أننا كنا متحضرين معك؟. عبرت في مقابلتها الصحافية عن ارتباكها بعد سؤال الضابط: فعن أي حضارة يتحدث عنها وأنا أشاهد السلك الناسف على مدخل شقتي. فأجابته: "لقد كنتم أكثر تمدنًا معي مما كنت أتصور، ولكنني لم أكن معكم في بيوت أخرى لأعرف كيف تتصرفون".
| مجزرة "صبرا وشاتيلا"
أصدرت بيان نويهض الحوت عدة مؤلفات، أبرزها كتابها "صبرا وشاتيلا"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2003، ويروي حكاية مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث توثق فيه شهادة 46 فلسطينيًا ولبنانيًا عاشوا المجزرة، وعانوا ويلاتها. تبدأ المؤرخة كتابها منذ اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل في 14 أيلول/سبتمبر 1982، ثم الاجتياح الإسرائيلي، حرصت على البحث الجيد وجمع الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام، واهتمت بتوثيقها بالإحصاءات.
مهندس المساحة والصحافي حسن بكير، شارك في إعداد ورسم الخرائط الجغرافية لمخيم شاتيلا، يقول في مقابلة سابقة: "اعتمدت الكاتبة على رواية الشهود، وواجهت خلال عملي معها صعوبات في رسم الخرائط بسبب تغير معالم المنطقة بسبب السنوات الطوال، وتغيرت أسماء الأماكن التي تحدثت عنها الشهادات، فقمنا برسم خريطة لجميع أماكن المجزرة وما حولها، واستغرق تصميم الخرائط ثمانية أشهر".
قالت المؤرخة في مقال سابق لها: "ضحايا المجازر لا يُقتلون فقط يوم يُقتلون، تلك هي المرة الأولى؛ إنهم يُقتلون في كل مرة تعجز فيها الأصوات الحرة عن الجهر بالحق والحقيقة، وعن إدانة القتلة.. وتلك هي المأساة الكبرى، مأساة الضحايا الأحياء، الذين يحملون في ذاكرتهم، وفي وجدانهم، وفي عيونهم، رسالة ضحاياهم الراحلين".
احتفظت بالملفات والأشرطة المسجلة في أكثر من مكان، لتعود لها مستقبلًا. انتهت بيان في منتصف الثمانينيات من مشروع التأريخ الشفهي، والدراسة الميدانية، ووثقت في كتابها روايات مهمة وشهادات حية ممن عايشوا المجزرة.