لم تكتف لعنات الرأسمالية الحديثة بقلب معاني الحياة الرصينة رأسًا على عقب، وتشويه معالم الثقافة، والوقوف في وجه القيم الأصيلة فحسب، بل امتدّت إلى العلاقات الإنسانية لتجعل منها مجرّد معاملات مقتضبة سريعة، تتميّز بهشاشتها وينقضي مفعولها بمجرّد انتهاء تاريخ صلاحيتها. وبمناسبة عيد الحب الذي يوافق الرابع عشر من شباط/فبراير من كلّ عام، ويحدث زخمًا كبيرًا في كلّ أنحاء العالم، يأتي التساؤل حول مدى صلابة الحب في عصرنا الحديث وعدم اتّسامه هو الآخر بالسّيولة والرخاوة والاستهلاك، خاصةً مع تسجيل تصدير تركيا مثلًا لأكثر من 65 مليون وردة كما ورد عن وكالة الأناضول التركية. فهل انتقل الحب من كونه بحثًا عن مشاعر إنسانية صادقة وسامية إلى كونه سلعة استهلاكية تطرحها الأسواق في المواسم المخصّصة؟ وهل أُفقد جلاله وقدسيته، وأفرغ من محتواه؟
| الحبّ وسلالم الصعود والهبوط
من الملفت للنظر كيف تراجعت مراتب الحبّ من قدسيةِ لا يمكن المساس بها جعلت الإغريق القدامى ينصّبون لها آلهة الحب المعروفة بكيوبيد Cupid إلى حصر مفهومه في المتع الآنية والعابرة لا أكثر من ذلك ولا أقل. في هذا الصدد، يقول "بيونغ شول هان" في كتابه "معاناة إيروس": اليوم، يتمّ التعامل مع الحب بوصفه صيغة للمتعة قبل كلّ شيء، لم يعد مرادفًا للحبكة أو الدراما أو السّرد، بل للاهتياج العاطفيّ والإثارة.
فبعد أن كان الحب الحقيقيّ يستلزم بالضرورة الكثير من الصبر، وتحمل المسؤولية، والوفاء، والمعاني العميقة التي لا يمكن تجسيدها، والتأقلم مع مختلف التغيرات، على النحو الذي تراه سهى (33 عامًا)، من سورية قائلةً: "شكل الحب يختلف بعد الزواج بحكم التعوّد، فيتحول من شكل إلى آخر، لكنّه لا يختفي". صار مقتصرًا على المتع اللحظية العابرة ذات الوهج المحدود، والمنافع المادية، حتى أصبح فعل الجنس قصير المدى يسمى بممارسة الحب – making love، ففقد عروته الوثيقة، وأصبحت العلاقة بذلك هشّةً، يمكن الفصل فيها بسهولة وسرعة كبيرة.
تقرّ وفاء (30 عامًا)، من الجزائر، بوجود علاقة بين معايير اختيار الشخص المناسب واستمرارية الحبّ اتّجاهه، وتجعل من الأسس المادية سببًا لانهيار ذلك الحب: "في حالتي مثلًا، لم أختر زوجي على أساس ماديّ بقدر ما لفتت أخلاقه انتباهي إليه. لذلك، فمن كانت معايير اختياره ماديةً بحتة، فسيتلاشى ذلك الحب مع أول عقبة في الحياة الزوجية أيًّا كان نوعها".
وباعتبار العلاقة الزوجية رباطًا متينًا لا يمكن المساس به، كانت موازين الحبّ إحدى أسسها المهمّة إلى جانب الرحمة في الدّين الإسلاميّ؛ إذ لا تخفى على الكثيرين قصة مغيث الذي أحبّ زوجته بريرة حبًّا شديدًا وكان يسير خلفها كلّ يوم بعد أن قررت الانفصال عنه لأنّها لم تكن تحبه، فلفت بفعله ذلك انتباه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: "ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا؟". وكان شفيعًا له عندها، فسألته ما إذا كان يأمرها بذلك، وحينما نفى، أجابت بكلّ صدق: "لا حاجة لي به"؛ فلو لم تكن موازين الحبّ ذات قدسية كبيرة وقدر عال في الدّين، لأمرها النبيّ بأن ترجع له.
لو أن شيخًا من زمان غابر ألقى نظرة على عصرنا لما تعرّف علينا، لأنّنا نفقد إنسانيتنا فداءً للصخب.
وهذا ما لا نراه في حبّ العصر الحديث الذي صار يتذبذب في سلالم الصعود والهبوط، لا استمرارية فيه، ولا ثبات، ولا رسوخ، إنّما هو تغيّر وتبديل سريع مستمر ّيوافق الأهواء والغرائز لا غير. بناءً على ذلك، يُخيّل لحنان (25 عامًا) أنّ "شيخًا من زمان غابر لو ألقى نظرة على عصرنا لما تعرّف علينا، لأنّنا نفقد إنسانيتنا فداءً للصخب، فداء للأشياء، فداءً للسرعة الرهيبة التي نعيش فيها"، على حدّ تعبيرها.
| تسليع الحبّ
ومن هذا المنطلق، اكتسب الحبّ صفة التشيؤ بتعبير عبد الوهاب المسيريّ، بعد أن كان قيمةً معنويةً ساميةً تتطلب عزمًا،
الناس متعبون في الوقت الحاليّ، وهذا التعب يدفعهم إلى الشعور بلا جدوى الحياة.
يريد الإنسان إذن تحرّرًا من كلّ إلزام أو التزام قد يمنعه من فرص أفضل، ومن حياة أكثر نظرة واتّساعًا، كما يرى باومان، فيصبح الحبّ هو الآخر سلعةً مستهلكة، يغيّرها مع صدور كلّ موضة جديدة، تمامًا مثلما يغيّر حذاءه، وملابسه، ونوع هاتفه، وعمله رغبة في امتيازات أحسن، فهو سيغيّر شريكه بمجرّد عثوره على خيار أفضل، وسينتهي مصير الحبّ السابق مع الشريك السابق إلى سلة المهملات، شأنه بذلك شأن جميع السلع منتهية الصلاحية، عديمة النفع والقيمة.
بالمقابل، تشير الدكتورة بتول حكمت المتخصّصة في الفلسفة الغربية المعاصرة، والمحاضِرة في جامعة دمشق إلى أنّ مفهوم الحبّ الرومانسيّ ضمن واقع تحكمه رغبة التملّك يفقده معناه؛ إذ تصبح العلاقة مبنية على أساس التملك لا على أساس المحبة الحقيقية الصافية. وتضيف: "في رأيي، الناس متعبون في الوقت الحاليّ، وهذا التعب يدفعهم إلى الشعور بلا جدوى الحياة. لذلك تصبح العلاقات سطحيةً، خاليةً من الارتباط؛ لأنّ الناس يخافون من المجهول خاصةً وأنّ الواقع صعب".
| الحبّ ومتاهة السوشيال ميديا
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ في العصر الحاليّ المرآة الوحيدة للصّحيح والخطأ، فاكسبت، تبعًا لذلك، العلاقات الرومانسية والزوجية، صفة مثالية تشبه تلك التي يشاهدها المرء في الأفلام والمسلسلات، فلا تشوبها شائبة، ولا تمرّ عليها سحب الصّيف، ممّا أوقع الكثيرين في متاهات حول الشّكل الحقيقيّ للحب. وفي هذا الصّدد، يقول شوكت (31 عامًا) من سوريا: "معظم الناس تتوقع علاقة حبّ غير واقعية مثل التي ترى في الأفلام والمسلسلات وحينما لا تلبّي العلاقة التوقعات تكون العلاقة غير ثابتة"، فالجميع ينتظر محاكاة لحياة "نور ومهنّد"، ويحكم على الإطار الخارجيّ لأزواج السوشيال ميديا، ويتوقع علاقةً مماثلة، الأمر الذي يخلق حالةً من عدم الرّضى، واليأس المستمرّ.
وبرغم أنّ هذه العلاقات ذاتها محكومة بالعدسة على حدّ تعبير رواء (17 عامًا) من مصر: "عدسة الكاميرا أصبحت تستمتع باللحظة قبل أن يستمتع بها المتحابّون، فأصبحت سعادة كل اللحظات مزيّفة، وبالتالي كل المشاعر أصبحت هي الأخرى مزيفة وبلا قيمة حقيقية زي زمان". توافقها ضحى الرأي (28 عامًا) من مصر، مضيفةً بأنّ المساحة الشاسعة التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعيّ لكلّ من يرغب بالحديث جعلت تجارب الآخرين الفاشلة السابقة مرجعًا يستند إليه، فصارت هذه التجارب متاحةً للجميع، وخلق إسقاطها على وضعية كلّ شخص افتراضات غير واقعية.
ولعلّ هذا ما ذهب إليه مؤلف كتاب "معاناة إيروس"، الذي يصف الحب بأنّه آخذ في الانهيار، ويعزو سبب ذلك إلى حرية الاختيار التي غدت واسعةً على نحو مفرط، مع سيطرة فكرة وهمية عن الاكتمال الذي يتوجب أن يكون عليه الطرف الآخر. ممّا يبلور صورة واضحة حول تغيّر معايير اختيار الشريك، بين الماضي والحاضر، والتي تعتقد دليلة (60 عامًا) بأنّها ليست حصرًا على المقاييس المادية، بقدر كونها نتيجةً لجملة من التغيرات في جميع المجالات؛ حيث تقول: "تغيرت معايير اختيار الزوج بتغير المجتمع، من حيث القيم الأخلاقية، والاجتماعية، والعادات والتقاليد، والظروف الاقتصادية، وكذلك تطور الفكر الإنسانيّ من جميع النواحي، إضافةً إلى كسر العديد من القيود الدينية والفقهية التي تمّت مراجعتها وتغييرها".
| على الهامش: هل نحتفل بعيد الحب؟
تخبرنا نور (26 عامًا) من تونس، من جهة، بأنّ الاحتفال بعيد الحبّ غير ضروريّ وغير أساسي، لأنّها تستطيع تقديم هدايا لمن تحبّ في الوقت الذي تحبّ وتضيف: "أنا ضدّ سلعنة المشاعر وإدخالها إلى السّوق من دون أن أفرض ذلك على غيري".
من جهة أخرى، تستبق حنان (25 عامًا) من الجزائر الفرصة للاحتفال بأي مناسبة قصد نشر البهجة في قلوب الأحبة بغضّ النظر عن الخلفية التي يحملها العيد؛ ويدفعها شغفها بالطبخ إلى إعداد الكثير من الأطباق لأفراد العائلة في مختلف هذه المناسبات؛ حيث تقول: "أرى في عيد الحب فرصة لتطييب خاطر الأحبة وللتهادي، وكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام تهادوا تحابوا، فهو فرصة لإعطاء نفس جديد لعلاقة بين زوجين متحابين شغلتهما الحياة، أو على الأقل هو تذكير"، لكنّها تعود فتوافق نور الرّأي في مسألة عدم اقتصار الاحتفال بعيد الحبّ على يوم بعينه، وضرورة إحيائه في كلّ الأوقات.
ويبدو في الختام أنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في الاحتفال بعيد الحبّ من عدمه، بقدر كونها تتعلّق بمدى صدق ذلك الحبّ من الأساس، ومدى صموده ومقاومته لكلّ التغيرات السريعة الطارئة في هذا العصر.