بنفسج

صاحب القرآن... الحفظ والتدّبر وضبط التلاوة

الأحد 08 مايو

حين تحبّ أحدهم تحبّ كلامه، تشتاق لمحادثته، وتتوق للقائه، وتذوب حبًّا وحنينًا لقراءة رسائله، بل وتعود بين الحين والآخر لتقرأ تلك الرسائل مرارًا وتكرارًا من دون أيّ ملل، فتتأمّل كلماته بأعينٍ لامعةٍ وقلبٍ خافقٍ بالحب والشغف. إنّه الحبّ وما يصنعه بالواحد منّا، فما مدى حبّك لخالق الحبّ وواهبه؟ وما حال قلبك مع كلام الله ورسائله إليك الموجودة بين دفّتي المصحف؟ هل وصل بك الحال بأن يؤرّق شوقك لخالقك مضجعك فيُذْهِب النوم من عينك لتقوم هائمًا باحثًا عن وِصاله؟ هل تعلّق قلبك بكلام الله، فلا يمرّ عليك يوم من دون وِرد من آياته يَروي ظمأك، فتُزهِر روحك ويُنير ظلمتك، فيُشْرق قلبك؟

هل تأمّلت كلام الله وفهمته، وجعلت منه الدليل المرشد لك في متاهات الحياة وشواغلها؟ هل اتّخذت منه الركن الشديد الذي تركن إليه بضعفك وآدميتك، ليثبّتك ويعينك ويحميك من مفاتن الدنيا وزُخرُفِها؟ قبل أن أطرح هذه الأسئلة عليك، حدث وأن وجّهتها بصدقٍ لنفسي منذ حوالي عامين من الآن، وكانت إجابتي وقتها على هذه الأسئلة بالنفي، لا، لم أفعل! على الرغم من أنّني اعتدت أن يكون القرآن الكريم جزءًا من حياتي طيلة سنواتي المدرسيّة والجامعيّة، أحفظه بشكل شبه يومي؛ فهو من إحدى المواد المقرّرة علينا، والتي يتوجّب عليّ النجاح بها كون دراستي أزهريّة. طوال هذه السنوات كان كلّ همي إنهاء حفظ المقرّر علينا من الأجزاء محاوِلةً في ذلك اجتياز الامتحان بنجاح، وتحصيل الدرجات وحسب.

| ضبط التلاوة "الأهميّة والكيفيّة"

القرآن.jpg
إن التلاوة السليمة للقرآن الكريم سبب في التدبّر والفهم الصحيح للآيات، والحصول على المعنى المراد منها

 لكن -ولحسن الحظ- محاولاتي تلك كانت تبوء بالفشل، ودائمًا ما كانت درجاتي في مادة القرآن منخفضة، عكس درجاتي في باقي المواد! وأقول لحسن الحظ، لأنّه لولا هذا الفشل ما كُنت لأتنبّه إلى التقصير والخطأ الذي وقعت به في حقّ كلام الله سبحانه. لقد اكتشفت أنّني أتعامل مع القرآن مثله مثل أي مادة علميّة ضمن المنهج الدراسي، فأصبحتُ أردّده سريعًا لأحفظه، من دون ترتيل، من دون تدبّر، من دون فهم لآياته وأحكامه، بل ومن دون نطق صحيح لبعض مخارج الحروف والكلمات، أحفظه للتحصيل العلمي واجتياز سنواتي الدراسيّة بنجاح وحسب.

وبعد إدراكي لهذا التقصير قرّرت أن أبدأ رحلتي مع القرآن بمسارٍ جديدٍ ورؤيةٍ مختلفةٍ، تضمّنت هذه الرحلة ثلاث محطات: ضبط التلاوة. تمكين الحفظ. فهم الآيات والتدبر -وهو ما سأخصّص له مقالًا كاملًا-. أما في موضوع اليوم سأشارك معكم هذه الرحلة بالتركيز على ضبط التلاوة أولًا، ومن ثم تمكين الحفظ. وسأذكر لكم أهميّة كل نقطة والوسائل المُعينة عليها.

إن المقصود بالقراءة الصحيحة لآيات القرآن الكريم؛ هو التأنّي في تلاوته، وإخراج كل حرف من مخرجه، وضبط كلماته بالتشكيل الصحيح، إضافة إلى تعلّم التجويد وأحكامه، ولهذا أهمية كبيرة:

| الترتيل: إن القراءة الصحيحة المتأنّية للقرآن الكريم هي تطبيق لأمر الله سبحانه وتعالى وسنّة نبيه ﷺ، قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتيلًا﴾ [المزمل: ٤]، أي اقرأه بتمهّل مبينًا الحروف ومواضع الوقوف.

القراءة الصحيحة: إن التلاوة السليمة سبب في التدبّر والفهم الصحيح للآيات، والحصول على المعنى المراد منها، أما التلاوة الخاطئة، وعدم ضبط مفردات القرآن بالتشكيل الصحيح تؤدّي إلى تغيير المعنى كُليًّا، بل وتُفسِد المعنى في كثير من المواضع.

| أجر القرآن: المُتقِن لتلاوة القرآن يحظى بالمنزلة الرفيعة عند الله سبحانه؛ فعن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".

| وسائل تساعد على التلاوة الصحيحة

قرآن.jpg
مصحف التجويد الملوَّن وهو مصحف مُذيل بأحكام التجويد، وكل حكم له لون مُحدَّد

| الالتحاق بمجالس القرآن: لتلاوته على أهله المُتقنين له، فيصحّحون لك أخطاءك، ويضبطون لك مخارج الحروف والأحكام، وهذه المجالس أصبحت مُتاحة للحضور "أونلاين" لتناسب كل الظروف.

| الاستماع إلى كبار القرّاء: كالشيخ المنشاوي، والحصري، وعبد الباسط، وغيرهم. ولهذه الخطوة أقترح عليك تطبيق آية؛ فهو يضم مجموعة تلاوات متنوّعة. ومتابعة حلقات برنامج الإتقان لتلاوة القرآن للشيخ أيمن سويد.

| مصحف التجويد الملوَّن: وهو مصحف مُذيل بأحكام التجويد، وكل حكم له لون مُحدَّد، وتكون صفحة القرآن حروفها ملوَّنة بنفس لون الحكم، فيساعدك على معرفة الأحكام وتطبيقها وثباتها في الذهن. وهو متوفر بشكل ورقيّ في المكتبات، أو بشكل إلكتروني عبر العديد من التطبيقات التي يمكن تحميلها على الهاتف.

| تمكين الحفظ والمراجعة.. فضل حفظ القرآن الكريم

لمصجف.jpg
حافظ القرآن يرفع الله قدره حتى في الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع أقوامًا آخرين"

| التأسّي بالنبي ﷺ: فقد كان ﷺ يحفظ القرآن ويراجعه مع جبريل كل عام، عن فاطمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: "إن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرّة وأنه عارضه به في العام مرّتين"

| إن منزلة العبد في الجنة تزداد بازدياد مقدار حفظه للقرآن: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: "يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها".

| يرفع من قدر صاحبه: ليس في الآخرة وحسب، بل حافظ القرآن يرفع الله قدره حتى في الدنيا. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع أقوامًا آخرين".

| الوسائل المعينة على الحفظ

| الاستعانة بمصحف الحفظ الميسّر: وهو مصحف يُعين على الحفظ باحتوائه على:  روابط لفظيّة ومعنويّة وموضوعيّة، إضافة إلى وقفات تدبّريّة ومتشابهات الآيات وشرح المفردات. وهو من أفضل الوسائل المعينة لإتقان حفظ القرآن الكريم، وموجود على اليوتيوب مقاطع تشرح كيفيّة التعامل مع هذا المصحف.
 
| فهم مفردات القرآن: بالاستعانة بمصحف مختصر تفسير الإمام الطبري وغيره، وهو مصحف يفسّر ما يصعب فهمه من كلمات القرآن الكريم، ويكون مُذيّلًا بأسباب النزول، فيساعدك على فهم الآيات، ومعرفة مناسبتها، وهذا الفهم يكون سببًا في تمكّن الحفظ وإتقانه وسرعة استرجاعه وتذكّره.

| التوبة من الذنوب: إذا أردت أن يستقرّ القرآن في قلبك لا بد أن يليق هذا القلب بضمّ كلام الله وذكره الحكيم.

| طلب العون من الله وإخلاص النيّة: تبرّأ من حولك وقوّتك، واسأل الله أن يُعينك على حفظ القرآن وفهمه وإتقانه والعمل به وتعليمه.

| الصبر وعدم العجلة: "قلّل المقدار، وأكثر التكرار، وحافظ على الاستمرار"؛ نصيحة سمعتها من أهل القرآن، وكان لتطبيقها أثر كبير في إتقان حفظي، أعلمُ أنّنا جميعًا نتلهّف لختم كتاب الله، لكن لا تجعل شوقك هذا سببًا في عجلتك لأن الإتقان لا يكون بالعجلة وما يُحفظ سريعًا يُنسى سريعًا.

| المواظبة على مراجعة المحفوظ: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: " تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلّتًا من الإبل في عقلها". أوصانا النبي صلى بضرورة مراجعة المحفوظ من القرآن الكريم، وعدم إهماله، وأقسم بأن القرآن معرّض للنسيان كإبلٍ معقودةٍ بحبل، إن لم تمسكها وتوثِق رباطها انطلقت وضاعت منك.


أقرأ أيضًا: في أربعة أشهر.. كيف حفظت القرآن كاملًا؟


| فهم مفردات القرآن: بالاستعانة بمصحف مختصر تفسير الإمام الطبري وغيره، وهو مصحف يفسّر ما يصعب فهمه من كلمات القرآن الكريم، ويكون مُذيّلًا بأسباب النزول، فيساعدك على فهم الآيات، ومعرفة مناسبتها، وهذا الفهم يكون سببًا في تمكّن الحفظ وإتقانه وسرعة استرجاعه وتذكّره.

| الاستعانة بمصحف الحفظ الميسّر: وهو مصحف يُعين على الحفظ باحتوائه على:  روابط لفظيّة ومعنويّة وموضوعيّة، إضافة إلى وقفات تدبّريّة ومتشابهات الآيات وشرح المفردات. وهو من أفضل الوسائل المعينة لإتقان حفظ القرآن الكريم، وموجود على اليوتيوب مقاطع تشرح كيفيّة التعامل مع هذا المصحف.

ختامًا، أُذكّر نفسي وإيّاكم بأن السير على طريق الوصول وصول، رحلتنا مع القرآن قد تقصر أو تطول، حسب ظروف كل واحد منّا وطاقته، لكن علينا أن نجتهد، ونأخذ بالأسباب، ونواصل المسير إلى أن نلقى الله سبحانه، ونحن على هذا الطريق ليحشرنا في زمرة أهل القرآن أهل الله وخاصته.