ما زالت رانيا أبو لبن "40 عامًا"، من مدينة البيرة، تحاول بكل طاقتها، منح روح الحياة والاستمرار في فكرة أسستها قبل 10 أعوام، وتتمنى أن تحيا معها حتى نهاية العمر. "فكّر بغيرك" حملة تعني لـها سرًا جينيًا عائليًا يذكّرها بأمها التي كانت توزع فائض الملابس على من يحتاجونه، لكنها تعني اليوم للكثيرين مزيدًا من الدفء والدعم والإسناد، وخاصة العائلات المحتاجة التي كرّست رانيا نفسها في خدمتهم.
"فكّر بغيرك" يتجاوز في معناه أن يكون شعار أو اسم لحملة، بقدر ما يعبّر عن رؤية ورسالة حياة تحملها الشابة الأربعينية أبو لبن، والتي تؤكد في كل مناسبة أن لعائلتها دور بارز في نشاطها المجتمعي، فلم يكونوا داعمين لها بالموقف فحسب، وإنما يشاركونها جهدها ونشاطها، وفي كل مرة توقفت فيها الحملة بشكل ما، أمدوها بالطاقة والتشجيع، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، مرافقتها لساعات متأخرة من الليل في بداية الحملة، إذ كانت توزع الطعام الذي تجمعه من المطاعم على العائلات المحتاجة.
| 20 عامًا من التطوع

والحملة الأخيرة التي أسستها وتديرها أبو لبن، لا تختزل مسيرتها في العمل التطوعي، بل تشير إليه، وتوضح بعض ملامحه، فهي تؤمن بأن الدور الذي يجب أن تؤديه، هو ذلك المرتبط بضرورات واحتياجات المرحلة، فكانت ممن ساهموا في تشكيل اللجان الشعبية التي أدت دورًا في تدريس الطلاب خلال الاجتياحات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية، واهتمت في إنشاء المكتبات الثقافية في مخيمات محافظة رام الله والبيرة. يُضاف هذا إلى دورها في العديد من المبادرات، والمجموعات التطوعية، والكشفية، والمهنية التي امتدت على مدار 20 عامًا من عمرها.
وبالنسبة لأبو لبن فإن التطوع ليس مجرد سلوك يؤديه الشخص بشكل مرحلي أو مجتزأ، وإنما مبدأ متجسد في التكوين الفكري الاجتماعي، وتعبر عن ذلك قائلة "أهم شيء بالدنيا التطوع.. بعدين الشغل بيجي، لقد استقلت من عملي الماضي حتى أتفرغ للتطوع، خاصة في فترة تفشي فيروس كورونا، وحينما غدا الوقت في غير صالح عملي التطوعي بعدما أصبحت أقضي 50% من وقتي متطوعة، اخترت التطوع". اختارت العمل التطوعي عن قناعة تامة، وهدفها الأول مساعدة الآخرين. درست أبو لبن في جامعة بيرزيت تخصص هندسة الكهرباء، وواصلت تعليمها الجامعي وحصلت على شهادة الماجستير في مجال إدارة الأعمال، وباشرت عملها في تخصصها حتى وصلت إلى منصب مدير مشاريع، قبل أن تنتقل للعمل على نظام "الفريلانسر".

حملة "فكّر بغيرك" التي ارتبط اسمها باسم الشابة أبو لبن، وقد تزامن انطلاقها مع شهر رمضان، وهو الشهر الذي يشهد العديد من النشاطات والفعاليات التي تحاول تكريس فكرة التكافل والتضامن المجتمعي، سعت إلى توطيد التكافل الاجتماعي بين العائلات من خلال العديد من الأنشطة، والتي كان من ضمها حملات جمع الملابس المستعملة، ولا زالت بحالة جيدة لصالح الأسر المتعففة، لتكون أول حملة في فلسطين تعمل على توفير الملابس للعائلات المحتاجة.
وتشير أبو لبن في الحديث عن الحملة إلى أن الأنشطة التي تقوم بها تستهدف فقط محافظة رام الله والبيرة ومخيماتها، ويعود السبب في ذلك إلى قدرة الناشطين فيها على التحري عن كل عائلة بعينها من حيث حاجتها لهذه المساعدات المقدمة. موضحة أن الحملة في البداية اعتمدت على كشوفات من وزارة الشؤون الاجتماعية، ثم أصبحت تضيف أسماء وتحذف أخرى، واليوم لديها قائمة خاصة بالأسر المتعففة تستهدفها في نشاطاتها المستمرة، وتجري التعديلات والإضافات على الاحتياجات المتنوعة لكل أسرة بعينها.
اقرأ أيضًا: عزف على الرماد: عن امرأة فلسطين والعالم العربي في التطوع
أنشطة كثيرة قامت بها حملة "فكّر بغيرك" منذ عام 2012 حتى اليوم، قدّمت بها مساعدات مختلفة، وزارت بيوتًا، وتحدث إلى عائلات وأفراد، لكن ما يعلق في ذاكرة وبال أبو لبن، تلك الابتسامات التي كانت ترتسم على شفاه الأطفال حين تقدم لهم المساعدات أو تقيم معهم النشاطات، والتي كان أبرزها فرحتهم بإنشاء مكتبة ثقافية في مخيم دير عمار بالمحافظة.
ولم تغفل حملة "فكّر بغيرك" قضية الأقساط التعليمية التي تثقل كاهل بعض العائلات، وتمنع طلابًا أحيانًا من تحقيق أحلامهم، بل توسعت الحملة في نشاطها المرتبط بالسياق التعليمي، وعملت على توفير الكتب لبعض طلاب الجامعات، وملابس الأعياد، والمئات من الحقائب المدرسية، وكفالة أيتام يفوق عددهم المئة طفل. وكان للحملة أيضًا، دور في الجوانب الطبية والدوائية، من خلالها سعيها إلى توفير الأدوية والتبرعات الطبية، والربط بين العائلات وأصحاب الأيادي البيضاء.
| صعوبات بعدها نتائج

واجهت أبو لبن في حملتها العديد من التحديات التي هددت استمرار فكرتها الخيرية، من بينها التغطية القانونية التي لم تكن بحوزة المجموعة القائمة على الحملة في بدايتها، إذ إنه يمنع جمع المساعدات المالية والعينية من المواطنين من قبل المجموعات، إلا أن أبو لبن صممت على تجاوز كل ما يواجه حملتها، فقابلت محافظ رام الله والبيرة، وشرحت له عن الحملة وأهدافها، وحصلت على التغطية القانونية التي أتاحت للمجموعة العمل بحرية أكبر، وأصبحت قادرة على استخدام مرافق حكومية من أجل النشاطات التي تقوم بها في ظل عدم وجود مقر للحملة بعد.
لكن أبو لبن تشير إلى أن العائق الذي ما زال قائمًا في طريق الحملة؛ هو عدم وجود مخزن يوضع فيه جميع التبرعات من أثاث أو ملابس لحين توفر العائلات التي تحتاجها، وهو ما يقلص قدرة الحملة على الحفاظ على بعض التبرعات إلى حين الوقت والشرط المناسب لتوزيعها. كما تجمع الحملة في كل عام متطوعين جدد من كافة الأعمار والفئات، وتتنوع المشاركات ما بين طلاب المدارس والجامعات والموظفين، كل يساعد في ما يستطيع.
وأكدت أبو لبن في حديثها على الأثر الذي يتركه التطوع في شخصيات طلاب المدارس الذين استمروا حتى دخولهم الجامعات، وتمتعوا بشخصيات قيادية مستقلة وفاعلة في المجتمع، وقد زاد التطوع من فرصة اكتسابهم الخبرات والاطلاع على حالات إنسانية عديدة تعلموا من خلالها العديد من العبر والدروس التي رافقتهم في حياتهم، مشيرة إلى أنها تتيح لجميع المتطوعين في الحملة حق اتخاذ القرار كل في نشاطه الموكل إليه، بينما ينحصر دورها في الإشراف العام على سير الأمور.

تسعى من خلال حملتها الى إعطاء المساعدات إلى مستحقيها فعلًا، وتأمل أن تكون نسبة الخطأ في اختيار العائلات المتعففة شبه معدومة، مع إدراكها أن الحملة لا تحل المشاكل، وإنما تخففها من خلال المساعدات، ولا تلغ الاحتياجات، بل تقلصها، لكن ذلك لا يمنعها أن تتمنى انتهاء ظاهرة الفقر في المجتمع ككل.
وتمنت أبو لبن في نهاية حديثها أن تصبح الحملة قادرة على ترميم منازل الأسر المتعففة، وأن تصل إلى المرحلة التي تكون فيها قادرة فعلًا على خلق فرص عمل للمحتاجين، وزيادة أعداد الأسر المحتاجة التي تستفيد من الحملة. وأكدت أن الحملة تتجهز للعديد من الأنشطة الخيرية في شهر رمضان المقبل، منها السلات الغذائية والكوبونات المقدمة من العديد من المحال التجارية.
| نماذج للعطاء

المتطوعة ساندي قاحوش "٣٨ عامًا" شاركت رانيا حملتها منذ الخطوات الأولى عام ٢٠١٢ بعد أن عرضت أبو لبن الفكرة، وبعد أعوام من التطوع تجد ساندي أن الحملة عملت على تغيير شخصيتها للأفضل وساعدتها في تطوير معاني الإيثار وحب المشاركة ومساعدة الغير وجعلتها تؤمن أن من واجبها رسم البسمة على محتاجيها، لا سيما إسعاد الأطفال وكبار السن خاصة. وتقول قاحوش:" عملنا على تخفيف الأعباء عن النساء، من خلال العمل على توفير العديد من الأساسيات التي تساعد في تحسين وضع المرأة، إلى جانب مساعدتها في فتح مشاريع خاصة تجعلها تستقل ماديًا في دخلها".
تعود ساندي بذاكرتها لبعض الحملات التي تم تنفيذها من قبل "فكر بغيرك" وتستذكر مشاعر الفرح التي استطاع متطوعو الحملة رسمها على وجوه الأطفال من خلال عدة فعاليات مثل أعياد ميلاد للأطفال، وتوفير العديد من احتياجات كبار السن مثل الكراسي المتحركة، وتضيف: "لهذا الوقت ما زلت احتفظ بمشاعر الفرح لأحد المسنين بعد توفير كرسي متحرك له بعد وقت طويل من المعاناة". وتختم ساندي بقولها:" قرحة العطاء هي أجمل فرحة خصنا الله بها، ففي كل نشاط اجتماعي تقوم به الحملة نفرح نحن المتطوعين أكثر من العائلة نفسها".

ومنذ سبع سنوات، تنشط المتطوعة شروق الميمي "٢٨عامًا" مع الحملة، بعد انضمامها لها مصادفةً بفضل موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" حين رأت نشاطات الحملة. وتوضح أن "فكر بغيرك" عملت على تقوية الجانب الاجتماعي من شخصيتها، وشكلت شبكة معارف واسعة لديها، إلى جانب شعورها بتحقيق ذاتها من خلال رسم البسمة على وجوه الأسر المحتاجة والمتعففة.
وتؤكد شروق، أن الحملة كانت على سعي دائم لدعم المرأة خصوصًا، لا سيما أنها تُشكل مصدر الدخل الوحيد في بعض العائلات، لذا سعت الحملة إلى دعم مشاريع المرأة الخاصة تحديدًا في الأسر التي كانت تشكل المرأة فيها مصدر الدخل الوحيد. وتأمل شروق أن تكبر الحملة أكثر وتصبح جمعية مسجلة تستطيع أن تجمع التبرعات المالية وتصبح قادرة على سد احتياجات أعداد أكبر من العائلات المتعففة من خلال زيادة الدخل.