بنفسج

مريمة وأم سعد وشهرزاد: أعمال أدبية أنصفت المرأة

الثلاثاء 07 يونيو

صورة المرأة في الرواية العربية
صورة المرأة في الرواية العربية

بعض النصوص تخلّد أصحابها، فتكسبهم صوتًا، صادحًا، قويًّا، شديد الشبه بالواقع، شديد الأثر على القارئ. وترسمهم في صورة واضحة المعالم، بيّنة المفاهيم، تتجلّى فيها الشخصيات مجسّدة للمبادئ والقيم المختلفة، مؤطّرة لسياق الرواية من المقدمة إلى الخاتمة، لدرجة جعلت بعض النقّاد الروائيين يميلون إلى اعتبار الرواية شخصية، فنكاد نجزم بعدها أنّ هذه الشخصيات مع كل التجلي الذي تحدثه في النصّ هي ضرب من كيان، هي ضربٌ من حقيقة. والواقع أن قوة هذا التجسيد في البناء السرديّ، وقوة تصويره من خلال ربط الخيوط بين ما هو تخيليّ، ينسجه عقل الأديب أو الشاعر، وبين ما هو حقيقيّ، بيّن، لا مرية فيه هو ما يمنح هذه الشخصيات صفة الخلود عبر الزمن، ويرسخّها بكل كينونتها وتفاصيلها في ذهن القارئ، لتصبح ذات حضور بارز في الحقل الأدبيّ، والواقعيّ، وحتى في أحداث الحياة اليومية: يستشهدون بها، ويستذكرون محطاتها، ويقيّمون بعض المواقف بناء عليها.  الحديث بشكل خاصّ أدقّ عن تجلّي المرأة بين سطور هذه النصوص؛ صورة المرأة في الرواية العربية تحديدًا، وحضورها كشخصية محورية ذات دور فعّال، رساليّ، تشكّلها قطع فسيفساء من زوايا مختلفة، وترسمها على أساس أنّها القضيّة المركزيّة: منها المبتدأ وإليها المنتهى، في ساحة تجتمع فيها شهرزاد، وأم سعد، ومريمة، وغيرهنّ، ممّن نعرف ولا نعرف. لكلّ منهنّ ملحمة خاصة، تقصصنها على الملأ، لكلّ منهنّ بطولة فريدة تنقلن عِبرها للآخرين، لكلّ منهنّ حكاية... تستحقّ أن تروى. 

| في "ثلاثية غرناطة": كانت مريمة تغالب زمانها

صورة المرأة في الرواية العربية
 
مريمة امرأة من طرازٍ خاص، أخضعت الهزيمة تحت قدميها، ولم تستسلم، وتجرّعت مرارتها بشموخٍ تلك الأشجار: أشجار الرمان، وأشجار الزيتون، ولم ترضخ.
 
وذاقت مرارة الحزن، والألم، والخسارات المتتابعة، ولم تنطفئ.  شهدت أكبر ملحمة شتات في القرن الخامس العشر، بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الأندلسيين في إسبانيا سنة 1492م، وسيطرة القشتاليين عليها.


مريمة امرأة من طرازٍ خاص، أخضعت الهزيمة تحت قدميها، ولم تستسلم، وتجرّعت مرارتها بشموخٍ تلك الأشجار: أشجار الرمان، وأشجار الزيتون، ولم ترضخ. وذاقت مرارة الحزن، والألم، والخسارات المتتابعة، ولم تنطفئ.  شهدت أكبر ملحمة شتات في القرن الخامس العشر، بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الأندلسيين في إسبانيا سنة 1492م، وسيطرة القشتاليين عليها، وبدءِ فصل مأساة جديد مذيّل بحروب الاسترداد المطاردة للمسلمين، مع كلّ ما رافقها من ترحيل، ومساس بالهويّة، وإخضاعٍ للقهر وحكمٍ بالتشتيت الأبديّ. 

نحن الآن في حيّ البيازين، أشهر أحياء غرناطة الخالدة، وتحديدًا في منزل أبي جعفر الورّاق، حاضن العائلة المرموقة ميسورة الحال، الذي جعلت منه "رضوى عاشور" مسرحًا مهمًّا تجري بين جدرانه مواقف كثيرة من روايتها، وتخلّد رموزًا حيّة لشعب منكوب، فقد كلّ ما عنده، ولم يتبق بين يديه سوى فتات من مغالبةٍ للزمن، وفتاتٍ من أمل. لكنّ مريمة المتمرّدة، الذكيّة، الفطنة، كثيرة الحركة، التي دخلت ذلك المنزل كزوجةٍ لحسن حفيد أبي جعفر الورّاق، لم تسمح للقشتاليين أن يغتصبوا من قلبها بذور الأمل، وأن يسكتوا الصّوت الصّارخ بشدّة داخلها. مريمةُ لم تعترف بالهزيمة، بل قرّرت أن تعيش أجواءها بطريقتها الخاصّة، وأن تستمرّ في المقاومة حتّى الرمق الأخير. 

ثلاثية غرناطة

وحينما أصدر الملك فيليب الثالث مرسوم ترحيل الموريسكيين الأندلسيين من إسبانيا سنة 1609، كانت مريمةٌ قد تعلمت القراءة والكتابة، وأنجبت ابنتها "رقية"، وازدادت تمسّكًا بتراب هذه الأرض المخضبّة بروائح الخزامى وعروق الزيتون، وازدادت فطنةً وحكمة، فلم تتقبل على إثر ذلك حقيقة الرحيل من أرض الوطن، من هذه الأرض التي وجدت قبل وجودنا، وامتدّت إلى أن فتحنا أعيننا عليها، فكان اللقاء الأول بها، وكانت هي أمّ البداياتِ، أم النهايات. فنادت مريمة في أهل المنزل منكرةً: "لا نرحل! الله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكنه إلّا جسده... لن أرحل لأنّ اللسان لا ينكر لغته، ولا الوجه ملامحه". فنظر إليها أهل المنزل باستغراب وتعجّب من فطنتها، وقرّروا البقاء. 

مريمة كانت كذلك، بشكل أو بآخر، حارسة الأندلس، وحارسة الذاكرة. تراها من بعيد وهي تخادع الجنود القشتاليين، بحيلتها، ودهائها وتنقذ أبناء جلدتها من بطشهم، فيصرخ صبيّ أندلسيّ مدفوعًا بطيش الصغر أنّه مسلم وأنه فخور بذلك، وتنجح هي بأعجوبة في أن تفلته من مخالب العقاب. كيف ذلك؟ تلك هي مريمة، وتلك شجاعتها؛ بعضُ الأفعال لا نحسن أن نجد لها تفسيرًا. 


اقرأ أيضًا: عندما يكون الرحيل شخصيًا: عن وإلى رضوى عاشور


ولما فرض الإسبان مراسيم تحرّم الاحتفاء بمختلف المناسبات على الطريقة الإسلامية، والتحدث باللغة العربية، وممارسة الشعائر الدينية، وخروج المرأة بالحجاب، وارتداء اللباس التقليدي الإسلاميّ، وغير ذلك، كانت مريمة في كل مرة تجد منفذًا لتفلت من هذه القوانين الظالمة، فتعلّم حفيدها عليًّا اللغة العربية سرًّا، وتشتري خروفًا لتحتفل بمناسبة إسلامية، وتخبّئ مخطوطات أبي جعفر الوراق النادرة في مكان قصيّ بعيدًا عن أعين القشتاليين، وتمارس تمرّدها ذلك بكلّ عنفوان، بكلّ عزيمة رغم أنف القيود.

صورة المرأة في الرواية العربية
رضوى عاشور

 

وحين كبرت مريمة، صارت تبيع الكعك في السّوق كأنما تريد بذلك أن تنشر البهجة رغم كلّ شيء. لم تخف عن مريمة ملامح الهزيمة، بل تجرّعتها هي الأخرى وذاقت من ويلاتها، لكنّها قرّرت أن تنكسر عوض أن تنحني. "ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ! ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلًا مزجّجًا أو ملونًا لكي يتحمّل عتمة أيامه؟ ما الخطيئة في أن يتطلع إلى يوم جديد آملًا ومستبشرَا؟" 

ثلاثية

انكسرت مريمة حينما قرّروا اقتلاعها من أرضها، وأصرّوا على رحيلها هي الأخرى، فلم يعد اسم العائلة المرموقة ينفعها في شيء، ولم يعد يحميها من الرحيل. انكسرت مريمة في هذه اللحظة، لحظة التجهز لمغادرة غرناطة؛ لم تتحمل فكرة أن يغادر المرء قطعة من فؤاده، ولاقت أجلها، فهل انتصرت؟  انتصارات مريمة تجلّت في أنّها علاوة على كونها لم تتقبل الرضوخ بأيّ شكل من الأشكال، إلا أنّها نجحت كذلك في أن تقضي آخر لحظات العمر على تراب الأرض التي أخذت بمجامع قلبها منذ الولادة وحتى الفناء، وتلك هي - بنظري- أعظم الانتصارات. ألا "لا وحشة في قبرك يا مريمة"!

| في "ألف ليلة وليلة": كانت شهرزاد تنسج خيوط الحكاية

صورة المرأة في الرواية العربية
شهرزاد الحكّاءة الأكثر سحرًا في التاريخ، والمرأة التي نجحت في أن تنقذ نفسها من مقصلة الملك شهريار بفضل فطنتها وبراعتها في السّرد، وتتّبع المكامن الإنسانية في الحكاية، وخلق الفضول والترقب لمعرفة القادم من القصة. وهي النموذج الإيجابيّ لامرأة قرّرت المقاومة، والوقوف في وجه سلطان جائر.
 
أبدت شهرزاد شجاعة منذ اللحظة الأولى، ووقفت في وجه الموت؛ فحينما رأت والدها الوزير هائمًا على وجهه لا يدري من أين سيحضر للملك امرأة أخرى، قرّرت أن تقف هي في فوهة المدفعة، وأن تخوض التحدّي، فإمّا موت وسلسلة لا منتهية من قتل البريئات، وإمّا نجاة وحقن لدمائهنّ.
 


شهرزاد الحكّاءة الأكثر سحرًا في التاريخ، والمرأة التي نجحت في أن تنقذ نفسها من مقصلة الملك شهريار بفضل فطنتها وبراعتها في السّرد، وتتّبع المكامن الإنسانية في الحكاية، وخلق الفضول والترقب لمعرفة القادم من القصة. وهي النموذج الإيجابيّ لامرأة قرّرت المقاومة، والوقوف في وجه سلطان جائر، واجهت قوته بالذكاء، وبطشه بالفطنة، ونجحت في إغوائه بالحكاية عوض الجسد، ولم تتقبّل النهاية التي حلّت بمن سبقنها، فاتّخذت موقفًا، وسطّرت طريقها.

في كلّ ليلةٍ من هذه الليالي الألف، يرفع السّتار وتستهلّ هي فصلًا جديدًا من فصول أيامها المعدودة، لا تدري بعده هل ستبقى على قيد الحياة، أم سيغيبها الموت كما غيّب سابقاتها، تقول له: "بلغني أيها الملك السّعيد"، وتبحر به عبر سفينتها في حكايات الجنّ والإنس، والملوك والعبيد، والقوى الطبيعية، والقوى الخارقة، ومدن كانت، ومدن لم تكن، وتنقله إلى البصرة، والكوفة، والقاهرة، ودمشق وغيرها من الأمصار، وعندما يدركها الصباح، تسكت عن الكلام المباح. 

ألف ليلة

أبدت شهرزاد شجاعة منذ اللحظة الأولى، ووقفت في وجه الموت؛ فحينما رأت والدها الوزير هائمًا على وجهه لا يدري من أين سيحضر للملك امرأة أخرى، قرّرت أن تقف هي في فوهة المدفعة، وأن تخوض التحدّي، فإمّا موت وسلسلة لا منتهية من قتل البريئات، وإمّا نجاة وحقن لدمائهنّ: "بالله يا أبتِ زوّجني هذا الملك، فإمّا أن أعيش، وإمّا أن أكون فداءً لبنات المسلمين، وسببًا لخلاصهنّ من يده"، وحينما طلب منها والدها ألا تخاطر بنفسها، شعرت تلقائيًّا بحسّ المسؤولية الملقى على عاتقها وأجابت: "لا بدّ من ذلك". فجهاد شهرزاد كان –إن صحّ القول- جهادًا بالكلمة في وجه الظلم والبطش، جهاد من أراد تغيير المنكر، فلم يجد سبل اليد، فعمد إلى اللسان. 

والحديث هنا بمثابة ردّ الاعتبار لصورة هذه المرأة التي انتشرت بشكل سيّء في الذاكرة الجمعية للوطن العربيّ وارتبطت بالجواري، والجسد، والعبودية، والممارسات الجنسية، في الوقت الذي اعتبر فيه الفلاسفة والأدباء الغربيون كفولتير، وبورخيس، وبروست قصص ألف ليلة وليلة، وحكايا شهرزاد من أعظم ما خُطّ في تاريخ الأدب، إلى درجة جعلت بورخيس يحاول تعلم اللغة العربية ليقرأ ما قالته شهرزاد بالحرف الأصليّ بعيدًا عن الترجمة، ويستشعر معانيه.

الف ليلة

واتخذت دلالات قصتها عند الأوربيين منحًى خاصّ، عبر عنه "علي عشري زايد" في كتابه: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، فقال: "ترجيح العاطفية على العقل في الاهتداء إلى الحقائق الكبرى؛ إذ إن شهرزاد قد هدت الملك إلى إنسانيته، وردّته عن غريزته، لا بواسطة المنطق، بل بالعاطفة، فصارت رمزًا للحقيقة التي يعرفها الإنسان عن طريق هذا الشعور والحبّ".  شهرزاد لم تكن مجرّد جارية ساذجة، ساقتها الأقدار إلى موقف لا حول لها فيه ولا قوة، بل كانت قصصها وحكاياها تنمّ عن إحاطة واسعة بعلوم الطب، والفلك، واللغة، والجغرافيا، وقد جاء في مقدمة كتاب ألف ليلة وليلة وصف لها، ولما حازت عليه من علم وفطنة: "وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب، والتواريخ وسير الملوك المتقدمين، وأخبار الأمم الماضيين. 

قيل أنّها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء، فقالت لأبيها: مالي أراك حامل الهمّ والأحزان وقد قال بعضهم في المعنى شعرًا: قل لمن يحمل همًّا     إنّ هما لا يدوم.. مثل ما يفنى السرور    هكذا تفنى الهموم.  ويبدو أن شهرزاد قررت بعدها أن تضع بنفسها حدًّا لهذا الهمّ. يقولون: "في داخل كل قارئ يغفو شهريار"، وأقول: في داخل كلّ حكّاءٍ، تغفو شهرزاد. 

| في "أم سعد": كانت أم سعد تنجب الفدائيين 

صورة المرأة في الرواية العربية
 
نشر غسّان كنفاني صاحب الروح الثورية روايته عن أمّ سعد، فأهداها لها: هو حديثٌ من أمّ سعدٍ إلى أمّ سعد؛ هذه المرأة التي سلبت كيانه وبصّرته بالكثير من الأشياء، وعرّفتنا نحن بدورنا بمعنى أن تتجلى فلسطين في صورة امرأة أربعينية "قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر" ذات معين لا ينضب ونَفَسٍ لا يخمد.
 
 فيهديها الرواية قائلًا: "إلى أم سعد، الشعب المدرسة" محدّدًا وجودها باعتبار أنّها انعكاس لكفاح شعب بأكمله، ذاق طعم الهزيمة، وظلّ يقاوم ويدفع عنه تداعياتها، وأنّ ما تعلمنا إياه بكلامها وصمتها، وكيانها يعادل ما نتعلمه في المدارس، بل وأكثر ! ففي المدارس، لا يخبروننا كيف يحيا المرء بكرامة.


نشر غسّان كنفاني صاحب الروح الثورية روايته عن أمّ سعد، فأهداها لها: هو حديثٌ من أمّ سعدٍ إلى أمّ سعد؛ هذه المرأة التي سلبت كيانه وبصّرته بالكثير من الأشياء، وعرّفتنا نحن بدورنا بمعنى أن تتجلى فلسطين في صورة امرأة أربعينية "قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر" ذات معين لا ينضب ونَفَسٍ لا يخمد؛ فيهديها الرواية قائلًا: "إلى أم سعد، الشعب المدرسة" محدّدًا وجودها باعتبار أنّها انعكاس لكفاح شعب بأكمله، ذاق طعم الهزيمة، وظلّ يقاوم ويدفع عنه تداعياتها، وأنّ ما تعلمنا إياه بكلامها وصمتها، وكيانها يعادل ما نتعلمه في المدارس، بل وأكثر ! ففي المدارس، لا يخبروننا كيف يحيا المرء بكرامة.

صورة المرأة في الرواية العربية
غسان كنفاني

يقول عنها في مقدمة روايته: "أكاد أجزم أنّ كل حرف جاء في السّطور التالية إنما هو مقتنص من شفتيها اللّتان ظلتا فلسطينيتين رغم كلّ شيء، من كفّيها الصلبتين اللتين ظلتا رغم كل شيء تنتظران السلاح عشرين سنة".  أم سعد امرأة أبية حرّة، كافحت طويلًا مأساة المخيمات وتعاستها، وكل التمزّق فيها، وصبرت من دون أن يهتزّ حبّها للوطن، وإيمانها بالحقّ. تنبع من كفيها رائحة الزيتون، ومن نظراتها عزيمة الحرية، ومن كلماتها الثبات على الأرض، وتفوح عند دخولها إلى الغرفة رائحة الريف، وتبث الأمل والصمود شأنها بذلك شأن جميع النساء الفلسطينيات، أمّ سعدٍ "تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ".

صورة المرأة في الرواية العربية

إننا نلتمس في كل ذلك أملًا ثوريًّا فدائيًّا يتصاعد في النفس شيئًا فشيئًا ليصبح حقيقة وخيارًا لا مفرّ منه، "إلى أين يذهب سعد؟ إلى الثورة، إذا لم يذهب سعد فمن سيذهب؟" لقد أصبحت الثورة عقيدة، وصار رحم أمّ سعد منبعًا للفدائيين الذين يذودون عن تراب الوطن؛ إذ لا معنى لكلمات السلام والتفاوض والهدن مع المغتصب، ويبدو أنّ أم سعد سمعت كلمات أمل دنقل: أترى حين أفقأ عينيك ثمّ أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ تلك أشياء لا تشترى. فقالت له: لا فضّ فوك! 


اقرأ أيضًا: الفلسطينية الحاضرة في رواية " أم سعد": أنا هون يمه!


أم سعد لا تفقه شيئًا فيما يكتبه المثقفون، ولا ما يخطّه الكاتبون، هي تؤمن أنّ البندقية هي السبيل الوحيد نحو الكفاح، هي تعلم أنّ المدافع كما قال مفدي زكريا تأبى صوغ الكلام، إذا لم يكن من شواظ وجمر، ولذلك حينما توجه إليها غسّان بالسؤال عن رأيها أجابته: "أنت تكتب رأيك، أنا لا أعرف الكتابة، ولكنّي أرسلتُ ابني إلى هناك، قلت بذلك ما تقوله أنت، أليس كذلك؟". 
أمّ سعد تبث ترانيم الخضرة رغم كل الظروف، وكما يقرّر غسّان أن يختم الرواية بعود جافّ، اخضرّ واجتاحته تراتيل الحياة، يأتي صوت أمّ سعدٍ مشبعًا بالأمل: "برعمت الدالية يا ابن العم... برعمت". 

| الختامُ في شعر درويش: خديجة لا تغلقي الباب! 

صورة المرأة في الرواية العربية

"خديجةُ لا تدخلي في الغيابِ"، لا تصمتي، لا تلزمي مناطق الظلّ، والزوايا الرمادية التي لا تُبينُ شيئًا ولا تخفي، لا تصيبنّك الرصاصات الغادرة ولا تخيفنّكِ، ولا تقهرنّك تقلبات الزمن: خديجةُ الانعكاس لكلّ مجاهدة صبورة، تقف في وجه المأساة، وتتجرّع علقم الشجن. خديجةُ المرآة لكلّ امرأة عبرت الأزقة الفارغة، المحمّلة بالجثث، والخساراتِ، وحيدةً تحمل همّ الترقّب على أبواب السّجون، خديجة التجلّي لكلّ نجمة بزغت في سماء الانتصار تحمل راية الظفر، وتتفقّد محطّات الوصول، خديجة الانبعاثُ في كلّ فلاةٍ، معتّقة بالجفافِ، محمّلةٍ بالسراب "خديجة لا تغلقي الباب خلفكِ، لا تذهبي في السّحابِ". خديجة وحيُ الأماني، وملحمة الأمنيات، وغيثُ الصحاري، وأسطورةُ الحبّ والورداتِ. خديجةُ وجهُ الأراضي، وحارسةُ الأرضِ والذكرياتِ، "خديجةُ لا تغلقي البابَ... لا تدخلي في الغيابِ".