بنفسج

"وحوي يا وحوي": إشراقة الروح يا رمضان

الأربعاء 13 ابريل

لأن رمضان يأتي مرة كل عام، تكون ذكرياته مميزة وتفاصيله لا تغيب عن البال. "وحوي يا وحوي إياحه... روحت يا شعبان إياحه وحوينا الدار جيت يا رمضان... وحوي يا وحوي إياحه".

يُحكى أن الملكة إياح حتب حكمت مصر عند قدوم الهكسوس، فأرسلت زوجها لهزيمتهم، فقُتل، ثم أرسلت ابنها كامس، فُقتل هو الثاني، وأخيرًا دفعت ابنها أحمس للحرب، فتمكن من هزيمتهم وطرد الهكسوس من مصر، وحين عودتهما استقبلهما المصريون بهتاف باللغة الهيروغليفية "وحوي يا وحوي إياحة". هذا الهتاف استلهم الشاعر حسين المانسترلي، وجعلها مطلع للأغنية معبرًا عن استقبال المسلمين لرمضان.

تحتلّ هذه الكلمات الهيروغليفية شاشات التلفاز، معبرة عن استقبال رمضان، استعارة عن استقبال المصريون القدماء للملكة وابنها، رغم أن هذه الكلمات تنتمي إلى العصر الفرعوني، وصدور الأغنية في ثلاثينيات القرن الماضي، فلا تزال وليدة اللحظة على مر الأجيال، لأنها صنعت البهجة التي ترد الروح الرمضانية إلينا.

إن رمضان.. فرصة لترميم حُطام الروح، بعد أن شابت بنا الأشهر الماضية أعوامًا وأعوامًا حتى كادت تدفن أرواحنا، يتجدد شباب الروح في رمضان، فترحل روح العجوز التي لا تقوى على المزيد من المتاعب والضنك. تشعر بأن كل الأمور تتخذ موضعها المناسب في توقيتها المناسب، فتقول يالحكمة الله في جعل هذا الشهر يأتي في هذا التوقيت من العام، فثمة فرج قريب عن أمورٍ ضاق حالها وانعسر حلها، وفوّضنا أمرها للخالق. حينما يأتي رمضان نرى نور الله الذي يملأ تشققات أرواحنا، المسرات وهي تطرق بابنا مجددًا، والندوب التي صعبت علينا مداواتها، نقاء الأيام وهدوئها.

هذا الهدوء التي احتجناه في الأشهر الماضية بعدما نالت منا الحياة ما نالت، فعادت النفس ترتب أدراجها في شيء من الهدوء والسكينة، بعد ركضها أشهرًا وأشهرًا من الألم والتيه والخذلان، وكأنها وجدت ملاذها وحصنها المنيع في هذه الأيام، ترى فراق الأحبّة انقشع، والحزن الذي لا يُنسى، وبات همًّا أصبح على أرشيف الذاكرة تأكله الغبار. رمضان فرصة لانتزاع الظلام والشر بداخلنا، وإعادة ترتيب الفوضى التي تعترينا، فرصة للتسامح مع أنفسنا وتطهيرها وبناء روح مسالمة، فرصة لتحسين علاقتنا بالله والاقتراب منه أكثر.

في رمضان نرى الخلق وهم يرتدون من الخير جِلبابًا، الصدقات التي تسكب الفرح على قلوبهم، وموائد الرحمن، والسلات الرمضانية، تشعر بالأمان لمجرد أننا لا زلنا نتذكر من هم أحوج منا حالًا، بأن لا نجعل الأنا تدخل بيننا وبين غيرنا من الفقراء والمساكين.

شيء من الأُنس في التجمعات العائلية حول مائدة واحدة قبل أن تفرقهم ظروف العمل والدراسة من جديد، صوت آذان المغرب معلنًا انتصارنا عن قهر الجوع والعطش طيلة اليوم، حتى يأتي التراويح فتمتلئ الجوامع بصوت المشايخ، وينتشر صداها إلى داخل البيوت، وما انتهينا من التراويح حتى يعود الباعة إلى متاجرهم، فتزدحم المارة في الشوراع والأسواق هنا وهناك، هذه المظاهر عادة تكون غير مألوفة عن غيرها من الليالي، فنجد في أيام غير رمضان تقفل المحلات فور صلاة العشاء، فيكون نصيبنا من التسوق وتجمعات الأصدقاء في التوقيت الليلي من رمضان. وما إن جاء الثلث الأخير من الليل حتى نقيمه بالصلوات وابتهال الدعوات، فنشعر كأنّ نسمة باردة تلامس قلوبنا المتعبة بأنه سيستجيب، ومانرجوه سيتحقق مهما طال انتظاره.


اقرأ أيضًا: رمضان الصيام: كيف يكون هذا الزمان مبـــاركًا؟


في رمضان نرى الخلق وهم يرتدون من الخير جِلبابًا، الصدقات التي تسكب الفرح على قلوبهم، وموائد الرحمن، والسلات الرمضانية، تشعر بالأمان لمجرد أننا لا زلنا نتذكر من هم أحوج منا حالًا، بأن لا نجعل الأنا تدخل بيننا وبين غيرنا من الفقراء والمساكين. شعرت برمضان حين وجدت أحد العجائز وهي منهمكة في اتصالات لا مفر منها، تتصل بفلان وترسل لفلان، وإذ بها تقوم بإرسال سلات رمضانية ومبلغًا ماليًا لإعالة الفقراء، بل وحين أنهت مكالماتها سألتني إن كنت أعرف أحد محتاج، فلم يكفها من أرسلت إليهم. حينها استشعرت الآية: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.