بنفسج

الأولى ثم الثانية: كيف لطفلة أن تثور على كلمة؟

الإثنين 27 يونيو

كنت فتاةً في السادسة من عمرها، وحيدة ومدللة، لكن جريئة وذات حضور. في سنتي المدرسية الأولى "الصف الأول الابتدائي" لطالما استفزني زميلي ابن معلم اللغة العربية بتفاخره بوالده، وكذا فعل ابن معلم الاجتماعيات، كما ضايقني أيضًا تباهي ابنة مدير المدرسة بزياراتها المتكررة لمكتب والدها، وأنا لست في نظر نفسي سوى ابنة مزارع بسيط. لكن سرعان ما تغيرت نظرة هذه الطفلة البريئة لنفسها عند استلمنا شهادات الصف الأول، فقد أصبحت ضمن مجموعة متفوقين زينت شهاداتهم كلمة "الأولى، الأول".

تشابكنا الأيادي وسرنا في الساحة كموج هادر لا فارق بيننا نحن الأوائل. أما الشعور الأروع؛ فهو زوال ميزة أبناء المعلمين الذين أخفقوا في الحصول على تلك الكلمة الذهبية. وجاءت السنة الثانية ولم تزل نشوة النصر الذي حققته نهاية الصف الأول تلازمني، حتى جاء موعد تسلّم الشهادة، تلك اللحظة لا تزال محفورة في ذاكرتي رغم مضي ما يزيد عن أربعين عامًا. لم أقرأ أية علامة في شهادتي، بل نظرت مباشرةً لأسفل الشهادة لتصعقني كلمة المـرتـبة "الثانية"، وجاءت الصعقة الثانية عند رؤية زميلي ابن معلم الاجتماعيات يرقص فرحًا لأنه كان في المرتبة الأولى.

حملت شهادتي وركضت صامتة إلى أن وصلت المنزل، كانت والدتي تعد الطعام، تجاهلتها ورميت نفسي على السرير ودخلت في نوبة بكاء هستيرية، تمكنت والدتي بعد محاولات من فهم القصة وكانت الجملة الوحيدة التي رددتها "يلعن أبوهم حطوله الأول لأنه ابن الأستاز وأنا أبوي مش أستاز، ولا مرة غلطت ولا مرة جاب علامة أحسن مني ليش هو الأول؟".

حملت شهادتي وركضت صامتة إلى أن وصلت المنزل، كانت والدتي تعد الطعام، تجاهلتها ورميت نفسي على السرير ودخلت في نوبة بكاء هستيرية، تمكنت والدتي بعد محاولات من فهم القصة وكانت الجملة الوحيدة التي رددتها "يلعن أبوهم حطوله الأول لأنه ابن الأستاز وأنا أبوي مش أستاز، ولا مرة غلطت ولا مرة جاب علامة أحسن مني ليش هو الأول؟". استمرت هذه الحالة لساعات، حاول فيها والدي رحمه الله بعد عودته إلى المنزل تهدئتي وإقناعي بتناول الطعام لكن دون جدوى.

لن أنسى موقف والدي حين أمسك بيدي وأخذني سيرًا إلى المدرسة في منتصف يوم حار. دخل غرفة المدير وأخبره بما حدث، واتفقا على شطب كلمة "الثانية" باللون الأحمر وتغييرها إلى "الأولى". لقد وثق والدي بي، ووقف إلى جانبي، وأشعرني أنه يؤمن بأنني استحق هذه المرتبة، وأنني لا يجب أن أتنازل عن حقي حتى أمام مدير المدرسة.

فعليًا لم تتغير العلامة، ولا المرتبة، ولكن أنا من تغير! شعرت بقوتي وقدرتي على استعادة حقي، شعرت بثقة والدي ومساندته. ومن ثم ذهبت مباشرة لدكان العم أسعد، رحمه الله، واشتريت البسكويت والحلقوم "الراحة" ووزعتها على الرجال المجتمعين على دوار القرية، ووالدي من خلفي يخبرهم سبب توزيعي "الحلوان". ثم ركضت لوالدتي فرحة وجائعة ومنتصرة لا تسعني الأرض ولا السماء.


اقرأ أيضًا: إلى آبائنا الرائعين: نحبكم كما أنتم


لم يغيّر والدي التاريخ بتغييره هذه الكلمة، وما كان يريد بهذا الدعم سوى رسم البسمة على وجهي، لكنه لم يعلم أنه بهذه الخطوة البسيطة رسم ملامح شخصيتي وأعطاني درسًا، وحدد لها نهج حياة. قد نستهين بردود أفعالنا كأمهات وآباء، ونجهل أن هذه الردود والأفعال البسيطة قد تغدو معالم في طريق أبنائنا. كأبوين، لا نحتاج سوى لضبط ردود أفعالنا، ووزن كلماتنا، والتحلي بالقليل من الصبر.

فإن صبرنا وتريثنا تجنبنا الندم، وإن وزنّا كلماتنا أمامهم تجنبنا خروج أي كلمة تجرح أفئدتهم، وتخلّف فيها ندوبًا عميقة من الصعب أن تندمل. ما زلت أؤمن أن التربية بالقدوة هي أدومها، فإن كانت سلوكياتنا سوية، وكلماتنا موزونة، وأرواحنا جميلة، انعكس كل ذلك على أبنائنا. دعم الأبناء ومساندتهم عملية لا تتوقف. حتى وإن شبوا، وتخرجوا، وتزوجوا، فلن تنتهي مهمتنا. لحسن الحظ، حاجتهم لنا سبب من أسباب تشبثنا بالحياة، ومصدر دعم وتوجيه لهم، سيبقون بحاجتنا حتى وإن خط المشيب خصلات شعرٍ متمردة بحاجة لتهذيب.

أعلم أن الأنثى تتفوق على الذكر في قضايا كثيرة، لكنها أحوج منه للدعم في فترة الطفولة والمراهقة والشباب، فإن حباها الله بمن يدعمها ويساندها لتصبح ذات عود صلب وجذور ثابتة، ستغدو شجرة زيتون رومية رغم صغر عمرها. ستصمد هذه الشجرة أمام العواصف، وستظلل من حولها وتمنحهم الثمر والدفء ولحظات لا تعوض من المحبة. حاجة الأنثى للدعم لا تنقضي، وسعيها للنصح لا يتوقف، مع ذلك، فإنها وإن أكسبتها الحياة خبرة كبيرة، ستبقى تتصرف وفق دائرة الضوابط التي تربت عليها ولمست حلاوة ثمارها في عائلتها.

أما الذكر، هذا الكائن المظلوم منذ نعومة أظافره، والمطلوب منه تقمص القوة والصلابة، -حتى لو كانت شخصيات بعضهم لا تتمتع بهذها الصفات-، فإنه يحتاج الاحتضان والحنان قبل الزجر والتوبيخ، وهو ليس أقل حاجةً للمراقبة والتوجيه من شقيقاته، ولن يكون ذا عظام صلبة وقلب شجاع وعزيمة لا تلين إن لم تتم تغذية عقله وقلبه وبدنه. كل ما سبق لن يقدمه له طرف واحد، بل الطرفان، لكن بتناغم بعيد عن التضاد والمناكفات والتناقضات.

ساعدوا أبناءكم على رسم حياتهم وتحديد ملامحها بلطف رعايتكم، وقوة دعمكم، وحكمة توجيهكم. ولا أجد خيرًا من الدعاء لهم في كل حين، فمهما كنا عقلاء، ومهما امتلكنا من مهارات وقدرات، يبقى عون المولى عزّ وجلّ، ولطفه وحمايته، خير حافظ لهم وخير معين.