بنفسج

حين الزلزلة: يزرع القرآن لا ما يزرعه السلطان

الأربعاء 01 نوفمبر

قبل فترةٍ من الزمن جالت في بالي فكرة أنّ الكثير من العلوم والأدب تذهب منّا بسبب اللغة؛ أيّ من المستحيل ترجمة كل الكتب الأجنبيةِ إلى العربية أو أن يجيد المرء كل اللغات، حتى برأيي أنه لو تمّت الترجمة من لغةٍ أجنبية إلى لغةٍ عربية لن تكون بقوّة اللغة الأم. فالترجمة تُبهتُ وتعطي النصّ ضعيفًا عكس ما كان في لغتهِ الأصلية، وقد ناقشتُ هذا الأمر مع صديقةٍ لي قبل الحرب ببضعةِ أيام، لكنّي بعد الحرب استشعرتُ بأني قد نسيتُ شيئًا مهمًا...

في أيام الحرب غبطتُ الذين يجيدون لغاتٍ أخرى كي يترجموا الواقع والمشاهد إلى لُغاتٍ أُخرى، لكنّي أدركت شيئًا أهم إيجادته في أيام الحرب ألا وهو القرآن، ذلك الكتاب العظيم الذي نسيناه في ضجيج الأيّام والحياة إيّاه! قرآنٌ لا يُذكر إلا في مناسبات الأتراح في حضور الموتى وفي أيّام رمضان! لحظة!

كيف جهلتُ أنّ القرآن الكريم العظيم بجمال بيانه وبَديع كلماته وعظيم شأنه هو أشرف من كل كتب العلوم والفلسفة والطب وعلم الاجتماع الأجنبية والعربية! والذي أُنزل بلسانٍ عربي .. كيف يمكن أن يكون ماسحًا على قلوب الثكالى وعلى قلبِ أبٍ فقد ابنه للتوّ فكانت ردة فعلهِ أن قام وصلّى ركعتين لله!

 يزرع القرآن معانيَ الإيمان حين الزَلزلة، ويربّيكَ على البذل والتضحية وأن "كل شيءٍ دونَ حين دينك عافية"، الفتى الذي يُلقّن أخاه ويقول له "يلا قول أشهد أن لا إله إلا الله .. علّي صوتك" اثنان لم يتجاوزا الثالثة عشر، لكنّهما تجرعا معنى "ولئن مِتم أو قُتلتم لئلا إلى الله تُحشرون" آل عمران 176.

 الممرض الذي يقول "اقتلوا شردوا اقصفوا ما تريدون لن نساوم ولن نحيد"، تَشَرَّب معنى "ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون" يونس 64، الرجل الذي قال "الحجر بنبنى والرحم ما دام شغال بجيب ولاد والمعنويات عالية…"فَقِه معنى". ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين الذي إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولئك هُمُ [المهتدون] "البقرة 155 

الممرضة التي خرجت تقول بكل بسالةٍ واستبشار "جوزي استـ..هد يااا جماعة "، وَعت "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خَلَوْا من قبلكم مستهم البأساء والضرّاء وزُلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرُ الله ألا إن نصر الله قريب"، البقرة 214.

ولأنّ الجنة حُفت بالمكاره والبذل والتضحية كانت التضحية غاليــة، لا تفارق عينيّ صورة اليد التي طالتها صواريخ القصف، لكنها كانت ممسكة بأقصى ما أوتيت بقوة بالقرآن العظيم وكأنها تمتثل لأمره جل وعز "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واذكروا ما فيه لعلكم تتقون" سورة البقرة 63. فبدل أن يفعلوا أهل غزّة كما فعل بني إسرائيل بالآية التي تليها [ثمّ توليتم]، فعلوا العكس واتعظوا فأمسكوه وأخذوه بكل قوةز

الطبيب الذي اشتعلت وسائل التواصل بالفيديو الذي يخصه "يوسف أبيضاني وحلو وشعره كيرلي"، أوّل ما تم التأكد من استشهاد ابنه قال : الحمدُ لله، لقد مرّ على  "المال والبنون زينة الحياة الدنيا " الكهف 64 لكنّه تجرّع  "وللآخرة خيرٌ وأبقى" الأعلى 17.

هناك الآلاف من القصص التي تبيّن مدى تأصّل العقيدة [الإسلامية] وتغلغلها في النفوس وتربية النفس إلى حينِ وقتِ الامتحان الحقيقيّ، فها نحن قد رأينا قبل بضعة أشهرٍ فقط "صفوة الحفاظ" وسرد كامل لآيات الذكر الحكيم من الفاتحة إلى النّاس، فكان القرآن له نصيب من هذه الأجيال، أجيالٌ تربّت على القرآن فثبتت أثناء الاختبار الحقيقي، قالوا بأنّ الدين أفيون الشعوب والأفيون نوع من المخدرات، يا إلهي بالله عليك الأفيون يعمل على تخديرك ويجعلك تترنح يمنةً ويسرةً ويجعلك لا تبالي بما يحدث بما حولك! بالله عليك أهل غزة وعوا بما حدث لكنهم سلّموا وهنا معنى  "يا أيها الناس ادخلوا في السلم كافة" البقرة  208.
‎فكان من ركائز هذا الدين الاستسلام لشرائع الله وما حَكَم، فكان " كُلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا (سمعنا وأطعنا)" البقرة 285. سمعنا وأطعنا استسلمنا لحكمك وقدركَ ياربّ، آمنا بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، آمنا بيوم الآخرة وأنّ هناك الحُكم الذي ليس فيه ظلمٌ ولا ضيم.

 إن لم نكن شاهدي التحرير كنا بذورًا لثمرةِ التحرير، قلنا إنّا لله بكل جوارحنا وقلنا الحمدُ  لله في أحلك الأوقات وأفجع اللحظات، تدربنا على تلك اللحظات ونحن نتلو ونحفظ حتى في سكتاتنا، آمنّا بك ورضينا بقضائك فرضّنا يارب وأبدلنا واجعلنا من المتّقين الذين قلتَ فيهم "وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين"... واجعلنا ممن دخل الجنّة بغيرٍ حسابٍ جزاءً بما صبرنا وتجرّعنا يارب!تَعلّم القرآن فلا تعلم متى تُبتلى!آهٍ يا أهل غزةَ كم جعلتمونا عرايا وزدتم الحُجّةَ علينا يوم القيامة!