بنفسج

بين رام الله وجنين: قراءة في الحيّز العام الفلسطيني

السبت 23 ديسمبر

قراءة في الحيّز العام الفلسطيني
قراءة في الحيّز العام الفلسطيني

تُنشر هذه المادة بالتعاون مع منصة إطار-حول فلسطين ومنها- وتسعى لتسليط الضوء على الروابط العلائقية بين الفن والثقافة الجمعية والشعبية، وتفكيك هذه العلاقة في ضوء السياق المجتمعي الفلسطيني، باعتبارها- أي فلسطين- مستعمرة ما بعد استعمارية، مازالت تقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 75 عامًا، كما وتأتي هذه القراءة في ظل العدوان الأخير على أهلنا في قطاع غزة إثر عملية طوفان الأقصى، العبور المقدس في السابع من أكتوبر الماضي. 

وتتخذ هذه القراءة من نموذجين "صانعو الجمال" في رام الله للفنان الفلسطيني مازن سعادة الذي تم إقامته في مدينة رام الله عام 2023، وبين "مجسم الحصان" على باب مخيم جنين عام 2002، محطًا للمقارنة، باعتبار أن العملان الفنيان ينتميان إلى مدينتين مختلفتين في الضفة الغربية، ويخرجان من خلفيتين ثقافيتين مختلفتين أيضًا، إحداهما تنتمي للسياق الفلسطيني وثقافته الجمعية، والأخرى مستوردة مسلوخة عن سياقها ومجتمعها. 

بلدية رام الله: أعمال فنية منزوعة عن السياق الفلسطيني

الكناس.jpg
"الكناس – El barrendero"، فلكس هيرناندو غارسيا، برونز، مدريد، 2001

قبل قرابة الشهرين ونيّف، وتحديدًا في الثالث من أيلول للعام الجاري، أطلت علينا بلدية رام الله بعمل فني، مستنسخًا فكرةً وتموضعًا وتكوينًا، ولكن بركاكةٍ جليّة، مأخوذة من إحدى العواصم الأوروبية - مدريد تحديدًا- لِمَا صرحت بأنه تكريمٌ لِعمّال النظافة معنونةً إياه بـِ (مجسم صانعي الجمال)، كما أشارت في موقعها الرسمي على الشبكة العنكبوتية.

واحتل مكانه بين زحام المارة في الطريق، ويظهر عليه ركاكة المادة المستخدمة في تنفيذه، التي لا تتماشى مع أبجديات العمل التي يدركها كافة النحاتين في ما يتعلق بالأعمال الفنية المتاحة للعامة، وافتقاره إلى الصلة العاطفية والمفاهيمية بينه وبين المارة ممن زاحم خطاهم في طريقهم، فلا الرجل الواقف يشبههم، ولا المنحني له، ولا تحية القبعة من ثقافتهم. فالمار بالشارع يشعر بأن أحدهم استحوذ على مساحة كانت متاحةً له أو عرقل انسيابية الحركة ما بين طرفيه، ليستوقفه تأملًا وتحليلًا واستنتاجًا بأن لا شيء يشبهني هنا. فلا عجب أن نراه وقد اقتُلع رأسه وكُسرت يده بعد تعلق أحد المارة به ليلة تركيبه، فلم يبزغ عليه صباح اليوم التالي باقيًا على حاله.

صانعو السعادة.png
"صانعو الجمال"، مازن سعادة، مواد مختلفة: رقائق نحاسية، بلاستك، فلين وغيرها، رام الله، 2023.

ونحن الذين لم نواجه أن ثمة فارق بيننا وعامل نظافة؛ فهو جزء من النسيج الاجتماعي الفلسطيني؛ يمتلك عائلة وأصدقاء وأبناء ويتلقى احترامه من المارين بالشكل الذي نشأوا عليه، فلا يتوانى أحدهم بطرح السلام وتقدير الجهود بلهجتنا الفلسطينية فيقول أحدهم (الله يعطيك العافية يا عمي )، أو يقول الآخر (ربنا يقويك يا حج)، فلم يستح الأول من مهنته ولم يقدم الثاني أي امتهان للمهنة، يجعله بحاجة لمجسم يملي عليه لغة جسد مستوردة لإظهار الاحترام.

وفي مشاهد وفعاليات عديدة تخرج علينا بلدية رام الله وكأنها بلدية لإحدى المدن الأوروبية داعية إيانا لإضاءة شمعة، أو إطلاق بالون أحيانًا أو إطفاء النور، كما كان آخرها من دعوات لإطفاء إنارة البيوت والمنشآت التجارية والشوارع بتاريخ 28-10-2023 للتضامن مع غزة، في الوقت ذاته الذي تواجه فيه حدود البلدية اقتحامات متكررة للجيش والمستوطنين، وساكنيها يوميًا يتعرضون للقتل والاعتقال والتنكيل والتضييق وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، وعلى بعد ساعة زمنية واحدة من حدود البلدية صانعة الجمال المستورد يتعرض أهلنا في غزة لأبشع مشاهد القتل والتطهير العرقي.

حصان مخيم جنين نموذج مختلف بشكل كلي

حصان جنين.jpeg
حصان مخيم جنين، عمل فني مصنوع من بقايا أشلاء معدنية خلّفها الاجتياح الإسرائيلي للمخيم عام 2002

وفي الجانب الآخر يقف حصان مخيم جنين على مدخل المخيم منذ العام 2003، وهو عمل فني صنع من بقايا أشلاء معدنية خلفها الاجتياح الإسرائيلي للمخيم عام 2002، وحملت كل قطعة معدنية صنع منها الحصان رمزية وقصة شاهدة وشهيدة على ما حل بالمخيم حينها، فمن بقايا سيارة الإسعاف المقصوفة، إلى بقايا السيارات المدنية وقطع حديدية من بيوت المخيم المدمرة، صنع هذا الحصان الذي يوجه رأسه باتجاه مدينة حيفا رمزًا لعودة سكان المخيم إلى مدينتهم الأصلية، التي تشكل الغالبية العظمى من المنتظرين في محطة المخيم لحظة عودتهم كما صرحوا على مدخله.

فلم يتعرض حصان مخيم جنين لأي اعتداء من قبل سكان المخيم أو غيرهم من زائريه طوال عشرين عامًا، وعلى العكس تمامًا من ذلك، كان هذا العمل الفني مفخرة لأهله، وكانوا يلتقطون عنده العديد من الصور في معظم المناسبات، بل جعلوه رمزًا وطنيًا، وصفة ينعتون بها مقاوميهم، ولا يتوانى أحدهم ليشرح عنه للقادمين للمخيم.

ومثما كانت مكانة هذا العمل الفني واضحة بالنسبة لأهل المدينة ومخيمها طوال فترة وجوده، كانت واضحةً أيضًا عندما اقتلعته آلة الاحتلال ونأت به بعيدًا كفعل إهالة استلابي للثقافة التي يمارسها علينا الاحتلال، كما وصفته الدكتورة نادرة شلهوب، فنالهم من الحزن ما ينالونه حين الاستيلاء على أي شيء من ممتلكاتهم الخاصة.

وفي هذا السياق، لم يكن هذا الجواد وحده ضحية لآلة التدمير الإسرائيلية، ففي العام 2017 دمر الاحتلال نصبًا تذكاريًا للشهيد خالد نزال، عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية في محافظة جنين، وخلال الحملة الأخيرة التي بدأت مع حرب 7 أكتوبر دمرت قوات الاحتلال العديد من النصب التذكارية للشهداء.

بطيخة.jpg
دوار البطيخة في مدينة جنين الذي دمرته قوات الاحتلال الإسرائيلية 

ومن أهم المواقع التي دمرها الاحتلال في جنين ما يعرف بـ "دوار البطيخة" الذي يتوسطه مجسم ضخم لثمرة بطيخ، ويعتبر مكانًا لتجمع المواطنين قبيل انطلاقهم في مسيراتهم وفعالياتهم في مناسبات مختلفة، وكذلك "دوار الأحمدين" نسبة إلى الشهيدين أحمد جرار وابن عمه أحمد إسماعي، ودوار المحكمة المعروف بـِ "دوار الشهيد إياد زرعيني"، وأيضًا "دوار الشهيد أحمد ياسين" و"دوار الشهيدة دلال المغربي" و"دوار العودة"، وسبق ذلك تدمير نصب تذكاري للشهيدة الصحافية شرين أبو عاقلة التي استشهدت بتاريخ 11-5-2022 وهي على رأس عملها في مدينة جنين.

وبقدر ما كانت هذه الميادين ومحتوياتها وعناوينها والرسالة التي حملتها وما صنعت من أجله، إلا دليلًا على تشابه المدينة بأهلها وترجمة بصرية لفكرهم، بقدر ما كان تدميرها دليلًا على جبن المحتل الذي يخاف من الفكرة، الذاكرة، الرمز، التأويل، والتمثيل الذي يصرخ به حجر حفر عليه اسم شهيد بالقدر ذاته الذي يخاف به من الشهيد المقاوم نفسه. وهذا أكبر دليل على أهمية العمل الفني المقاوم الذي يقدر على اختزال حدث كامل برموز تبقى محفورة في الأذهان، وتورث من جيل لآخر كما فعل حصان مخيم جنين على مدار عشرين عام.

مقارنة التقبل والانفتاح الثقافي بين المجتمع في جنين ورام الله

قراءة في الحيّز العام الفلسطيني 2.jpg
إن أسوأ ما يمكن أن يقدمه الفنان هو انسلاخه عن واقعه، فيفقد الفن معناه ويغيب الهدف منه

وبناء على المقارنة السابقة بين العمليين الفنيين، فمن الممكن مقارنة الشارع الثقافي في مدينة رام الله مع الشارع الثقافي في مدينة جنين، فغالبًا ما نتوقع ونلاحظ بأن الشارع الثقافي في رام الله هو الشارع القادر على استيعاب الأعمال الفنية أكثر من الشارع الجنينيّ.

وما يدعو إلى الدهشة أن حصان مخيم جنين هو فكرة لفنان ألماني متضامن الفنان توماس كبلبر، وبمشاركة عدد من فتية المدينة، ما شكل حاضنة مجتمعية للعمل، وبإشراف وتجهيز من بلدية جنين، أما العمل الفني في بلدية رام الله فهو للفنان الفلسطيني مازن سعادة، ولم يستطع سعادة ولا بلدية رام الله إنتاج عمل يربطنا به أي علاقة عاطفية أو اجتماعية أو وطنية واستطاع الألماني المتضامن ذلك.

وجاءت هذه المقارنة التي قمت بها بعد عدة تحليلات سابقة بشأن تكسير مجسم صانعي الجمال، التي عزت أسباب تكسير المجسم بالغالب لأسباب دينية أو تقنية أو ثقافية، على اعتبار بأننا شعب همجي لا يرقى للتعامل مع الأعمال الفنية، وأنا هنا لا أنفي احتمالية أن تكون هذه الأسباب محرك لبعض أعمال التخريب التي نراها هنا وهناك، ولكن لا أجدها سببًا رئيسًا ومركزيًا يمكن الارتكاز عليه في تحليل سبب الاعتداء على بعض الأعمال الفنية في رام الله، فمن الأجدى أن تتماشى أعمالنا الفنية مع ثقافتنا وصراعاتنا لتلقى ما ننتظره من قبول في الشارع، وأسوأ ما يمكن أن يقدمه الفنان لفنه أن ينسلخ به عن الواقع، فيفقد الفن معناه ويغيب الهدف الفكري للفن، ويقتصر على أهداف جمالية رومانسية حالمة في عالم موازي لا يمت للواقع بصلة، وإن كان الجمال متكاملًا، فهذا النوع من الفنون المنسلخ عن الواقع يفتقد للتكامل.

وما يدعو إلى الدهشة أن حصان مخيم جنين هو فكرة لفنان ألماني متضامن الفنان توماس كبلبر، وبمشاركة عدد من فتية المدينة، ما شكل حاضنة مجتمعية للعمل، وبإشراف وتجهيز من بلدية جنين، أما العمل الفني في بلدية رام الله فهو للفنان الفلسطيني مازن سعادة، ولم يستطع سعادة ولا بلدية رام الله إنتاج عمل يربطنا به أي علاقة عاطفية أو اجتماعية أو وطنية واستطاع الألماني المتضامن ذلك.

هذا ومع محاولة تمرير الفكر الذي يصور المواطن الصالح بأنه المواطن الذي يحافظ على النظافة، ويحافظ على الممتلكات العامة، بدون أي تقدير للانتماء الوطني أو الفعل المقاوم، ففشلت محاولات تسريب هذا الفكر للعامة لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار بأن حاوية النفايات الفارغة هي درع الوقاية الوحيد للفلسطيني الثائر أمام آليات الاحتلال، فلا فكرهم فكرنا ولا واقعهم واقعنا.

ولكن رغم كل ما يظهر على أنه رمنسة للقضية الفلسطينية (إضفاء صبغة رومانسية، واستلالًا لها من الصراع الفلسطيني، إلا أن ذلك لم ينجح. فدُمر هذا العمل الفتي الذي لا يشبهنا، في رام الله، بعد أقل 20 ساعة على تنصيبه، وصُلح، ولكنه دُمر مرةً أخرى بعد شهرين خلال مسيراتٍ غاضبةٍ كرد فعلٍ شعبي على مجزرة مستشفى المعمداني، وصمد عملٌ يحمل قضية شعبه 20 عامًا في جنين واقتلع بآلة إسرائيلية تبحث عن أي إنجاز يعيد ماء وجهها، فشتان الشبهُ شتانٌ بين ما نزيله بأيدينا وما يزالُ بفعلٍ احتلالي.