بنفسج

صوت من الشمال الصامد: الانتظار في طوابير الموت

الإثنين 22 يناير

"لو كان بكاء لبكينا ولكنه أكثر". هذا الاقتباس لا أعلم من كاتبه ولكنه يعبر عن حالتنا نحن الغزيين وقد طحنتنا آلة الحرب الإسرائيلية. ماذا يعني البكاء في حضرة ما رأيناه؟ ماذا يعني البكاء في انتظار دور الموت؟ وأنا التي لا تحب الانتظار أصلًا، أنتظر دوري في الموت، وأسأل نفسي كيف سيكون هل بغارة إسرائيلية مباشرة ستودي بحياتي على الفور؟ أم سأعاني هول الإصابة؟ هل سأموت جسدًا واحدًا أم لا؟ هل سينهال الركام عليّ وأنتظر الدور لإخراجي من بين الحجارة؟ حسنًا ولكني لا أحب الغبار! هل ستخترق القذيفة الحائط وتأتي مسرعة نحوي وتقيم حريق في المكان؟ وأيضًا أنا أخاف الحريق.

ماذا يعني البكاء في انتظار الموت؟

ماذا يعني انتظار دور الموت.jpg

كل أمنيتي في الحرب أن لا أموت هكذا، أود ميتة هادئة يشيع فيها جثماني بهدوء، أُدفن بجانب أبي وليس في أي حفرة في شارع ما مكتظ بالشهداء.إن هذه الحرب لها وقع مختلف علينا، قاسية ومؤلمة.. قهرتنا على مهل وأكثر ما يثير الجنون بها انقطاع الاتصالات والإنترنت، إنها ألعن من الحرب أن لا تعلم شيئًا عن أحبتك المتفرقين في وسط غزة وجنوبها وشمالها. حمدت الله حين عادت شبكة الاتصالات من جديد في شمال غزة، ولكنها عادت للانقطاع من جديد، وهي مقطوعة  تمامًا في الوسطى والجنوب، ففقدت الاتصال من جديد بأصدقائي هناك.

إن حودايت الحرب مريرة... حقيقة لا أعلم أي موقف سأروي: هل أبدأ من نزوحي من بيتنا تحت قصف المدفعية القوي بصوتها الهادر، وخوفي من أن تطالنا قذيفة موجهة تعي هدفها جيدًا! كنت أقول لأمي: "يما بديش أموت لسا بدي أركب طيارة". ألتفت حينها لأرى ما خلفي رأيت الركام يملأ الشارع!

وبنظرة أخرى للأمام المباني الأمامية على الأرض أيضًا. نزحنا لأقرب مدرسة في جباليا، فلم نجد موضع قدم لنا، وبنات الجيران على باب المدرسة يبكين والدهن الذي تركنه شهيدًا في المنزل... ما زال صوت ابنته يتردد في أذني وهي تقول: "يابا". لم أطل النظر كثيرًا، هربت بنظراتي خوفًا من أن تخونني دموعي وسط الحشد الكبير، وأدخل نوبة بكاء طويلة. تركتهن وغادرت البوابة للبحث عن مكان في المدرسة، وجدنا مكانًا بأعجوبة في أحد الصفوف، لا غطاء معنا ولا فراش، خرجنا على عجالة بالحقائب المهمة المعدة مسبقًا، حتى الطعام لم يتسن لنا أخذه معنا.

حواديت الحرب مريرة!

حواديت الحرب مريرة.jpg

افترشنا الأرض نحن السبعة برفقة أبناء أخي الثلاثة، فأعطتنا سيدة وقت حلول الليل بطانية وفرشة لينام عليها الصغار، كانت ليلة طويلة جدًا، نمت وأنا جالسة أستند على الحائط البارد، لم تطل أيامنا في تلك المدرسة فقد وصلت لنا دبابات الاحتلال الإسرائيلي في اليوم التالي، وانهال علينا الرصاص في الصف، كنت جالسة حينها بالقرب من الشباك الزجاجي، بمجرد سماعنا للرصاص المتناثر علينا بجنون ركضنا نحو الخارج، خرجت وأنا أقول: "والله بديش أموت لسا بدي أشوف صحابي.. طب بدي أكلم لينا أول".

هي رحلة نحو المجهول، تركنا شقيقي وأبناء عمي في المدرسة وغادرنا، بالإجبار، بمجرد أن مشينا مسافة بسيطة وإذ بالدبابات تظهر أمامنا: "أوف هي هي الدبابة صغيرة كتير"، لم تكن مثلما تخيلت!

جلسنا في الممر، ربما لنحتمي من الرصاص الموجه نحو الصفوف العليا، ورجل مصاب بنوبة هلع كان يجلس معنا في نفس الصف، يصرخ ويقول: "الدبابات وصلونا اليهود أجو يا عالم وصلونا".. فبدأ حديث النفس من جديد: "هل حقًا الدبابات بالقرب منا؟ ماذا سيحدث الآن في السيدة التي جاءها المخاض وتضع طفلها في الممر العلوي؟ أشفقت عليها جدًا! يا لها من كارثة أن يأتي المخاض لسيدة في مركز إيواء والرصاص يتطاير في كل مكان، والجنود سيقتحمون المكان الآن! لم يطل حديث النفس كثيرًا، فسرعان ما بدأ الصراخ يتعالي في الأرجاء: "الستات يطلعوا لشارع يافا والرجال يتجمعوا بساحة المدرسة".

إذن.. هي رحلة نحو المجهول، تركنا شقيقي وأبناء عمي في المدرسة وغادرنا، بالإجبار، بمجرد أن مشينا مسافة بسيطة وإذ بالدبابات تظهر أمامنا: "أوف هي هي الدبابة صغيرة كتير". لم تكن مثلما تخيلت، كنت أظنها أضخم، تمعنت جيدًا فيها ولكني لم أر الجنود على الرصيف ولا القناص، أخبرتني زوجة أخي بأننا مررنا بجانب القناص، وابنة عمي قالت لي: "ما شفتي الجنود كيف كانوا ظاهرين".

حقًا كيف لم أرهم! كان تركيزي كله نحو الدبابة أنظر للأولى ثم أنقل بصري نحو الأخرى، مشينا كثيرًا حتى وصلنا مدرسة أخرى، لم نجد مكانًا فيها سوى الدرج، لم أطق الجلوس عليه طوال الليل، فجلبت كرسيًا ووضعته في الممر بجانب ساحة المدرسة، أرتجف من البرد الشديد...

 أنظر تارة نحو أطفال أخي النائمين على الدرج، ثم أنقل بصري نحو السماء، أدعو الله فيها أن تنتهي الليلة سريعًا، تنفست الصعداء حين بزغ ضوء النهار، كنت متعبة للغاية إثر البرد الشديد وأشعر ببوادر مرض تلوح في الأفق، كنت أظن نفسي أنني بقيت طوال الليل مستيقظة، وإذ بخالتي تخبرني بأنني نمت ما يقارب الساعة أستند برأسي تجاه ركبتي، حقيقة صُدمت من حديثها وقلت: جد نمت ما حسيت ع حالي أبدًا.. طب أنا بعرفش أنام هيك!

الدبابات وصلونا: اليهود وصلونا يا عالم!

الدبابات وصلونا أجوا اليهود يا عالم.jpg
 

لم يطل حديثنا كثيرًا لأنه كان يجب علينا الخروج من حي التفاح لأن القوات الإسرائيلية تتقدم نحوه، خرجنا قبل الثامنة صباحًا نحو جامعة الأزهر سيرًا على الأقدام، لم أستطع المشي إثر حقيبتي التي أحملها على ظهري وأصابتني آلام شديدة في الظهر والرقبة، كنت أجلس على ركام المنازل بين الفينة والأخرى، حتى وصلنا إلى الأزهر لكننا لم نجد مكانًا لنا، فحملنا الأمتعة نحو الجامعة الإسلامية التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي، هي أيضًا مليئة بالنازحين، حسنًا.. المباني مدمرة أين سنجلس؟ وجدنا مبنى مقصوفًا، فيه الطوابق العليا والطابق الأرضي ما زال صامدًا، ربما يبدو أنه جنون أن تجلس في مبنى مدمر من فوقك، ومن الممكن أن ينهار عليك، لكن لا خيار آخر، فالاختيار هنا بات ترفًا.

عدنا إلى بيت خالتي في شارع الجلاء، حينما وصلنا إلى هناك اعترضت طريقنا سيدة من نافذة منزلها: "ما تقطعوا الشارع الدبابات عند صيدلية أحمد والكواد كابتر بتطخ على اللي بالشارع".

أخذنا وقتًا في تنظيف القاعة المليئة بالحجارة والزجاج، وعلى الرغم من بوادر التهاب الحلق استمريت في عملية التنظيف، وفي الليل بدأت عوارض المرض تظهر بوضوح، بدأ يتغير صوتي وآلام الصدر والوهن العام يشتد.

بقيت أسبوعًا في الجامعة الإسلامية مصابة بالأنفلونزا الشديدة، وأعتبر نفسي من المحظوظين الذين وقف الحظ إلى جانبهم، ولم يبقوا طويلًا خارج البيت، عدنا إلى بيت خالتي في شارع الجلاء، حينما وصلنا إلى هناك اعترضت طريقنا سيدة من نافذة منزلها: "ما تقطعوا الشارع الدبابات عند صيدلية أحمد والكواد كابتر بتطخ على اللي بالشارع".

بعد المشي الطويل سنبقى في الشارع لا مكان آخر لدينا، وبيتنا في جباليا، ولا أحد في المنطقة، ما زالت القوات هناك وأي فرد يدخل نحو المكان يقصف بالقذائف. قطع حديثنا رجل ما: "يا عمي اقطعو الشارع واحد واحد وجراي وادخلو العمارة". فعلنا مثلما قال وصعدنا بسلام نحو الشقة التي كانت مليئة بالزجاج المتناثر إثر إطلاق الكواد كابتر الرصاص بشكل عشوائي على النوافذ. قضينا أول ليلة، ووكنا نسمع بين الحين والآخر أصوات إطلاق نار كثيف، انتباني الخوف من صوت الرصاص القوي! يوم ثم يومان والثالث، بعدها هدأت وتيرة القصف بشكل عام في شمال غزة.

من نزوح إلى آخر

من نزوح إلى نزوح آخر.jpg

حمدت الله كثيرًا على العودة إلى البيت وأننا لم نضطر إلى البقاء في الخيام، ولكن قلبي مع صديقاتي اللواتي اضطررن للنزوح للخيام وانقطعت سبل الاتصال بهم، حينما يسقط المطر بغزارة ينقبض قلبي قلقًا على أميرة ونجلاء وكل صديقاتي اللواتي نزحن إلى الخيام ولا أعلم عنهن شيئًا "يا تُرى كيف حالهن"؟

آمل أن ألتقي من جديد بكل الرفاق بعدما فرقتنا الحرب لما يزيد عن مئة يوم، أتمنى فقط أن أبقى بأمان وطمأنينة، وأن تُبنى البلاد التي سحقها الاحتلال تمامًا، وأن أعود إلى عملي في بنفسج وإلى الرفاق هناك آلاء ونوار وصفاء وآلاء وجميلة، ولكل كاتبات بنفسج اللواتي تربطني بهن علاقة جميلة، فكل منهن لها مكانة في قلبي مختلفة، اشتقت كثيرًا لمشاكساتنا...آمل أن تُعاد أيام العمل الجميلة الهادئة والغرق من جديد وسط التقارير الصحافية، واستلام المقالات من كاتبتنا في بنفسج.