بنفسج

غزة: مدرسة مباركة ومنحة رغم المحنة

الأربعاء 20 مارس

لقد بدَّلت غزَّة كلَّ شيء، من نظرتِنا لعيشِنا، وقضاءِ يومِنا، ووقتِنا المُستَقطَعِ دون أن نصنعَ فيه شيئًا مذكورًا، حتَّى أتعَبت مَن بعدَها، وجميع مَن نادى بالصَّبرِ مع الألم. لا صوت يعلو فوق صوت الجراحِ الغائرةِ من سيلِ الدم الدائمِ هناك، إلا أن يقولَ أحدُهم قبل أن يستشهدَ نحو الجنان: «خُذ منَّا يا ربُّ حتَّى ترضى»..

ونعاودُ التفكُّر فيما قدَّمنا، لنجدَ سبيلَ الجنةِ بما لا نستطيع عليه صبرًا، سوى أن يأذنَ الله لنا برحمتِه، لنكونَ لها داخِلين، ذلك أنَّ شهداءً هنالِك، قد صعَّبوا الطريقَ علينا، بما لا نقدرُ عليه، وكانوا هُم أهلَه، فأحسَنوا، وأجادوا، وصبَروا، وصبَّروا الأقوام، من رضًى وحسنِ تسليمٍ واستسلامٍ لقضاءِ الله فيهم، بما تحارُ بع عقولُ المدرِكين، وتحترقُ لأجله أفئدةُ المنتَظرين لأن يرَوا فتحًا من الله ونصر قريب. على الحديثِ عن غزَّةَ أن يكونَ مصحوبًا بألمٍ دائم، لا أن يُعتبَر حدَثًا عابرًا، أو خبرًا عاجلًا وله انقضاء، أو تعدادًا رقميًّا خاليًا من انتهاكاتِ أروحٍ كانت هنا، بيننا، تمتلكُ أحلامًا وطموحاتٍ ومخيِّلاتٍ وأُنسَ عيش.

 فانظر للصَّبرِ منهم عند المصيبةِ الأولى، وقِس بعد ذلك ما قد أهمَّنا وأهمَّهم، وما مكدِّرات العيشِ عندنا وعندهم، وكيف ننتظر نحن الصَّباحَ الوليدَ وينتظرونَ همُ الموت، وكيف جعلنا نحن أُنسَنا الليالي الباردة، وخافوا همُ اللَّيل بطويلِ ساعاتِه، الَّتي لا يُعرَف مَن يُفقَدُ فيُطوى بعدَها..

أحداثُ غزَّة، مدرسةٌ مباركة، ومِنحةٌ نوَّارةٌ رغم المِحن، وإشراقةُ أملٍ لإعداد جيلٍ جديد، يرى فيبحث، ويتابعُ فيطرحُ الأسئلة، ويستمعُ فيدقِّق ليعرفَ حقيقةَ عدوِّه، ويعيَ دهاليزَ ما قد يُدبَّر له، فيجدِّدَ اليقظةَ في نفسِه، فما بين فقهِ البلاءِ والاستخدامِ والاستبدال، واصطفاءِ الله للشُّهداءِ وآياتِ النَّصرِ والتَّمكين، يدرك المسلمُ العاقلُ لزومَ إعادةِ توجيهِ بوصلتِه، كي لا يكونَ عالةً صفرًا، يُسلَب تاريخُه منه من حيثُ لم ينتظر.

علَّمنا أهل الصَّبرِ العزائم، وأدَّبونا من حيث لم يقصِدوا ذلك، لنعاودَ مراجعةَ جوانبَ تقصيرِنا وغفلتِنا، كي نجدِّدَ علاقتَنا بالله من بدايتِها، فنفهمَ أكثر الغايةَ من امتحانِ الدُّنيا، وبلاءِ العيشِ وجزاءِ الدارِ الآخرة، فنعبدَ الله على يقين، ونؤمنَ إيمانًا سليمًا، لا شوائب فيه، أنَّه لن يُصيبَنا إلَّا ما كتبَ الله لنا، وأنَّ الحلَّ بالقرآن، لا سبيلَ لنا غيرَه، ولا إجاباتٍ بيِّناتٍ للتصبُّر على ضِيق العيشِ إلا برحابةِ آياتِه، لا مهرَب من فتنِ التنازلِ والتبديلِ إلَّا صدًى من حديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم، يصلُنا فيُطربُنا ويؤنسُ غربةَ المسلمين..