بنفسج

أم عبدالله السيد تروي حكايات الـ 19 عامًا من الفراق

الخميس 19 مايو

خطوة ثانية، ثالثة، لم تقوَ على المشي. الأنفاس اضطربت حماسًا، القلب يدقُ حتى بات مسموعًا، وإن أنصت الكون سيسمع الدقات الرقيقة، حماس اللحظات المبهجة لا يُنسى. وأخيراً، سيتعانق الزوجان بعد سنوات وسنوات من اللقاء من خلف لوح زجاجي لعين. حروف لغات العالم أجمع لا تكفي للتعبير عن إحساس الفقد والاشتياق، لم تستطع قول كلمة واحدة من هول صدمتها؛ فبعد 16 عشر عامًا، وتحديدًا في يونيو 2017، التقت زوجة الأسير عباس السيد بزوجها. لمسته عن قرب، رأته بعيدًا عن اللوح الزجاجيّ ذي البَيْن، سمعت صوته، وسمع صوتها دون هاتف، عانقها حينها، وتمنت أن يقف العالم عند هذه اللحظة. 
وقفا جنبًا إلى جنب والأيدي ترتجف من حماسها، والعيون تلمع كنجمة تمامًا. فجأة، تعطلت الكاميرا وانتهى شاحنها، وزادت الثلاث دقائق إلى أربع، يا له من حظ، دقيقة إضافية؛ سينظران لبعضهما ويتبادلان الأحاديث.اعتُقل عباس في عام 2002 بعد مطاردة استمرت حوالي 8 أشهر، حيث تم اعتقاله في مدينة طولكرم، وقد سلّم نفسه بعد أن أحاط جنود الاحتلال المنزل الذي يحتمي به، وهدده بقصفه على رؤوس ساكنيه بالقذائف والمدفعية في حال لم يخرج.
| الزوج الحنون يُعذب
أم عبدالله السيد زوجة الأسير عبد الله السيد المعتقل في عام 2002 بعد مطاردة استمرت حوالي 8 أشهر،  التقته بعد سبع سنوات كاملة من الاعتقال، ظلّ الزوجان صامتين في البداية، ثم كسر حاجز الصمت عباس وبدأ يسألها عن الأطفال، ثم سألها عن أيام اعتقالها وماذا حدث لها، لكن سرعان ما انتهى الوقت.
 
45 دقيقة لم تكفِ لإذابة شوق سبع سنوات، ولم تُنهِ حديثها عن مشاكسات طفليه اللّذين كبرا في غيابه. وفي عام 2017 لمسته عن قرب، رأته بعيدًا عن اللوح الزجاجيّ ذي البَيْن، سمعت صوته، وسمع صوتها دون هاتف. 

الرجل الحنون، كما تصفه زوجته، لم يكن يحدّثها عن تعذيب قوات الاحتلال الإسرائيلي له؛ خوفًا من رؤية نظرة الحزن في عينيها، فيكفيها حزن السنوات الماضية. تذكر زوجة الأسير عباس لقاءها الأول عبر الزجاج بعد 7 سنوات من الاعتقال: "كان الجو حارًا جدًا، وحين رأيته كان يرتدي بلوزة ثقيلة شتوية، فسألته لماذا ترتديها؟ لم يجب، ولكن من شدة إصراري. رفع ما يرتديه، فرأيت آثار التعذيب على جسده، لم أتمالك نفسي... فبكيت". إخلاص السيد "أم عبدالله"، حاولت مرارًا وتكراراً منذ بداية اعتقال عباس أن تزوره، ولكن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن يمنحها تصريحًا. وبعد محاولات لأعوام وأعوام من قبل مؤسسات حقوق الإنسان، حصلت على تصريح.

ذهبت للزيارة مرات عدة، ومع أنها تملك تصريح الزيارة الإسرائيلي، إلا أن الاحتلال يتعمّد التنغيص على أهالي الأسرى كافة. تضيف: "بعد ساعات أقفها عبر الحواجز حتى أصل لأذيب شوقي، يأتي جندي إسرائيلي، يلتقط تصريحي قائلاً: أنت ممنوعة من الزيارة! ولم تكن تلك المرة الأولى التي يعيدني فيها جنود الاحتلال إلى منزلي".

قبل اعتقال عباس السيد بيوم واحد، تعرضت زوجته لتحقيق قاسٍ ومخيف، تذكر جيدًا عندما اقتُحم منزلها في منتصف الليل وتم اعتقالها للتحقيق معها؛ تركت بيتها وقلبها مع طفليها الصغيرين. تقول: "في غرفة يوجد بها اثنان، الأول يسألني عن مكان عباس ويحقق معي، والثاني لم يكفّ عن الصراخ ونعتي بكلام بذيء مدة ساعة كاملة".
بعد اعتقال عباس بـ 4 أيام، وبعد 8 شهور من غيابه عن عائلته؛ رأت إخلاص زوجها شاحب الوجه، مَصليّاً بآثار التعذيب. كانت زوجته طوال سنوات اعتقاله الأولى محاطة بأخبار عن التعذيب الذي يتلقاه عباس في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعن دخوله مرات عديدة في غيبوبة من شدة التعذيب، وتدهور حالته الصحية، فتسوء حالتها النفسية في كل مرة.
في تلك الزيارة، وحين التقته بعد سبع سنوات كاملة، ظلّ الزوجان صامتين في البداية، ثم كسر حاجز الصمت عباس وبدأ يسألها عن الأطفال، ثم سألها عن أيام اعتقالها وماذا حدث لها، لكن سرعان ما انتهى الوقت. 45 دقيقة لم تكفِ لإذابة شوق سبع سنوات، ولم تُنهِ حديثها عن مشاكسات طفليه اللّذين كبرا في غيابه.
| يقين وأمل
عباس يطبطب جراح  إخلاص بالأمل. في كل لقاء للزوجين يبدأ بحديثه عن الحياة في الخارج، ولكن المرة التي لم يستطع عباس أن يمنحها فيها الأمل كانت في أكتوبر عام2011 حين تمت صفقة لتحرير الأسرى الفلسطينيين "وفاء الاحرار"، وقتها هيّأت نفسها بأنه سيتم الإفراج عن عباس. 
 
وبالفعل  تحدثت لوسائل الإعلام والفرحة تغمرها والعائلة والأطفال كانوا في منتهى الفرحة، ولكن الأمور انقلبت لمنتهى الحزن ما بعد منتصف الليل حين علمت أن اسم عباس غير مدرج ضمن الأسماء المفرج عنها. 
عباس الذي حكمت عليه محكمة الاحتلال بالسجن لمدة 35 مؤبدًا و100 عام، لم يتخلّ عن أمله في الإفراج عنه. كان لديه يقين عجيب بأنه سيرى شروق الشمس وغروبها ثانية، وسيتناول حلواه المفضلة؛ ليالي لبنان، تحت ضوء القمر في ليلة صيفية. 19 عامًا مرّت ولم يفقد إيمانه وأمله. حتى في رسائله التي يخطّها لزوجته، حروفه جميعها تبيّن أنه رجل ذو معنويات عالية بالرغم من تنغيص الاحتلال عليه وعلى زملائه الأسرى. وفي جلسة مسائية في سجن ريمون، عندما بدأ كل أسير يروي قصته والأحكام التي سيقضيها في السجون، خلف القضبان اللعينة، قال عباس حين وصل دوره: "أنا طالع قبلكم كلكم".
في كثير من المرات تستاء إخلاص وتفقد الأمل، ولكنه يطبطب جراحها بالأمل. في كل لقاء للزوجين يبدأ بحديثه عن الحياة في الخارج، والسؤال عن أحوال الجميع، يتعمد أن لا يحدّثها عن أساليب التعذيب التي يمارسها الاحتلال بحقه. ولكن المرة التي لم يستطع عباس أن يمنحها فيها الأمل كانت في أكتوبر عام2011 حين تمت صفقة لتحرير الأسرى الفلسطينيين "وفاء الاحرار"، وقتها هيّأت نفسها بأنه سيتم الإفراج عن عباس ضمن الصفقة.
وبالفعل  تحدثت لوسائل الإعلام والفرحة تغمرها والعائلة والأطفال كانوا في منتهى الفرحة، ولكن الأمور انقلبت لمنتهى الحزن ما بعد منتصف الليل حين علمت أن اسم عباس غير مدرج ضمن الأسماء المفرج عنها. حوالي تسع سنوات على تلك الصدمة ولا زالت إخلاص تذكرها جيدًا، مشاعر الحزن لا تُنسى مهما مر عليها من أعوام. تذكر تماماً كيف ساءت حالتها النفسية وحالة أطفالها؛ شهر كامل وهي تطبطب جرح عبدالله ومودة اللّذين تأملوا ورسموا أحلامهم مع والدهم.
| نشتاق أبانا
لا يدخل الأسير وحده للسجن، بل يُسجن أبناؤه معه؛ حتى وإن كانوا أحرارًا في الكون الفسيح يرون الشمس عن قرب كل صباح.
 
زيارة الاسرى في السجون الإسرائيلية مرهقة لعائلاتهم. خلال السبع سنوات التي كانت ممنوعة فيها زوجة الأسير عباس من الزيارة، حرصت على إرسالهم مع أعمامهم للزيارة.
 
في يناير المنصرم  زار عبدالله والده برفقة والدته للمرة الأولى، التقى الأب بطفله الذي تركه بعمر الرابعة حتى عاد له شابًا يسأله عن سير دراسته الجامعية، ومرت الدقائق سريعة في حضرة الحب الحاضر بين الأحبة وسط سجن "جلبوع". 
لا يدخل الأسير وحده للسجن، بل يُسجن أبناؤه معه؛ حتى وإن كانوا أحرارًا في الكون الفسيح يرون الشمس عن قرب كل صباح. فالسجن سجن القلوب، كلما اشتاقوا مسحوا على جرح القلب بصورة. الأسير عباس لديه ابنة وابن لم يأخذوا العيدية في أعياد الله، لم يطفئوا شمعات أعياد ميلادهم برفقته، لم يجلسوا تحت شجرة الزيتون في ليلة هادئة.
عبد الله ومودة، كانت لهم والدتهم طوال تسعة عشر عامًا الأم والأب؛ تحمّلت المسؤولية كاملة، عاشت أربع سنوات أولى من اعتقال عباس في منزل والدها، ثم انتقلت برفقة أطفالها ليعشوا سويًا في منزل رفيق دربها، انتظارًا لخروجه سالمًا من سجون الموت الإسرائيليةتقول زوجة الأسير: " في كل تجمع عائلي، يكون الكل بلا استثناء حاضرًا إلا عباس، يجتاحني الحنين والاستياء، ولكني لا أظهر ذلك؛ أخفيه حتى لا أفسد فرحتهم، حتى وإن كان قلبهم يتمنى اللقاء".
طفلته آخر عنقوده مودّة، لم تتوقف طوال أعوام طفولتها عن السؤال عن والدها، تقول والدتها: "أذكر في يوم كنت أجهز ملابس العيد لها، وإذ بها فجأة تبكي، تريد أن يشاهد والدها ملابسها". لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي بكت فيه مودة، وفي كل مرة تحاول الأم التخفيف عن طفلتها.
عباس في كل زيارة يعلم جيدًا حجم الإرهاق الذي تتعرض له زوجته لقطعها مسافة طويلة لزيارته، يقول لزوجته في كل مرة "غلبتك معي"، ترد عليه "أنا أسعد يوم بحياتي لما باجي أشوفك... التعب بهون لما بشوفك".
زيارة الاسرى في السجون الإسرائيلية مرهقة لعائلاتهم. خلال السبع سنوات التي كانت ممنوعة فيها زوجة الأسير عباس من الزيارة، لم تحرم أولادها من زيارة والدهم، وحرصت على إرسالهم مع أعمامهم للزيارة، ولكن الأطفال كانوا يبكون بشدة ويرفضون الذهاب، فقد ظل عالقًا في ذهنهم أن الزيارة مرتبطة بالحواجز والطرق الطويلة.
في يناير المنصرم  زار عبدالله والده برفقة والدته للمرة الأولى، التقى الأب بطفله الذي تركه بعمر الرابعة حتى عاد له شابًا يسأله عن سير دراسته الجامعية، ومرت الدقائق سريعة في حضرة الحب الحاضر بين الأحبة وسط سجن "جلبوع". عباس في كل زيارة يعلم جيدًا حجم الإرهاق الذي تتعرض له زوجته لقطعها مسافة طويلة لزيارته، يقول لزوجته في كل مرة "غلبتك معي"، ترد عليه "أنا أسعد يوم بحياتي لما باجي أشوفك... التعب بهون لما بشوفك".
هذا جزء من حياة عائلات الأسرى خلف الجدران، أعمق من أن يحكى في بضعة نصوص، الأسير عباس وزوجته ومودّة وعبد الله صبروا ما يقارب التسعة عشر عامًا، وما زالوا ينتظرون أن يجلسوا تحت شجرة الزيتون معًا، ويشتموا رائحة أشجار البرتقال، ثم يأكلوا ثمارها سوياً كأي عائلة.