بنفسج

جهاد الرجبي: صوت ياسمين الشام ورصاص فلسطين

الأربعاء 25 يناير

الاسم يُحيرك؛ أهو لرجل أم امرأة! لكن صوتها قسم اليقين، ملامحها تمنحك أُنسًا، حرفها يُبكيك قهرًا وانغماسًا، تقرأها على الورق ياسمينًا شاميًا، ورصاصًا فلسطينيًا، رحبة كصحراء، ضيقة كخيمة، مزيج من الهدوء والصخب، الحزم واللين، تقبض بجمرٍ كفيها على "حُلم العودة"، انتقائية، روائية، كاتبة، ناقدة، متمرسة، قارئة  نهمة، أديبة، قاصة، وفنّانة. هي مَن قيل عنها "كاتبة للنخبة"، "قاتلة أبطال رواياتها"، في ذاكرة قلبها طُبع "لوز الخليل"، وفي ذاكرة الروح استقر "بحر غزة"، إنّها جهاد الرجبي تعرِفها من جُرح كلماتها.

| صيف فلسطين

جهاد الرجبي انفو.jpg
السيرة الذاتية للكاتبة جهاد الرجبي

طفلة في الصف الأول؛ تتسارع ضربات قلبها والمعلمة تحمل أوراق الشهادات، تجلس في مقعدها وقدميها لا تحملانها، تنادي المعلمة اسمها، فتُجيب متسائلة "أولى؟"، فترد المُعلمة بالإيجاب، تخرجُ راكضة تُلوح بشهادتها وتخاطب عيون المارة في الشوارع، وهي تردد "أولى، أولى"، وهم يتفاعلون معها مباركين مُهنئين، وهكذا حتى وصلت باب البيت. فما الحكاية؟ أصرّت أن تكون "الأولى" دون أن يطلب منها أحدٌ ذلك، فبيتهم بيتُ الأوائل، كانت تُتابع بعينين ثاقبتين يوم نال إخوانها شهاداتهم قبل أن تصعد هي السُلم، يقدمون الشِهادة لوالديهم بقولهم "الأول" كونهم أميين، تقول: "شعرت أن وجودي في هذه الأسرة يفرض عليّ أن أكون الأولى، حتى أُحافظ على احترامي بين اخوتي".

هي سليلة عائلة فلسطينية أصلها من الخليل، لكنها بفعل الاحتلال لم تكن تدخل بلادها إلا بتصريح زيارة، تقول: "كُنا نزور فلسطين في الفصيح، وقد قضيت في الخليل أجمل أوقات عمري ولم تزل حاضرة في ذاكرتي وذاكرة قلبي"، ستجد في روايتها "رحيل" انعكاس طفولتها وصِباها الذين قضتهما في الزيارات المسروقة للبلاد. نشأت مسكونة بحُلم العودة منذ نعومة أظافرها، فوالدتها لم تكن تتمالك دموعها كلما ترى المسجد الأقصى على الشاشات، أما والدها فكان يتحرق للجهاد ودائمًا ما ينتظر النفير.


اقرأ أيضًا: نردين أبو نبعة تعزف من المنفى: "رواياتي الوطن بأكمله"


 تقول: "والدي هو صديقي، كان طوال الوقت يحدثني عن فلسطين، وقد كان يطلب منّي وهو على فراش الموت أن أقرأ له أجزاءً من روايتي الصحراء". تستذكر موقفًا حصل معها في الابتدائية، وكان له أثر عظيم في بلورة تفكيرها في ما بعد، تقول: "توجهت إلى المسرح في المدرسة، واخترت نصًا شعريًا حول المقاومة الجزائرية، وإلى اليوم لا أنسى ردود فعل الناس وأنا أؤديه، حينها شعرت أن المسرح طريقة للتأثير على الآخرين، ومنذ ذلك الوقت بدأت أُفكر بالكتابة رغم صِغر سنّي".

| خطاب وزاري

جهاد2.jpg
الكاتبة جهاد الرجبي

كيف أجدتِ الكتابة والقراءة في السادسة من عمرك؟ "كان بيتنا مليئًا بالقصص المصورة، وأنا كطفلة كنت أتساءل عما تُعبر هذه القصص، وأسأل إخواني فيرفضوا قصها عليّ، وهُنا تولّد لديّ شعور بالغضب وأصابني هوس لتعلُم القراءة"، وأصبحت جهاد تنسج بمخيلتها حوارات لشخصيات القصص من خلال الصور، ومن هنا تعلّمت القراءة والتعبير في ذات الوقت، فأصبحت مَدينة لإخوانها عندما كبُرت.

زكّتها معلمة اللغة العربية في الصف الثاني الابتدائي لمديرة المدرسة للدخول في مسابقةٍ ما رغم صِغر سنّها، فماذا حدث؟ تُجيب: "كانت مسابقة تأليف قصة من بعض رسومات، وهذه لعبتي. أذكر يوم جاء المشرف على المسابقة، ويبدو أنّ الورق اختلط معه دون قصد، فقلت له لا مشكلة أعطيني الورق غير المنظم وأنا أصنع منه قصة، فضحِك واستجاب لطلبي".

اقتباس7.jpg

فوجئت جهاد بعد ذلك أن وزارة التعليم أرسلت للمدرسة خطابًا يخصها، تقول: "قرأته المديرة لي، وقالت تُبلغنا الوزارة أن لدينا طفلة تمتلك موهبة مميزة، وتدعوننا لمتابعتها ودعمها، ولم أزل حتى هذا اليوم أذكُر ابتسامة تلك المديرة وأُدثرها بجميل دعائي"، وهنا بدأت المدرسة تحف موهبتها بالرعاية وتُزودها بالقصص والكتب الإثرائية.

ولم تزل جهاد تحمل جميل الرجل النبيل في قلبها، ويبدو أيضًا أنه ما زال يذكرها جيدًا حتى بعد مرور سنوات طويلة، تقول: "فوجئت قبل فترة قريبة أثناء قراءتي لبحث عن الكُتّاب، بأحدهم يكتب عنّي ويصفني بسعة الخيال منذ صغري، وإذ به هو ذاته ذاك المشرف التربوي؛ الأستاذ سعادة أبو عراق، وهو أديب وشاعر، فتواصلت معه، وكنت أسعد الناس بالحديث إليه كونه أحدَث فارقة في حياتي".

| رواية في الصف السادس

اقتباس8.jpg

في تلك الأجواء الماتعة والمغمورة بالاحتضان المدرسي بمواهبها المتعددة أزهرت جهاد، تقول: "كُنت أخاف من الإجازة الصيفية"، وتستخدم مصطلح "أخاف" تعبيرًا منها عن قسوة الشُعور، كيف لا؟ ومكتبة المدرسة بيت قلبها، تُضيف: "كان شراء الكتب يحتاج ميزانية، فكنت أوفر نقودًا طوال العام حتى أشتريها لتكون زادًا لي في سفر الإجازة الصيفية، وما زلت إلى اليوم أحتفظ بكتب اشتريتها وأنا في الابتدائية".

وكيف انعكس اهتمام الأهل في البيت؟ كان لوالدها اليد الطولى، تُشير: "كان والدي يشتري الجريدة يوميًا فأقرأ له العناوين، ويتقبل تلعثمي وتهجئتي ويصحح لي دون تذمر". ومن الكُتب التي كان يُفضل أن تقرأها عليه كتاب "تغريبة بني هلال"، تقول: "إنّه من الكتب الممتعة سماعيًا، وعندما كنت أقرأ فيه كانت تجتمع كل الأسرة". أما أخوها الأكبر فكاتبٌ وشاعر، وكان مُعلمها الأول بقوله: "القراءة ليس أن تفكي الخط، ولكن أن تفهمي ما بين السطور".

لمَن كُنتِ تقرأين آنذاك؟ "لمَن لم أقرأ.."، كان عندها نهم للمطالعة لا يقع بين يديها كتاب حتى تلتهمه، وما أحب أن تُهديها كتابًا، تقول: "قرأت لكُتاب كثر، قرأت في أمهات الكتب، كذلك الأدب الروسي، أدب العصور الوسطى، وكانت اهتماماتي مُركزة في الأدب"، أما المفاجأة أن أول رواية خطتها كانت في سِن مُبكرة جدًا، تُشير: "أول رواية كتبتها كنت في السادس الابتدائي ولا زلت أحتفظ بمخطوطة".

وهل كانت رواية متكاملة الأركان؟ "حبكة الرواية كانت موجودة، وهناك عدد كبير من الشخصيات يجمعهم نسيج، لكنها لم تكن متكاملة، وقد أخرجتها قبل فترة ولما أعدت قراءتها أيقنت أنّني كُنت استفدت كثيرًا من الكتب التي طالعتها آنذاك"، تُردف ضاحكة: "عندما أخرجتها وبدأت بناتي بقراءتها، تمنيت لو كان خطي أجمل قليلًا".

| كأس المملكة

تدرجت في خطوات النجاح، توضح: "كنت مُصابة بهاجس البحث عن ملامحي الخاصة في الكتابة، لم أشأ التشبه بأحد، ولم أطمئن حتى بدأت أسمع من القُراء والنقاد الإشارة إلى خصوصية كتاباتي"، فأن تقرأ في الأدب الروسي ثم في العصور الوسطى، أو أن تقرأ للسباعي ثم لجبرا إبراهيم جبرا، فهذه مدارس أدبية متنوعة ستصنع حتمًا من قارئها مزيج آخر جديد ومُختلف.
 
ما الشعور الذي يغلُب عليكِ أثناء القراءة؟ تُجيب: "أغادر بحواسي المكان ومساحات ذاتي الداخلية وأكون بين الشخصيات في الكِتاب، فعندما اقرأ لا أشعر بمن حولي، أنفصل عن العالم وأنغمس في عالم الرواية تمامًا". وللفكاهة كثيرًا ما يحاول أبناؤها التأكد من كونها حاضرة الذهن إذا أرادوا الحديث معها، تقول: "سؤالهم المكرر دائمًا انتِ عم تسمعينا؟".

لم يقف اهتمامها بالمسرح عند الابتدائية، بل استمر، وفي الحقيقة كان لكافة الاهتمامات الثقافية نصيب من جهدها، تصف فترة الإعدادية بأنّها الأجمل في حياتها، "كُنت أصنع ثقافتي بنسج عالمي الذي يحمل ملامحي، وأحب تقليد الكُتاب، ومنذ ذلك الحين كنت أُفضِل تجدد قلمي باستمرار"، وحصلت الرجبي في تلك الفترة على كأس المملكة الأردنية الهاشمية للمسرح عن أدائها لدور رابعة العدوية، ثم نالته مرة أخرى في الإلقاء الشعري.

تحداها أخوها وهي في الثالثة الإعدادية لتكتب دراسة أدبية نقدية، فهل نجحت؟ لم يفوتها تحدٍ ما، بدأت تقرأ أعداد كبيرة من الكتب في النقد، وكوّنت لديها فكرة عنه، وبالفعل كتبت بحث أشاد فيه كبار المتخصصين، تقول: "كنتُ قبلها أكتب دون تقييم من أحد، وأدور في فلك نفسي، فلما جاءت الإشادة من المتخصصين مثلت لي دفعة عظيمة ورفع معنويات كبير".

تدرجت في خطوات النجاح، توضح: "كنت مُصابة بهاجس البحث عن ملامحي الخاصة في الكتابة، لم أشأ التشبه بأحد، ولم أطمئن حتى بدأت أسمع من القُراء والنقاد الإشارة إلى خصوصية كتاباتي"، فأن تقرأ في الأدب الروسي ثم في العصور الوسطى، أو أن تقرأ للسباعي ثم لجبرا إبراهيم جبرا، فهذه مدارس أدبية متنوعة ستصنع حتمًا من قارئها مزيج آخر جديد ومُختلف.

اقتباس1.jpg

ما الشعور الذي يغلُب عليكِ أثناء القراءة؟ تُجيب: "أغادر بحواسي المكان ومساحات ذاتي الداخلية وأكون بين الشخصيات في الكِتاب، فعندما اقرأ لا أشعر بمن حولي، أنفصل عن العالم وأنغمس في عالم الرواية تمامًا". وللفكاهة كثيرًا ما يحاول أبناؤها التأكد من كونها حاضرة الذهن إذا أرادوا الحديث معها، تقول: "سؤالهم المكرر دائمًا انتِ عم تسمعينا؟".

وإن قارئة تتسم بهذه الصفة فلابد أنّها نهمة ومتمرسة، تقول: "أشعر أحيانًا أنّي بحاجة للامتلاء فأتفرغ للقراءة فقط، وأحس أنّي بحاجة للاستمتاع بقراءة ما يكتبه الآخرون أكثر من رغبتي في الكتابة"، وعندما تقرأ تحتفظ بأثر المادة وليس معلوماتها، فكثيرًا ما تنسى الحكاية ويبقى إحساسها بداخلها فتستثمره في الكتابة، وتكتبُ من مخزونها الفكري، الأدبي، والثقافي إضافة لانفعالها بما قرأت.

| ذاكرة النبات

اقتباس2.jpg

كيف تختار قارئة وكاتبة شقت طريقها للقلم مُبكرًا التخصص في مجال بعيد عن الأدب؟ تُجيب حازمة: "لم أشأ أن يكون مصدر رزقي من قلمي"، كان لديها هاجس حرية قلمها، تردف: "أردت أن أدرس كي أعمل في أي تخصص آخر، وأن يظلُ قلمي حرًا طالما لا أتكسب منه". وأثناء الدراسة كثيرًا ما حبست نفسها في مكتبة الجامعة للدراسة لامتحانٍ ما ثم خرجت بكتابة قصة.

وقد ينتاب قارئ سيرتها شيء من الاستغراب عندما يجد أنها تخصصت بكالوريوس زراعة تحديدًا، لكن ما لا نعرفه أنها تعشق الأرض، توضح: "اخترت الزراعة لأني عرفت أنني سألتقي بالأرض، وأنا عشقي للتراب غير طبيعي، ودائمًا ما أقول إننا نخرج من أرحام أمهاتنا إلى رحم التراب"، وهي مزارعة حنونة على النبات تهتم به، تُعطيه من طاقتها وتُسقيه تالية آيات من القرآن الكريم، فيما يغمرها شعور بالحب الشديد لتلك المزروعات.

اقتباس3.jpg

ومن الغرائب التي أثارت دهشة أصدقائها، ترويها قائلة: "كان لدي نبتة داخلية جميلة جدًا، وفي مرة اضطررت للمبيت في المستشفى ثلاثة أيام، وفوجئت بالنبتة عند عودتي وقد اصفرت أوراقها، فتألمت وعاتبت الأهل بأنّ لم تحفظوا أمانتي، فأخبروني أنّهم كانوا دائمي الاهتمام بها؛ ما أثار استغرابي الشديد، ثم عدت أسقيها وأقرأ على مسامعها الآيات حتى استعادت عافيتها بسرعة بالغة"، تردف: "بعدها بدأت بالقراءة عن الموضوع فعرفت أن للنبات ذاكرة يستطيع بها التعرف على مَن يعتني به ويرويه".

في غمار المزروعات والبيئة فاض قلم الرجبي أيضًا، فكتبت قصة تخيلية للأطفال بعنوان "محاكمة في الغابة" وحصلت من خلالها على جائزة القصة البيئية التي نظمتها الجمعية الأردنية لمكافحة تلوث البيئة عام 1993، تُشير: "تتحدث القصة عن التلوث البيئي، وكيف استطاع الانسان الإخلال بتوازن الكون ليوفر أسباب راحته، وفيها تحدث محاكمة بينه وبين شجرة السنديان العظيمة، ثم تنتهي باقتناع الغابة أن نيّة هذا الإنسان إحداث التغير الإيجابي".

| لن أموت سدى

 
ولعشق فلسطين كان النصيب الأكبر حتى قيل: "مَن أراد تتبع تاريخ الانتفاضتين الفلسطينيتين فليتتبع مقالات الرجبي في مجلة فلسطين المُسلمة"، كتبت فيها مجموعة "لمن نحمل الرصاص" القصصية، التي نُشرت في لندن ووزعت حول العالم، تقول: "وكان من أهم أعمالي مقالة (مع الغروب) التي لعلّي آمل الله بها عندما ألقاه، فقد كتبتها وأنا في حالة تماهي مع المقاومة على صفحاتي وكتاباتي".
 
أما جائزة مؤسسة الأرض المقدسة في أمريكا عام 2000 فكانت عن قصة "صوب الأرض"، وهي قصة رجل لاجئ يموت داخل المُخيم، تقول عنها: "إنّها نوع من الردود على أنَّ الكبار يموتون والصغار ينسون، فالحقيقة أن صغارنا مفتونون بفكرة المقاومة والرجولة التي يشعرون بها عندما نستطيع قهر عدونا وسجاننا".

ولعشق فلسطين كان النصيب الأكبر حتى قيل: "مَن أراد تتبع تاريخ الانتفاضتين الفلسطينيتين فليتتبع مقالات الرجبي في مجلة فلسطين المُسلمة"، كتبت فيها مجموعة "لمن نحمل الرصاص" القصصية، التي نُشرت في لندن ووزعت حول العالم، تقول: "وكان من أهم أعمالي مقالة (مع الغروب) التي لعلّي آمل الله بها عندما ألقاه، فقد كتبتها وأنا في حالة تماهي مع المقاومة على صفحاتي وكتاباتي".

وعن روايتها البِكر "لن أموت سُدى" التي كتبتها في وقت بدأ فيه الفلسطينيين التعايش مع فكرة أوسلو، فحملت من خلالها رسالة إليهم بأنّه لن يكون لكم وطنًا آخر، وأن هذا التراب يخصكم أنتم، حتى وإن حققتم النجاح، وإن حصلتم على الحب، وإن استطعتم أن تبنوا قصورًا خارج فلسطين، سيظلُّ هذا التراب هو الوطن.

نالت الرجبي عن هذه الرواية جائزة لنشرها بعد حصولها على المركز الأول في مسابقة الأدب الإسلامي العربية، وقد حظيت جهاد الرجبي على جوائز عن معظم أعمالها، فيما لُقبت بـ "صيادة الجوائز"، فما الذي يُعلل ذلك؟ تقول: "قبل أن أبدأ عالم الرواية كان أمامي سؤال كبير أين ستُنشر؟ نظرًا لقلة الإمكانيات أمامي، فكانت المسابقات نافذتي للنشر".

اقتباس4.jpg

أما جائزة مؤسسة الأرض المقدسة في أمريكا عام 2000 فكانت عن قصة "صوب الأرض"، وهي قصة رجل لاجئ يموت داخل المُخيم، تقول عنها: "إنّها نوع من الردود على أنَّ الكبار يموتون والصغار ينسون، فالحقيقة أن صغارنا مفتونون بفكرة المقاومة والرجولة التي يشعرون بها عندما نستطيع قهر عدونا وسجاننا".

وفي روايتها الصحراء؛ تحررت الرجبي من الزمان والمكان بصورةٍ ما، وصنعت عالمًا مُتخيلًا من متضادين؛ أناسًا يرغبون بالحرية، وآخرون يجتهدون للتأكيد على عبودية غيرهم، تقول: "الصحراء أرض ظالمة، السلطة فيها للقوي، وفيها مَن لا يرغب بالتحرر بقدر ما يرغب بنيل سلطةٍ ما"، وبعد مرور 20 عام على إصدار هذه الرواية تُفشي الرجبي بسرّ إصدار جزء ثانٍ منها قريبًا.

| الرواية الأقرب للقلب

اقتباس9.jpg

بلا شك إنّها "رحيل"، ففيها تحدثت عن مدينة الخليل التي تُزهر في ذاكرة قلبها وعقلها، تُشير: "اتكأت فيها على مذبحة الحرم الإبراهيمي بينما ابتدأتها ببدء الحكاية الفلسطينية من نهاية العهد العثماني وصولًا للمذبحة، ومن المضحك إصرار القراء بأن رحيل شخصية حقيقية، وأنا أقول إنّها مُتخيَلَة، ولكن سترون ملامحها في كل فلسطين".

وفي هذه الرواية كان هناك تحليل نفسي لبعض الشخصيات، وادّعى القراء أن للكتابة خبرة في علم النفس، وهذا ما دفعها لدراسة ماجستير الإرشاد النفسي والتربوي من الجامعة الأردنية عام 2004، تُبين: "المجال يمكننا من فهم الآخر بشكلٍ أعمق، وقد عملت فيه، وكان ممتعًا ومؤلمًا كونه جعلني ألتقي بعذابات الآخرين وجها لوجه، بينما لم أُسقط أي من الحالات التي تعاملت معها على أوراقي إطلاقًا".

اقتباس10.jpg

ونالت عن رواية "رحيل" جائزة فلسطين للرواية، بعد 7 سنوات من نشرها، وهدفت من المشاركة فيها كسر الحصار الثقافي عن غزة، فيما هي تحتفظ بحفنة من تراب غزة حصلت عليها إثر زيارتها لها عام 2014، تصِفها قائلة: "قد لا يُضاهي لحظة دخولي إياها إلا الوقوف في المسجد الأقصى وتكبيرات الفتح تملأ"، تردف: "غزة حالة استثنائية، استثناء من الزمن والمكان على هذه الأرض، وستظل نموذج وحكاية لن يمل الناس أن يحكوها".

وعن روايتها أينا قتل الآخر، التي كانت عكس للزيارة ولكن بِبُعد فني حيث تضمنت ثلاثة مسارح للأحداث هي غزة، مصر، إيطاليا، وقد كان لفلسطيني الخارج منها نصيب، فيما تتبعت المقاومة الفلسطينية في غزة من الانتفاضة الأولى حتى عدوان 2014، وهي فترة زمنية طويلة، تقول: "حينها تواصلت معي مؤسسة إنتاج لتختارها عملاً للدراما، لكن كان يصعب عليهم إنتاجها لتعدد أماكن التصوير وطول الفترات الزمنية، ما يعني أجيالًا وشخوصًا كثيرة".

| تكنيك الكتابة

اقتباس5.jpg

يصفها قُرائها بأنّها كاتبة للنخبة، فلماذا؟ تُجيب: "في الحقيقة عندما أكتب لا أضع معايير النخبة في حساباتي، أكتب النص بتلقائية وعفوية، أكتب باستمرار ولكني انتقائية في النشر". وعن تكنيكها الأساسي في الكتابة تقول الرجبي: "أرى أن أقصر طرق التعبير هي الحوار، فهو يُقدم فرصة للمتلقي ليتابع ويحلل ويصنع وجهة نظر خاصة فيه، وحتى اللحظة لا أعمد للوصف إلا للضرورة".

هل يستطيع الكاتب خلع ثوب الكتابة عن كاهليه؟ تُجيب دون تردد: "يصعب ذلك، يمكنه مقاطعة النشر لكن لن يستطيع التوقف عن الكتابة حتى لو لم يمسك القلم، إن الذي أُعطيَّ هذه الملكة لن يسيطر عليها إلا إذا أمسك القلم، فأنا أكون على وسادتي وتتدفق العبارات في داخلي فأكتب ذهنيًا، وأعتقد أن كل كاتب يعيش هذه الحالة مرغمًا".

ومن المثير للضحك هو حالة الاندماج الشديدة التي تعيشها جهاد خلال كتاباتها؛ ما يتسبب لها بالكثير من المواقف المضحكة المُبكية، أحدها كان وهي تكتب عن مقتل أحد الشخصيات في رواية الصحراء، تقول: "تملكتني أحاسيس عالية بالحزن الشديد، وكأنّي خذلت الشخصية، فأخذت أبكي دون وعي منّي، وعندما عاد زوجي من العمل وجدني بعينين محمرتين وحالةٍ لها يُرثى، سألني: ما بكِ؟ أجبته مات، وانهارت أعصابي فيما هو لم يستطع الوقوف على قدميه وهو يسأل منَ؟".

اقتباس6.jpg

تشعر جهاد بالامتنان لهذا الشريك الذي تصفه بالجندي المجهول وهو داعمها الأساسي فطالما آمن بقلمها وشجعها، ويكفي تقبله لمزاجيتها في الكتابة عندما تنغمس في عالم الحكاية، كما تقول، وهي أم لخمسة من البنات واثنين من الصبيان، هم أصحاب نصيب الأسد في حياتها، وكثيرًا ما تأتي الكتابة في الدرجة الثانية، في ظلّ متطلبات الأمومة التي ترزح تحتها.

ومن فمِ كاتبة بارة بوطنها، نسمع قولها بأن القراء ينتظرون من الكاتب أن يكون صاحب قلمًا حرًا، تُضيف: "حتى إن كان يؤمن بأمور يرفضها الناس، فلا بأس، ولكن عليه أن يكون صادقًا مع نفسه، مؤمنًا بما يقول وبما يكتب لأنه هذا الصدق يستشعره القارئ"، وتؤكد أنّه على الكُتاب تبني قضايا أمتهم، وأن يكونوا أحرارًا في داخلهم، حتى يطالبوا بحريتنا ويصنعوها لنا، لنُصدق أن هناك حرية يُمكن عيشها على الأرض.