بنفسج

خارج أسوار السجن: ماذا عن زوجات الأسرى؟

الثلاثاء 08 مارس

كانت أمي مثالًا للقوة والثبات دومًا! في أحلك المواقف تمسك دموعها ولا تنهمر منها إلا على سجادتها، حتى يوم وفاة أبي تقول: "عندما اقتربت منه لأودعه شعرت أنني سأنهار، فتماسكت سريعًا بنّية أن يتقبله الله شهيدًا كما كان يتمنى دائمًا". على الرغم من أن أبي أخرج الأنفاس الأخيرة بين يديها، لكنها لطالما كانت متماسكة وقوية حتى ظننت أنها متبلدة الشعور. حتى جاء اليوم الذي أجلس أمامها كصحفية أطرح عليها أسئلة تنبش الماضي بعد أن حاولت إخماد لهيبه كثيرًا، لتبكي أمامي وهي تسرد الأحداث والإجابات، طفلًا صغيرًا متأرجحًا بين كل مشاعره. أقص لكم اليوم جزءًا من حكاية أو جزءًا من حياة تقاسمتها زوجات الأسرى في فلسطين، فشملت جميع الأسرى الفلسطينيون أهلهم. 

عن ذكريات زوجة الشهيد بكر بلال

زوجات الأسرى
أمي "غادة محمد (55 عاما)"، تزوجت أبي المتوفى حاليًا "بكر بلال" لـ 29 عامًا، ولكن لم تمض معه إلا بضع سنوات، فقد كان في حالة اعتقال مستمر، متنقلًا بين سجون الاحتلال تارة، أسيرًا، يمضي سنوات، ثم يخرج بعدها بضع شهور يمضيها بيننا، أو على جبال فلسطين، لعامين مطاردًا، تارة أخرى، حيث كان مطلوبًا لهم خلال اجتياح نابلس عام 2002.
 
كان أبي يذهب ويعود قسرًا تاركًا لأمي 4 أطفال متفاوتي الأعمار؛ الأكبر سعيد "31 عامًا"، تلحقه صفاء بثلاث أعوام، وبعد 6 سنوات رُزقت بعز الدين، ومن بعدها بعام محمد "20 عامًا".

أمي "غادة محمد (55 عامًا)"، تزوجت أبي المتوفى حاليًا "بكر بلال" لـ 29 عامًا، ولكن لم تمض معه إلا بضع سنوات، فقد كان في حالة اعتقال مستمر، متنقلًا بين سجون الاحتلال تارة، أسيرًا، يمضي سنوات، ثم يخرج بعدها بضع شهور يمضيها بيننا، أو على جبال فلسطين، لعامين مطاردًا، تارة أخرى، فقد  كان مطلوبًا لهم خلال اجتياح نابلس عام 2002، أمي كانت إحدى النساء التي نعرفهن ويعرفهم الفلسطينيون، إنهم زوجات الأسرى، يشتركن في ظروف متشابهة، وحياوات متشابة، ومعاناة متشابهة!

كان أبي يذهب ويعود قسرًا تاركًا لأمي أربع أطفال متفاوتي الأعمار؛ الأكبر سعيد "31 عامًا"، تلحقه صفاء بثلاث أعوام، وبعد ست  سنوات رُزقت بعز الدين، ومن بعدها بعام محمد "عشرون عامًا". تقول أمي: "مع كل طفل جديد يأتي كان هناك اعتقال جديد لزوجي بكر؛ فالاعتقال الأول كان في بداية التسعينيات بعد ولادة الابن الأكبر سعيد، ليغيب ما يقارب العامين عن المنزل ويخرج بعدها من السجن، فتنجب أمي الطفل الثاني "صفاء"، ليعود للسجن قبل إتمامها ال 40 يومًا". تضيف: " كانت صفاء في حضن والدها وانتزعوها في الوقت الذي كان يحاول فيه أن تنام، وما لبثت أن غفوت حتى طرقوا الباب، ولا أنسى يومها أنه لم يأبه بشيء سوى أن لا ينتزع نومها، وهكذا يتشابه وضع زوجات الأسرى في فلسطين".

ربتنا أمي، زوجة الأسير، على مدار السنين وحيدة؛ فكانت الأب والأم وتقول: "لطالما حاولت أن أشبعكم عاطفيًا، ولكني كنت أعلم أني مهما حاولت لم أستطيع ملء فراغ الحاجة إلى الأب بداخلكم، فلطالما كنتم تستيقظون وأنتم أطفالًا، تبكون، تريدون والدكم وتسألون متى سيأتي، ولكن مع الوقت تشكل لديكم إطار مرجعي يجيبكم عن السؤال بعد محاولات الحديث الدائم معكم أنه معتقل، وأنه يدافع عن الوطن وأننا تحت احتلال يريد سرقة وطننا".

زوجات الأسرى
بكر بلال مع زوجته وأبنائه

وتضيف: "ساعدني في الأمر أن زوجي هو الأخ الأكبر في عائلة كان فيها كل الذكور يعيشون ذات الوضع؛ فجميع أخوة زوجي كانوا منخرطين في سلك المقاومة، لذلك فإن اقتحام  اليهود منزلنا، وغياب أحد أفراده كان أمرًا اعتاد عليه الأطفال، بل واتبعوا نهجهم في الكبر؛ فابني الأكبر سعيد اعتُقل مرات متفرقة في نهاية الثانوية العامة. وفي الجامعة ما يقارب ال 3 سنوات ونصف، ليلحق به ابني عز الدين ليعتقل بضعة شهور وهو في سنته الجامعية الأولى".

كانت السيدة غادة، كما تصف، قادرة على إدارة الموقف، ولكن كان التحدي والصعوبة مع كون الابن الرابع والأخير مصابًا بالتوحد، ومن الدرجة الصعبة،  فتقول: "غياب زوجي والشح المادي وبداية مراهقة ابني الأكبر في ظل وجود طفل مريض كاد أن يصيبني بالجنون، كانت الأمور صعبة جدًا لولا معية الله. لن أنكر الدعم المادي، خصوصًا من أهل زوجي، ولكن لم يكن في البيت رجلًا، كان حماي رجلًا كبيرًا، وأسلافي جميعهم في السجن وبأحكام عالية، وأنا أمام ضغط ومسؤولية كبيرة. ابن كبير بدأ يأخذ قراره من رأسه ويتفلت كونه في مرحلة المراهقة، وابن صغير يعاني من مرض ذهني لم أكن أدري ما هو في أول 5 سنوات، سوا أنه كان شقيًا وعنيفًا جدًا، ولا أسلوب تربوي محدد أتبعه معه سوا الحنان".


اقرأ أيضًا: مرح باكير: عين أمُها التي اعتُقِلتْ طفلة


واجهت السيدة غادة محمد مواقف صعبة لا تعد ولا تحصى أثناء غياب زوجها، ولكن الأصعب كان عندما تعرضت في يوم لحادث سير مميت لتفتح عينيها يحيط بها رجال أغراب من كل مكان تقول: "تمنيت لو كان زوجي بجانبي في تلك اللحظة. عشت مواقف صعبة في تربية الأبناء، ولكن تلك اللحظة قسمت ظهري حرفيًا، أعلم أن زوجات الأسرى عليهن التحمل والصبر، ولكن لحظات من الاشتياق والضعف تجتاحني في لحظات". 

 عن الأسير المحرر عدنان عصفور

زوجات الأسرى
عائلة الأسير عدنان عصفور

ليست أمي وحدها، كثير من زوجات الأسرى عشن في حالة غياب أزواجهن ومررن في مواقف مشابهة؛ تقول السيدة عريب عصفور زوجة الأسير المحرر عدنان عصفور: "كان مجموع اعتقالات زوجي 13 عامًا تقريبًا إضافة إلى عامين من المطاردة، والتي وإن لم يكن فيها داخل السجن، فإنه في حالة غياب دائمة عن البيت، اعتُقل في المرة الأولى في 1993 وكانت ابنته الأولى يمان لم تتم شهرها الأول، ليغيب عن المنزل 6 أشهر وهو معتقل في سجون الاحتلال".

ويعود بعدها ويمكث بين أهل بيته 3 سنوات من دون التعرض للاعتقال، ولكن في عام 1997 اعتقلته أجهزة السلطة الفلسطينية لمدة 3 سنوات، وبعد خروجه وبداية الانتفاضة الثانية، ظل مطاردًا لعامين، وبعد العامين اعتقل لمدة عامين آخرين في سجون الاحتلال، وخلال هذه الفترة كان لديه بعد ابنته الكبرى يمان، ثلاثة من الأولاد لم يحظوا بما يحظى به الأطفال الطبيعيون الذين يعيشون في كنف والدهم وتحت رعايته، وبالتالي كانت المسؤولية الكاملة تقع على عاتق السيدة عريب.

كان الأطفال في البداية يتساءلون عن والدهم ويحتاجون له عاطفيًا قبل كل شيء، لذلك كان لا بد من التحدث المستمر معهم والإشادة بأفعال والدهم حتى تتشكل لديهم صورة واضحة عن سبب غيابه، وهو فعلًا ما حدث". كانت السيدة عريب تعيش في غرفة متفرعة من بيت أهل زوجها، وتصف كم كان لهذا الأمر وقع إيجابي في متابعة الأطفال في غياب زوجهم.

"يزداد حس المسؤولية والضغط المجتمعي في غياب الأب؛ ففي وجود الأب يتشارك الزوجين في رعاية الأبناء وتربيتهم وتحمل مسؤوليتهم؛ أما أنا فوقع على عاتقي عبأه وعبئي، وتحملت ضعف المسؤولية وحيدة، كوني أمهم، وكونهم أمانه تركها لي والدلهم". هكذا تعبر السيدة عريب عن ثقل المسؤولية على كاهل زوجات الأسرى.

وتضيف: "كان الأطفال في البداية يتساءلون عن والدهم ويحتاجون له عاطفيًا قبل كل شيء، لذلك كان لا بد من التحدث المستمر معهم والإشادة بأفعال والدهم حتى تتشكل لديهم صورة واضحة عن سبب غيابه، وهو فعلًا ما حدث". كانت السيدة عريب تعيش في غرفة متفرعة من بيت أهل زوجها، وتصف كم كان لهذا الأمر وقع إيجابي في متابعة الأطفال في غياب أبيهم، فذكرت مدى أهمية أهل الزوج في مثل هذه الظروف وضرورة تعاونهم.

"من أكثر اللحظات التي تمنيت لو كان زوجي معي هي لحظة تزويج ابنته الكبرى يمان، حيث كان من الصعب جدًا اتخاذ القرار في ظل غياب والدها، كنت خائفة عليها كأم مرة وكزوجة تتخذ القرار وحيدة 100 مرة، ولولا وجود الرسائل والزيارات المتباعدة لإدارة الأمر لكان أصعب بكثير".

عن أصعب المواقف تقول: "كان بلوغ ابني الكبير ودخوله مرحلة المراهقة من أصعب الفترات التي مرت عليّ في غياب الأب، حيث تزيد المسؤولية لأن الذكور بحاجة إلى رجل مثلهم، حتى يتعامل معهم بالشكل المناسب في هذه المرحلة إلى جانب عاطفة الأم". وتضيف: "من أكثر اللحظات التي تمنيت لو كان زوجي معي هي لحظة تزويج ابنته الكبرى يمان،  فكان من الصعب جدًا اتخاذ القرار في ظل غياب والدها، كنت خائفة عليها كأم مرة وكزوجة تتخذ القرار وحيدة مائة مرة، ولولا وجود الرسائل والزيارات المتباعدة لإدارة الأمر لكان أصعب بكثير".


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


ويُذكر أن الشيخ عدنان عصفور الذي تجاوز الخمسين من عمره  نال حريته من سجون الاحتلال،  أبرز ما جاء في حالة السيدتين غادة محمد وعريب عصفور، وهن زوجات أسرى، أنهن عشن في أوساط كان يسودها الفكر الوطني المقاوم، وهذا ما هوّن عليهن بعض الشيء إيصال الفكرة لأبنائهن، ولكن في حالات أخرى تقعد زوجة الأسير في وضع أصعب، حيث لم يسبق لها ولا لأهل زوجها أن عاشوا في وسط مشابه.

 عن مريم وعبادة

زوجات الأسرى
تقول بهية النتشة، من زوجات الأسرى، وهي زوجة ماهر الهشلمون المعتقل منذ ثماني سنوات، والمحكوم بالسجن المؤبد، والذي ترك خلفه طفلين بعمر صغير جدًا، وهما عبادة  ومريم: "لا أنسى عبارة ابني عبادة بعد عامين من فراق والده، وقد كان أوعى قليلًا حين قال لي؛ أتمنى أن أعود لآخر مكان كنت فيه مع أبي حتى أحتضنه بكل قوة تعويضًا عن كل الشوق الذي أعيشه".
 
كان اعتقال والدهم صعبًا جدًا، وإيصال الفكرة وتثبيت الأمر في نفوسهم صعب، "كل يوم ذات الأسئلة اين أبي، اشتقت لأبي، أريد أبي وتزيد حدة الأسئلة وانفطار قلوبهم في المناسبات الخاصة والأعياد، وكان ردي دائمًا أن يتوجهوا للدعاء، وأحاول تصبيرهم، وأن البكاء والتذمر المستمر سيزيد من ألمهم ولن يفيد".

تقول بهية النتشة، من زوجات الأسرى، زوجة الأسير ماهر الهشلمون المعتقل منذ ثماني سنوات، والمحكوم بالسجن المؤبد، والذي ترك خلفه طفلين بعمر صغير جدًا، وهما عبادة الذي كان يبلغ من للعمر 7 سنوات، ومريم التي كانت تبلغ من العمر 5 سنوات،  "يعي الطفل الفلسطيني عمومًا وجود فريقين في فلسطين، وهم اليهود المحتلين والفلسطينيين أصحاب الأرض، وأن هذا الاحتلال يعني أسر واعتقال وشهادة وغيرها، ولكن، ولأن أطفالي لم يعايشوا هذا المعترك بشكل مباشر، كان اعتقال والدهم صعبًا جدًا، وإيصال الفكرة وتثبيت الأمر في نفوسهم صعب للغاية".

تضيف: "كل يوم ذات الأسئلة أين أبي، اشتقت لأبي، أريد أبي وتزيد حدة الأسئلة وانفطار قلوبهم في المناسبات الخاصة والأعياد، وكان ردي دائمًا أن يتوجهوا للدعاء، وأحاول تصبيرهم، وأن البكاء والتذمر المستمر سيزيد من ألمهم ولن يفيد".

وتقول أيضًا: "لا أنسى عبارة ابني عبادة بعد عامين من فراق والده، وقد كان أوعى قليلًا حين قال لي؛ أتمنى أن أعود لآخر مكان كنت فيه مع أبي حتى أحتضنه بكل قوة تعويضًا عن كل الشوق الذي أعيشه". خنقت العبرة بهية يومها وبدأت من يومها تدرك أن ابنها بدأ يعي الموضوع بشكل كامل، وأنه ليس كما كانت تظن، بل أنه كان يعيش الصدمة ويحتبس الألم بداخله.

زوجات الأسرى
بهية النتشة برفقة زوجها الأسير ماهر الهشلمون وأولادها

كان من الصعب على بهية التي تزوجت في سن مبكرة أن تصبح الأم والأب معًا لطفلين، ولكنها كانت دائمًا تستطيع إدارة الموقف؛ إما بالحوار أو إبعاد طفليها عن الأذى النفسي، مثل إرسالهم لبيت أهلها الذي كان قريبًا في حال كان هناك اقتحام وتفتيش للبيت من قبل قوات الاحتلال بين الحين والآخر. ولكن في الآونة الأخيرة باتت تربيتهم أصعب بكثير وزاد الحمل والضغط لأن أبناءها بدأوا بدخول مرحلة المراهقة الصعبة على الوالدين بطبيعة الحال، فكيف يكون الوضع في ظل غياب الأب خصوصًا للذكر الذي يحتاج متابعة ومداراة مستمرة".

"لا شك وبعد بلوغ ابني سن المراهقة وحتى أخلطه في مجتمع الرجال دمجته بأحد أقربائه من جهة والده يعمل معه في العطلة الصيفية، وهذا كان له أثر كبير على شخصيته بصورة إيجابية".

أما عن التدخلات الخارجية من الأهل؛ وهو أمر تواجههة زوجات الأسرى، فحرصت بهية كل الحرص أن لا يتدخل أحد في تربية أبنائها من الطرفين سواء أهلها أو أهل زوجها، لذلك حرصت دومًا أن تستقل ببيت خاص بها، وهي التي كانت في أول فترة زواجها تسكن في بيت عائلة زوجها، وبعد اعتقال ماهر في بيت أهلها، لذلك، من دون المس باحترام أي طرف أدارت بهية رغم صغر سنها وبكل قوة العجلة وحدها. وتضيف في هذا السياق: "لا شك وبعد بلوغ ابني سن المراهقة وحتى أخلطه في مجتمع الرجال دمجته بأحد أقربائه من جهة والده يعمل معه في العطلة الصيفية، وهذا كان له أثر كبير على شخصيته بصورة إيجابية".


اقرأ أيضًا: ماهر وبهية: مؤبدان وحب واحد


وعن الالتزامات المادية تقول بهية: " كان الوضع المادي مريحًا إلى حد ما، حاليًا كوني أعمل وأحصل على راتب أسير شهريًا، وبيني وبين أهل زوجي وأهلي توادد وتراحم مستمر، في حين كانت من قبل تضيق بي الظروف وأضطر لإدارة الأمر بشكل صعب، وهذا ما كان يجعلني دومًا أستشعر صعوبة الأمر على زوجات الأسرى اللواتي لديهن مشاكل مع أهل الزوج، أو لديها عدد كبير من الأطفال، خصوصًا في هذا الوقت من الزمان الذي أصبحت فيه متطلبات الأطفال كثيرة جدًا".

| عن زوجة الأسير زيد عامر

 

رشا منير ، من زوجات الأسرى، وزوجة الأسير المؤبد زيد عامر، والذي اعتُقل بعد أسابيع معدودة من زواجه، في حين كانت هذه الفترة كافية لإيداع طفلته رشا والتي أنجبتها أمها في غياب والدها. تقول رشا: "في البداية كنت صابرة محتسبة جدًا، راضية رغم كل تثبيط المعنويات الذي كان المجتمع يسمعني إياه دومًا.

 كأن يقولوا: "ظلمها معه، ليش يتجوز من الأساس، ما تهنت، الله أعلم وينتا يطلع ..". وغيرها من العبارات التي كنت أقاومها، بالدعاء واليقين والفخر على اصطفاء الله لي ولزوجي، ولكني لا أنسى يوم الميلاد حين وضعت ابنتي؛ غطيت رأسي تحت لحاف سرير المشفى حتى لا أسمعهم يعيدوا ويزيدوا هذه العبارات".

في القصص السابقة تعرف الأبناء إلى آبائهم، ولو كان في سن مبكرة، ولكن في حالات أخرى ولد الأطفال في غياب والدهم، ولم يبلغوا بعد السن الكافي لاستيعاب فكرة وجود أب من الأساس. هذا تمامًا ما حدث مع رشا منير زوجة الأسير المؤبد زيد عامر، والذي اعتُقل بعد أسابيع معدودة من زواجه، في حين كانت هذه الفترة كافية لإيداع طفلته رشا والتي أنجبتها أمها في غياب والدها.

تقول رشا: "في البداية كنت صابرة محتسبة جدًا، راضية رغم كل تثبيط المعنويات الذي كان المجتمع يسمعني إياه دومًا، كأن يقولوا: "ظلمها معه، ليش يتجوز من الأساس، ما تهنت، الله أعلم وينتا يطلع ..". وغيرها من العبارات التي كنت أقاومها رغم ضغط الحمل علي، بالدعاء واليقين والفخر على اصطفاء الله لي ولزوجي، ولكني لا أنسى يوم الميلاد حين وضعت ابنتي؛ غطيت رأسي تحت لحاف سرير المشفى حتى لا أسمعهم يعيدوا ويزيدوا هذه العبارات، وأنا التي كنت أشد ما أحتاج له في تلك اللحظة فقط وجود زيد بجانبي، وأذكر أن الأمر أدخلني في اكتئاب شديد بعد الولادة، تمالكته وتجاوزته بمعية الله، واليوم أنا أم لطفلين آخرين جاؤوا عبر النطف المهربة ليكونوا سندًا لي ولأختهم حتى يمن الله علي وعلى زيد بالإفراج".

زيد عامر.jpg
الأسير زيد عامر وأولاده

دائمًا ورغم جهل أبناء رشا بوالدهم، تحاول أن تخبرهم عنه وتحدثهم باستمرار عنه وعن تضحيته، وتملأ البيت بصوره حتى يظلوا على تواصل بصري مستمر معه، كذلك الزيارات ومكالمات الهاتف المستمرة معه تزيد من الترابط بينهم رغم البعد". تقول رشا عن لحظات صعبة لأبنائها: "لا أنسى بكاء ابنتي في يومها الأول في المدرسة، لأنها أرادت تواجد والدها معها، ولكن بالحوار والتثبيت صبرتها، وفي كل يوم أحاول أن أشبع عاطفتهم وحاجاتهم في ظل غياب والدهم وهو أمر غاية في الصعوبة وليس سهلًا البتة لولا معية الله". وتضيف رشا: "أهل زوجي كانوا أكبر داعم لي في ظل غياب زوجي من كل الجوانب ولن أنسى عونهم الدائم ما حييت".

| قصص كثيرة ف يجعبة زوجات الأسرى

نجد في الحالات الثلاث الأولى أن أصعب مرحلة تمر فيها زوجات الأسرى في ظل غياب الأب في السجون هي مرحلة المراهقة، ويعود ذلك لعدة أسباب؛ أولًا أن مرحلة المراهقة بطبيعة الحال مرحلة حساسة جدًا يواجه الأهل فيها في الغالب مشاق كبيرة في تربية الذكور خصوصًا، وذلك للتغيرات النفسية والهرمونية التي يتعرض لها المرهقون، ويصعب على الأهل التعامل معهم.

السيدة عريب والسيدة غادة وبهية ورشا هما عينة صغيرة جدًا من المجتمع الفلسطيني الذي تسوده مثل هذه القصص، فقد أظهر تقرير أعده جهاز الإحصاء الفلسطيني في السنوات الأخيرة بأن عدد الأسرى المتزوجين بلغ قرابة (2805) معتقلاً تقريبًا، ويشكلون ما نسبته (37.4%) من المجموع الكلي، والذي ازداد في الشهور الأخيرة منذ إصدار التقرير.

وعلى أي حال ما بين الوضع المادي الضيق وتهيئة الأطفال نفسيًا لغياب والدهم واحتوائهم عاطفيًا، نجد في الحالات الثلاث الأولى أن أصعب مرحلة تمر فيها زوجات الأسرى في ظل غياب الأب في السجون هي مرحلة المراهقة، ويعود ذلك لعدة أسباب؛ أولًا أن مرحلة المراهقة بطبيعة الحال مرحلة حساسة جدًا يواجه الأهل فيها في الغالب مشاق كبيرة في تربية الذكور خصوصًا، وذلك للتغيرات النفسية والهرمونية التي يتعرض لها المرهقون، ويصعب على الأهل التعامل معهم؛ لأن المراهق يشعر في هذه المرحلة أنه بالغ بالفعل، ولكن في واقع الأمر، هو لا يزال طفلًا!

يعمل الأب والأم جاهدين لاحتوائهم في هذه المرحلة خوفًا عليهم من الضياع أو التهور، فكيف يكون الحال مع زوجات الأسرى اللاتي يقمن بدرو الأم والأب معًا. وإلى جانب كل هذه التحديات التي تتضاعف في حالة غياب الأب، فإن أبناء الأسرى عمومًا معرضون دومًا لأخطار مضاعفة في ظل وجود احتلال يحاول كسر الأسير عبر استهداف عائلته، وكثيرة هي قصص الاستهداف التي يتعرض لها أبناء الأسرى.