تربية طفل معطاءٍ يعرف حقوقه وواجباته هو أكبر تحدٍ يواجه الآباء والأمهات في رحلة التربية. لنتفق في البدء حتى لا يكون العنوان مضللاً، أننا هنا لا نشجع على تحلي الأطفال بالأنانية أبدًا، بل على أن نربي طفل معطاءً ومحبًا من دون أن ينسحق تمامًا داخل هذه الصفات، فيصبح غير قادرًا على المطالبة بحقوقه، وقول "لا" عندما يجب أن تُقال. تلك الحدود الفاصلة بين اللطف واللين والإيثار، وبين أن يمحي الطفل رغباته ومطالبه لإرضاء الآخرين فقط. رائع أن يكون الطفل مُشاركًا ومبادرًا باللطف والمساعدة للآخرين، ولكن إلى أي مدى؟ ومتى عليه التوقف؟ هذا هو المهم.
| الأطفال أنانيون بالفطرة
هذا حقيقي، يولد الأطفال وهم يعتقدون أن العالم بأكمله يدور حولهم، والجميع مسخر لخدمتهم وتلبية متطلباتهم. حتى عمر الثالثة يظن الطفل أن كل شيء في الكون ملكه تمامًا، الألعاب والوقت والجهد والأشخاص. لذلك في هذه المرحلة، أي سن الروضة، وما قبلها، يبدأ المربون بتعليم الأطفال مبدأ المشاركة والعطاء؛ إذ يبدأ الصغار في إدراك هذا المعنى عند الخروج للعالم الكبير خارج حدود المنزل والأسرة.
نبدأ في تعليم الطفل مشاركة ألعابه وطعامه وحلواه. وأن عليه احترام وقت الآخرين، وأن هناك ممتلكات خاصة وأخرى عامة. بالطبع، يقاوم الصغار ويرفضون ويتمردون على هذه القواعد والحدود الغريبة عليهم، ولكن بالوقت والتعلم عادة ما تمرر للأطفال هذه الصفات عبر القصص والمحاكاة، ليحدث الاتزان المطلوب لتربية طفل معطاء، ولكن بحدود.
إلى هنا يبدو الأمر مثاليًا ورائعًا ولا مشكلة على الإطلاق، ولكن المشكلة الحقيقية تحدث عندما يتماهى الطفل تمامًا مع صفة العطاء والمشاركة والإيثار، فتصبح سمته السائدة ويأخذها الآخرون عنه سواء كانوا أطفالًا أو كبارًا كحق مكتسب وطبيعي لا يحق للطفل الاعتراض لاحقًا أو تغييره.
| كيف يضر العطاء أكثر من اللازم بالأطفال؟
كأم لطفلين، حاولت في تربيتهم أن أغرس مبدأ العطاء والمشاركة واللطف مبكرًا جدًا من خلال الحكايات ومحاكاة المواقف المختلفة. عامًا بعد آخر كنت أرى كيف أن طفلتي الكبرى حنونة جدًا ومعطاءة بالفطرة، أسعدني ذلك بالطبع -ومن منا لا يفعل-، حتى التحقت طفلتي بالمدرسة وصارت طباعها تلك تعمل ضدها في كثير من الأحيان. ربما أحيانًا مع أخيها الصغير الذي تشاركه أشياءها، من دون حدود بينما، يعرف هو كيف ومتى يرفض المشاركة.
الطفل المعطاء أكثر من اللازم يشعر دائمًا بأن عليه إرضاء الآخرين، وربما على حساب نفسه، عليه أن يحترم مشاعر الجميع حتى من يسيئون إليه، عادةً، يكون طفلًا مفرط الحساسية، فيتحول الأمر لشعوره بأن الآخرين يستحقون ما لديه أكثر منه. هل قال لك طفلك في مرة أنه شارك حلّواه المفضلة بأكملها مع أصدقائه من دون أن يتبقى له أي قطعة؟ هل تعرّض طفلك للتنمر والإيذاء النفسي لأن أصدقاءه يستغلون عطاءه وطيبته؟ هل يفضل طفلك راحة الآخرين على راحته عندما يتعلق الأمر بمشاركة الألعاب أو الوقت أو أشيائه المفضلة ورغباته؟
هل يفضل طفلك راحة الآخرين على راحته عندما يتعلق الأمر بمشاركة الألعاب أو الوقت أو أشيائه المفضلة ورغباته؟
إذا كانت إجابتك على الأسئلة الماضية بنعم، فللأسف هذا مؤشر خطر يخبرك أن طفلك يحتاج ليكون أكثر حبًا لذاته، وربما أنانيًا في بعض الأوقات لصحته النفسية. وهذا ينقلنا لإجابة السؤال "متى يجب أن يكون طفلك أنانيًا؟".
| تتأثر ثقته: عندما يؤثر العطاء على صحة الطفل النفسية بالسلب، فيشعر أنه غير مستحق كالآخرين.
| يستغله المحيط: عندما يستغله المحيطون كونه طفلًا معطاءً، بالتعدي على حقوقه من أبسطها لأكبرها، سواء كانت لعبة، أو وقت في اللهو، أو متعلقاته الخاصة، أو الطعام والحلوى الخاصة به.
| إرضاء الآخرين على حسابه: إذا بدأ طفلك يرضي الآخرين على حساب نفسه دائمًا، ويشعر بالسعادة لذلك، أو بمعنى أدق، إذا أصبح طفلك يمتد سعادته وقيمته من إسعاد الآخرين فقط من دون النظر لاحتياجاته النفسية والمادية.
اقرأ أيضًا: متلازمة الطفل الكسول: من حرّك قطعة الجبن الخاصة بي؟
| التخلي عن أغراضه: عندما يبدأ الطفل بالتخلي عن ممتلكاته للآخرين كاملة، ويفضل الشعور بالجوع، أو فقدان الاستمتاع، أو التنازل فقط لإرضاء من حوله.
| لا يستطيع قول " لا": عندما لا يستطيع الطفل قول "لا" لأي طلب سواء كان يرغب في فعله أو لا يرغب، فقط ليرضي من حوله.
| الإفراط بالمشاعر السيئة: الميل للوحدة والبكاء بلا سبب، والشعور بالضيق، وعدم الرغبة في ممارسة أي شيء جديد. لوحظ أن الأطفال المعطائين بلا حدود أكثر قابلية للتعرض للتحرش والابتزاز النفسي والعاطفي والجسدي.
| كيف نساعد أطفالنا على التوازن بين العطاء وتقدير الذات؟
تخبرنا كتب ومقالات التربية عن كيفية تربية طفل معطاء ومشارك. لكنها لا تخبرنا بوضوح إلى أي مدى نربي أطفالنا بهذه الطريقة، وكيف أن الإفراط في العطاء يحول أطفالنا لأشخاص فاقدي الثقة بأنفسهم لاحقًا، يشعرون بعدم الاستحقاق، وربما متهاونين في أبسط حقوقهم ومطالبهم. وحدها التجربة هي ما تخبرنا، حينما تُعتصر قلوبنا على معاملة الآخرين المستغلين لأطفالنا وتعرض الأطفال لصدمات متتالية ربما في الزملاء والأهل كذلك. إذا أردت تربية طفل متزن نفسيًا عليك أن تعلمه متى يقول "لا" ومتى يقول "نعم"، واترك كل شيء يعمل لاحقًا من تلقاء نفسه في مواقف الحياة المختلفة. ببساطة، كل ما يتعدي على سلامة الطفل النفسية وحقوقه المشروعة يجب أن يرفضه وبشدة وبصورة قاطعة.
| المشاركة الصحية: وهي تعني أن نشارك الآخرين بالصورة التي لا تغضبنا أو تمنعنا من ممارسة حقوقنا، على سبيل المثال؛ تقسيم أوقات استخدام الألعاب أو مشاركة ألعابه لوقت محدد، إحضار حلوى تكفي الجميع من دون أن يضطر بالتضحية بخاصته.
| حق الرفض: علينا أولاً أن نعترف وندرك حق الطفل في الرفض بالضبط مثل القبول، يتعلم الطفل هنا أن له حدودًا نفسية لا يمكن اختراقها، فإذا كان معتاد على مشاركة ألعابه مثلاً مع أخواته أو أصدقائه، فمن حقه في إحدى المرات أن يرفض ذلك من دون أن نضغط عليه أو نغضب منه.
| حق الاعتراض: نفترض أن الطفل المعطاء يحب إرضاء الآخرين والمشاركة معهم، لكنه أيضًا من حقه أن يعترض إذا كانت طريقة الآخرين غير مناسبة أو مزعجة له. مثلاً، شارك طفلك لعبته مع طفل آخر فكسرها. من حقه أن يعترض على ذلك، ومن حقه أن يرفض لاحقًا مشاركة هذا الطفل بلعبة أخرى مفضلة لديه.
| عدم ابتلاع شعور الأخرين: الشعور بالآخرين أمر جيد، وهو ما يجعل الطفل حنونًا ومشاركًا بالفطرة، لكن علينا التأكيد دائمًا على عدم التماهي مع هذا الشعور. شيء جيد أن نفرح أو نحزن لأحد أصدقائنا، ولكن غير جيد أن نظل في حالة مزاجية سيئة لفترات طويلة لهذا السبب.
| لست مستباحًا: كلما تعلم الطفل خصوصيته الجسدية وحقوقه النفسية مبكرًا، صار قادرًا على المنح والعطاء بصورة صحية. شيء جيد أن يشارك الآخرون بوقته وممتلكاته، ومن غير الجيد أن يكون ذلك مباحًا طوال الوقت بلا حدود أو قيود -خاصة في سن المراهقة المبكرة-.
| كن متسقًا مع الطفل: تعليم الطفل الحدود ينطبق عليك أيضًا، يرتبك الأطفال حينما تطبق القواعد والحدود في أماكن، ومع أشخاص من دون أماكن وأشخاص آخرين، لذلك علّم طفلك ألا يتهاون في حقوقه مع الأقارب والعائلة قبل الغرباء.
| كن قدوة لطفلك: يتعلم الطفل أسرع وأفضل بالمحاكاة، لذلك كل ما أردت تمريره وتعليمه لطفلك افعله أمامه، إذا كنت مربيًا معطاءً من دون حدود أرجوك توقف، ومارس عطائك باتزان يراه الطفل ويقلده تلقائيًا.
لم تكن رحلة التربية سهلة أبدًا، لكن تربية طفل بغرز متزن نفسيًا رحلة مستمرة طوال العمر، تُغرس بذورها منذ الولادة، وتروى بالسعي واليقين بأن الله يصنع أطفالنا على عينه. ليكبر الطفل إنسانًا يعلم كيف يحترم نفسه والآخرين، ويمتن لله عندما يملك كل شيء ولا شيء على حد السواء، إنسانًا ذو قلب سليم معطاء بحدود. فاللهم أرزقنا حُسن الغرس والصبر الجميل.