بنفسج

سمر صبيح: حكاية فلسطينية تعيش أمومتها الأولى في الأسر

الأحد 17 ابريل

ربما يكون من الطبيعي أن تُقاد أسيرة من الزنزانة إلى مكانٍ ما مكبلة اليدين والقدمين، لكن أن تكون هذه الأسيرة حاملًا، ووجهتها هي المستشفى للخضوع إلى ولادة قيصرية، فهذا ما يُثير الغرابة. لكنه ما حدث فعلًا مع سمر، وقد رفضت رغم كل ما يعتريها من آلام الخضوع إلى تخدير كامل، لأنها لا تأمن غدر الاحتلال الإسرائيلي، فأصرّت بقوة من الله أن تُخدَّر جزئيًا، وتشهد عملية خروج جنينها إلى النور وهي مكبلة بأطراف السرير، وقلبها لا يهدأ نبضه وهي ترى روحًا من روحها تخرج من رحمها ولا يمكنها احتضانه، فقد انتزعه الاحتلال فور خروجه إلى حضانة المستشفى.

هي الأسيرة الفلسطينية سمر صبيح، ابنة مخيم جباليا الذي كبرت فيه ودرست في مدارسه حتى التحقت بالجامعة الإسلامية تخصص دراسات إسلامية. انتقلت بعدها سمر إلى الضفة الغربية لتبدأ حياة زوجية سعيدة، لكن جيش الاحتلال لم يهنأ له ذلك، فاعتقلها في مدينة طولكرم وهي حامل في شهرها الأول بعد محاصرة بيتها بالجيبات والكلاب البوليسية على حينِ غرة.

| تنكيل وعذاب

سمر صبيح، ابنة مخيم جباليا الذي كبرت فيه ودرست في مدارسه حتى التحقت بالجامعة الإسلامية تخصص دراسات إسلامية. انتقلت بعدها سمر إلى الضفة الغربية لتبدأ حياة زوجية سعيدة، لكن جيش الاحتلال لم يهنأ له ذلك، فاعتقلها في مدينة طولكرم وهي حامل في شهرها الأول بعد محاصرة بيتها بالجيبات والكلاب البوليسية على حينِ غرة.
 
في عام 2005، طوّق جيش الاحتلال الاسرائيلي منزلها من الجهات الأربع، تصف المشهد قائلةً: "عجت باحة البيت بالجنود، فلم أكن أعرف أنهم قادمين لاعتقالي إلا حين صوبوا كشافاتهم نحو غرفتي بالتحديد، وأخذوا ينادون عبر مكبراتهم بالإخلاء فورًا.

في عام 2005، طوّق جيش الاحتلال الاسرائيلي منزلها من الجهات الأربع، تصف المشهد قائلةً: "عجت باحة البيت بالجنود، فلم أكن أعرف أنهم قادمين لاعتقالي إلا حين صوبوا كشافاتهم نحو غرفتي بالتحديد، وأخذوا ينادون عبر مكبراتهم بالإخلاء فورًا. وخلال 7 دقائق فقط اقتحموا بيتي بشكل وحشي ودخلوا إلى غرفتي مباشرةً وصادروا الأوراق والصور والهواتف، وأخرجوا الجميع إلى باحة البيت".

داخل بيتٍ خشبي بعيد عن منزلها، وضعوها للاستجواب الأوليّ وطلبوا منها التفتيش بشكل عارِ أمامهم، مصوبين أسلحتهم في وجهها، فرفضت قائلةً: "لو قتلتوني مش هتفتش عاري، معكم مجندات هما يفتشونني". وصممت على موقفها إلى أن خضع الاحتلال لها، ثم ألبسوها "أبرهول الاعتقال"، وهو اللباس الذي يرتديه الأسير لنقله إلى التحقيق.

أثناء التحقيق العسكري أمام بيتها، أخبرتهم بحملها جنين في أحشائها، محملةً إياهم مسؤولية أي مكروه قد يُصيبهما، لكنهم لم يُعيروا كلامها اهتمامًا وقيدوا يديها وقدميها "بالكلبشات البلاستيكية"، وعصبوا عينيها ووضعها داخل "الجيب العسكري". بتنهيدةٍ تستذكر سمر: "كانت المجندة الإسرائيلية تمسك بيدي، وصوت الكلب يلهو بالأصفاد الحديدية بفمه، لم أرَ لكنني سمعت كل شيء، في ما لم أكن أعرف إلى أين يأخذونني، وعندما فتحت عيني، وجدت نفسي في معسكر للجيش الإسرائيلي وهناك حققوا معي لنصف ساعة".


اقرأ أيضًا: مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش


مباشرة، من التحقيق إلى مستشفى هداسا-عين كارم في مدينة القدس، أخضعوها للتصوير بجهاز الموجات فوق الصوتية "الألتراساوند" وتأكدوا من حملها، ثم نقلوها إلى تحقيق المسكوبية. تصف ذلك: "إنه أصعب أنواع التحقيقات، لأنه يتمتع بمركزية الشاباك الإسرائيلي الذي يتفنن بكل أنواع التعذيب، فبداخل غرفة التحقيق كرسي مثبت بالأرض يكاد يصلها لقِصر طوله يسمى "كرسي الشبح". قُيدت يداي وقدماي خلفه ولم أستطيع الحركة، وبقيت على هذا الحال ما يزيد عن عشر ساعات متواصلة، يجلس المحقق أمامي على الطاولة، وهدودا بقتلي وأهلي، أو التحرش الجنسي، أو هدم منزلي، وهكذا يتغير المحقق كل نصف ساعة ولا يتغير الأسلوب".

أثناء التحقيق يُعزل الأسير عن العالم الخارجي، ويُمنع من رؤية المحامي، وزيارات الأهل، وحتى الصليب الأحمر، وهذا كله للضغط نفسيته وجبره على الاعتراف بأشياء لم يرتكبها، فماذا يفعل الاحتلال حين يفشل في نزع الاعتراف؟ يضعه لمدة طويلة في سجن العصافير "العملاء" لأنه يكون منهكًا من التحقيقات وبحاجة للفضفضة، فيبوح بأشياء لم يقلها من قبل، وهذا أصعب ما يتعرض له الأسير، ثم يُنقل بعدها كلٍ حسب جنسه، فإلى سجن الدامون الأسرى الذكور، وإلى سجن هاشرون الأسيرات الإناث.

| جنين في الأسر

inbound8252355012415587496.jpg
الأسيرة المحررة سمر صبيح مع ابنها المولود بين أروقة المعتقلات الإسرائيلية

سُطِرت قائمة التهم الباطلة التي وجهت لسمر بـ 31 بندًا، حيث اتهمت بتنفيذ أعمال طلابية في الجامعة الاسلامية بقطاع غزة، وادّعى الاحتلال أن سبب مجيئها للضفة الغربية لأعمال مقاومة، وهناك حكم عليها بالسجن المؤبد و30 عامًا، ثم خضعت الفتاة التي لم تكن تبلغ من العمر ٢٥ عامًا حينها، وخلال عامٍ كامل إلى (16) محاكمة عسكرية في عوفر، ولم تعترف بكل التهم الموجهة إليها، فاضطروا إلى تخفيف حكمها إلى سنتين وثمانية أشهر.

زنزانة تحت الأرض بطابقين "كل ما أذكره أنني نزلت أدراج كثيرة"، لا يوجد أي منفذ للهواء أو الشمس، ولا نافذة يُعرف منها النهار أو الليل، فسوؤها يفوق التوقع بكثير، بداخلها حفرة بالأرض لقضاء الحاجة تخرج منها الفئران والصراصير، وفرشة رقيقة جدًا كي لا ينعم الأسير بنومه أبدًا، وكلما غفي لربع ساعة يستيقظ على وقع صراخ وطرق السجان بالزنزانة متعمدًا.

وفي حديثها هنا ما تقشعر له الأبدان إذ تقول: "هل تصدقون؟ كنت أعرف مواعيد الصلاة بإلهامٍ رباني، نعم فقد دخلت السجن في تاريخ 29/5/2005، في الثالثة فجرًا. وحسبت بعد ساعة من دخولي السجن سيأذن الفجر وبعد 6 ساعات يكون الظهر، وهكذا بقيت أحسب لمدة 66 يوم تحت الأرض لم أخرج منها سوى للتحقيق، ناهيك أن ما يقدمونه من طعام مُقرِف للغاية يتعمدون وضع الصراصير عليه حتى يشمئز الأسير، فلا يتناوله وتضعف بنيته، وهذا ما حدث معي، فبدلًا من أن يزداد وزني خلال الحمل نزل بشكلٍ حاد من ٧٠ إلى ٤٥ كيلو غرامًا".

لم يشفع وضع سمر كونها "حاملًا" لها عند الاحتلال الإسرائيلي، فقد تنقلت وجنينها بين المحاكم الإسرائيلية مغمضة العينين ومقيدة اليدين، تجلس في "البوسطة" على كرسي حديدي، شبابيكها مغلقة كي لا ترى العالم الخارجي، يتعمد السائق الإسرائيلي القيادة بشكل همجي حتى تُطرَح أرضًا وتفقد جنينها، كما حُرِمت من مكالمة هاتفية مع والدتها لتستشيرها في فترة الحمل، فلا طعام جيد يتغذى جنينها عليه، ولا طبيب تزوره لتكذب شعورها حين راودتها شكوك بفقدان جنينها.

تقول: "في الشهر السادس من الحمل لم أعد أشعر بحركة الجنين، أدركت أن نبضه قد توقف، فطلبت من إدارة السجن زيارة الطبيب فورًا، لكنهم لم يستجيبوا حتى أصررت على طلبي للمرة السادسة". وبالفعل، كان نبض الجنين ضعيفًا جدًا، حيث لم تتلقَ سمر الطعام الجيد ولا فيتامين الحديد، فرغم تهافت الأسيرات على تقديم كل ما يصلهن من فاكهة مرة واحدة أسبوعيًا لكنها لم تتجاوز مرحلة الخطر، وكن قد طالبن إدارة السجون بدخول أقراص الحديد، حيث هددن بالإضراب عن الطعام في حال لم تتم الاستجابة لطلبهن، وهنا رضخت الإدارة ونجت سمر وجنينها أخيرًا.

| أمومة معتقلة

سمر مع براء.jpg
الأسيرة المحررة مع ابنها براء الذي ولد في سجون الاحتلال الإسرائيلي

على الجمر كانت تتقلب سمر خوفًا وقلقًا مع اقتراب موعد ولادتها، حيث لم تخضع للفحص الطبي إلا لمرة واحدة. وفي الثانية، أخبرت، مصلحة السجون، الممثلة عن الأسيرات آنذاك، أحلام التميمي، بموعد خضوع سمر لعملية ولادة قيصيرية نتيجة عدم تهيئ الجنين للولادة الطبيعية بسبب ضعف قدرتها على الحركة داخل المعتقل، حيث لا تستطيع المشي إلا أثناء فترة الاستراحة في الفورة وهي 45 دقيقة يوميًا فقط.

في 30 نيسان/أبريل 2006، ودّعت سمر رفيقات الأسر وملابس الطفل بيديها، وعلى سرير مستشفى مئير-كفارسابا داخل أراضينا المحتلة وضعت مولودها البكر "براء" في أجواء مهيبة للغاية، توضح: "بدأت العملية وأنا يقظة. نعم، لقد رأيت خروج ابني من أحشائي لكني لم أستطع احتضانه كأيّ أم تعيش أمومتها للمرة الأولى، فقد كنتُ مقيدة اليدين والقدمين، ونزع الطبيب الإسرائيلي الصغير بلمحِ البصر، وأخذوه إلى حضانة المشفى مباشرةً". لم يكُن أسبوع المولود عاديًا، فقد استقبلت الأسيرات سمر وطفلها في سجن هاشرون بالطرقِ على الأواني والزغاريد والأناشيد الفلسطينية، فتحولت دموع القهر على وجنتيها إلى فرحةٍ عارمة، وحصل براء على لقب أصغر أسير فلسطيني آنذاك. وقد كسر روتين السجن بقدومه، فلم تكن له أمٌ واحدة فقط، بل كل الأسيرات أصبحت أمهاته، فمنهن مَن لم ترَ مولود منذ عقود.

في 17 كانون الأول/ديسمبر 2007، كانت سمر وطفلها على موعد مع الحرية بعد انتهاء مدة حكمهما كاملة، فعلى معبر بيت حانون "إيرز"، استقبلهم زوجها وعائلتها وأبناء الشعب الفلسطيني كافة، وسط حشود مهيبة، تقول: "حين رأيتهم شعرت بالفخر والاعتزاز وبقيت فرحتي ناقصة، لأنني تركت خلفي 100 أسيرة يعانين ويلات الاحتلال الإسرائيلي". ومن هنا أدركت سمر بعد خروجها من الأسر، أنه من الضروري أن يكون للأسيرات صوت حر ينطق بقضيتهن من الخارج، فأصبحت بعد نيلها درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، عضو مجلس إدارة في جمعية واعد للأسرى والمحررين تنادي بحقوقهن، وتسعى لانتزاع حريتهن.