بنفسج

كي لا ننسى.. شيرين الغائبة الحاضرة

الأربعاء 13 يوليو

في أحدِ الأمثالِ الشعبيةِ المشهورة يُقال: (أن منْ يقولُ الحقيقةَ يُطردُ من سبعِ قُرى). هذا المثلُ يُضْرَبُ في العالمِ العادي الطبيعي، أما الذي يقولُ الحقيقةَ في بلادي فلسطين وينقلها، يُغيّبه الموتُ السحيق، إما برصاصةٍ قناصٍ، أو مدفعيةٍ، أو صاروخٍ مسعورٍ يقفز فوقه. وهذا هو حالُ الصحفيين في بلدي، وحال شهيدةِ الكلمة الحرة، الصادحة ثورةً، وصمودًا (شيرين أبو عاقلة). أقمارٌ تُخْسفْها نيران مدافعهم، ولهيبها، في محاولةٍ فاشلةٍ لطمسها. يُدميني ويؤلمني أن أكتب عنها وهي مغيبة الجسد، مع حضورِ روحها وصوتها.

في الحادي عشر من أيار/مايو شهر النكبات المتتابعةِ، والمتعاقبة وأيار بريءٌ من الطالع السيء، كبراءة الذئب من دمِ ابن يعقوب، وقبل ذكرى النكبة الفلسطينية، وسرقةِ العصاباتِ الصهيونية المجرمة لأرض فلسطين بأربعة أيام. طرَحَتْ رصاصةُ جُنديٍ استعماريٍ منبوذ من أصقاع الأرض، جسد شيرين الأرض في جنين القسام، أرض المعارك، والبطولات المجلجلة. شيرين، التي كانت ترنو في الوديانِ، والسهول، والجبال، والمخيمات الفلسطينية، فتجدُ غرباءَ متوحشين يقفزون على أرضها، فتتبخترُ في مِشْيَتِها وأصدقاؤها؛ لأنهم يعرفون أرضهم وتعرفهم، فلا تُنْكِرُ عليهم مرحهم، وتدللهم عليها.

الأملُ في أن كل هذا سيختفي يومًا وكأنه لم يكن، حلمها القريب في مخيلتها الساريةِ فينا، بأنها ستبثُ يومًا ما أخبارَ الانتصارِ، والتحرر؛ موقِعَةً باسمها: (شيرين أبو عاقلة)، القدسُ المُحَرَرَة، لا المُحْتَلَّة. اليوم، شيرين بعيدةٌ بجسدها، قريبة بخطاها، كل خطوةٍ خطتها، وصلت لقلوبنا نحن الفلسطينيون، وللعالمِ أجمع.

شيرين أبو عاقلة، زنبقةٌ من زنابقِ فلسطين، صوتها وتوقيعها في نهاية النشرة كانت موسيقى ونغمةٌ لا يكتمل اللحنُ إلا بها، حمامة مقدسية بَنَت عُشها في القدس المحتلة، تقاوم كما يقاوم أبناء جِلْدتها، متشبثين ببيوتهم التي تنظُرُ إليها الضباع الصهيونية ، فاتحةً شدقيها يسيل منها لعابهم النتن. صاحبةُ موهبةٍ عالية نادرة، وموهبتها هي الأمل، الأملُ الذي أعانها على صعوبةِ الطريق، على الأسلاكِ، والأشواك، النارِ والدخان، وحواجزِ التفتيش، ونقاطها.

الأملُ في أن كل هذا سيختفي يومًا وكأنه لم يكن، حلمها القريب في مخيلتها الساريةِ فينا، بأنها ستبثُ يومًا ما أخبارَ الانتصارِ، والتحرر؛ موقِعَةً باسمها: (شيرين أبو عاقلة)، القدسُ المُحَرَرَة، لا المُحْتَلَّة. اليوم، شيرين بعيدةٌ بجسدها، قريبة بخطاها، كل خطوةٍ خطتها، وصلت لقلوبنا نحن الفلسطينيون، وللعالمِ أجمع، دمها الطاهر نزفَ من عروقها، وشربته أمها الأرض بتلهفِ الظمآن الذي لم يرتو رغم كثرةِ الدماء.


اقرأ أيضًا: شيرين أبو عاقلة: حوار لم يكتمل مع بطلة قصة رحلت


جنين التي عرفتها شيرين بكل حجرٍ وشبر، تركضُ مع أهلها مادةً يدَ المساعدةِ بكل ما تملك من قوةٍ بل وأكثرَ من ذلك، تُعينُ أم شهيد، وتشُدُ على يدِ أم أسيرٍ أو مطارد، تركضُ وتركض إلى أن تذوب تمامًا، وتأفلَ الشمس، فلا تأفلُ هي؛ لأنها مع القمرِ ظاهرة، كنجمةٍ عملاقةٍ برَّاقةٍ لامعة في سماء فلسطين.

اختلفتْ الصورُ، وصورُ الحياةِ تنوعت، فمنذ اغتالتها مخالبُ الغدر الصهيونية، وُلِدَت مجددًا من رمادها، (عنقاءُ فلسطين)، حاولوا تغييبها، ولكن الغيابَ لم يُضِيرها، بل زادها حياةً على حياة. التحقت في مجالها الإعلاميّ، والتغطيةِ الحالكة في بلدها المُحْتَلَّة، في فلسطين من  دون أن تخاف أو تخشى نهايةَ الطريق المعروفة والمتوقعة، كانت تدري تمامًا أن نهايةَ هذا الطريق مؤديةٌ إلى وادي الموت.

من كان يدري أن تلك البقعةَ، والركن العاديَ من الشارع، سيتحولُ إلى مزارٍ مليءٍ بالورود والرياحيين، يقدمها الصغارُ والكبار تكريمًا واحتفاءً بهذه الأرض التي توسدها جسدُ شيرين، فعانقتها هي بحنانها بعد طولِ اشتياق، تستنشق رائحتها كطفلٍ أُخرِجَ من رحم أمه، تحسسها، وتيقنها من رائحتها التي ألفها في أحشائها.

في ذاك الصباح الحزين، حين اخترقت رصاصةُ الشر، والغدرِ رأس شيرين، واستقرت به، بل وأمعنت داخله فتفجرت فيه. رصاصةٌ طائشةٌ ووقحة، كحالِ من أطلقها، لو كانت تدري إلى أين الوجهة، وأين هو مستقرها لتباطأت، ولربما استدارت، فتمكنت من ذاك الوحش الغادر الجبان المتخفي خلف سلاحه الناري الهش. تتابعت الرشقاتُ متتاليةً متوالية، ارتفعت واتسع صداها في المكان، رشقاتٌ من مصدرٍ واحد لا ثانيَ له، تُخرُجُ من أيدٍ خائفةٍ جبانة متسترة وراء مدافعها.

حاولوا إبعاد زملائها وأصدقائها عن المكان، ولكنهم أبوا إلا المكوثَ مكانهم، خلف الشجرة كانت تقبعُ (شذى)، محاولةً سحب صديقتها (شيرين)، لكن زخاتٍ الرصاص كانت كفيلةً بكفِ يديها. وتبخرَ الصمتُ وتلاشى مع الريح، وخرجت الجموع غاضبةً حانقةً على المحتل الذي قتل صاحبة الكلمةِ الحرة الصادقة، ساروا على الرصيف يلاحقهم الجُند المدَجَجُ بالسلاح والعتاد، يجلبونَ عليهم بخيلهم المعصوبَةِ الأعين، وبهرواتهم الثقيلة، محوطين حواشي المكان، يحملُ الشباب النعش فوق الأكتاف رغم الضرب المُبَرِّح الذي يتعرضون له، هؤلاء هم حملةُ النعش، مجردين من أي شيء، حتى أيديهم كأنها لم تكن لهم، بل كانت لشيرين حاملةً رافعة لها، يرفضون الخنوع يدافعون عنها ويحفونها بمحبتهم ووفائهم، كما كان حالها وعهدها معهم.

سـألـهـم بـعـض المارة مـن الـسيـاح الأجـانـب ومـا هـو ذنـب الـطـفـل؟ فـأجـابـوا: سيـكـبـر ويـسـبـب خوفاً لابن الخائـف. ومـا هـو ذنب المرأة؟ قـالـوا: ستلد ذاكـرة. ومـا هـ وذنـب الـشـجـرة؟ قـالـوا: سيطلع منهـا طـائـر أخـضـر. وهـتـفـوا: الخوف، لا الـعدل، هـو أســاس الملـك. أمـا شـبـح الـقـتـيل، فقد أطـل عـلـيـهـم مـن سـمـاءٍ صـافية. وحين أطـلـقـوا عـلـيـه الـنـار لم يـــــــروا قـطـرة دم واحــــــــدة! .. صـاروا خائفين!

كيف يخافون ويهابون، هذا ما رأيناهُ على شاشاتِ التلفزة، كيف يخافون من نعشها، كيف يزاحمونها في موتها، يريدون الدوس على رُفاتِها، أيُ وحشيةٍ هذه، أيُ احتلالٍ هذا، أيُ مشهدٍ هذا يا فلسطين، فتشوا كتبَ التاريخ، وأمعنوا النظر في جرائم المحتلين، لن تجدوا أبشع وأضعفَ من هكذا احتلال، احتلالٌ قاتل خائف، من خلودنا واندثارهم الذي بات قريبًا جدًا جدًا.

أي شيءٍ هذا، وكيف يكون، يزاحمون الجسد المُنْهَك، ويدفعونه هنا وهناك، ولا يعلمون بأنها هناك من فوقهم تنظر إلى هذهِ البلاهةِ، والدنيوية التي يعيشون بداخلها. ما ضرُ الجسد، والروح ألقة، ما ضر الأسودِ وإن رقصت على أجسادها الكلاب، أيضيرُها نهشها لهذا البدن البالي المُنهك، والروح عند بارئها غضةٌ طرية. أودِعَ الجسدُ التراب، وغرسوه في أمه الأرض، سلموها أمانتها بعد طول غيابٍ واشتياق، فاندمجا معًا يُزيلان أشواق السنين، يتضاحكان ويقهقهانِ من حلاوةِ، وروعةِ ما ستؤول إليه هذهِ البلادُ بعد القليلِ من السنين.

والبعض الآخر، من فقهاء التمييز بين الـواقـع والحيـاة، يـقـول لـو وقـفـت هـذه الحادثـة الـعـاديـة في بلاد أخـرى غـيـر هـذه الـبـلاد المقـدسـة أكـان لـلـقـتـيـل اسـم وشـهـرة؟ لنذهـبن، إذن، إلـى مـواسـاة الخائـف وحـيـن مـشـوا في مـسـيـرة الـتـعـاطـف مع الـقـاتـل الخائف، سـألـهـم بـعـض المارة مـن الـسيـاح الأجـانـب ومـا هـو ذنـب الـطـفـل؟ فـأجـابـوا: سيـكـبـر ويـسـبـب خوفاً لابن الخائـف. ومـا هـو ذنب المرأة؟ قـالـوا: ستلد ذاكـرة. ومـا هـ وذنـب الـشـجـرة؟ قـالـوا: سيطلع منهـا طـائـر أخـضـر. وهـتـفـوا: الخوف، لا الـعدل، هـو أســاس الملـك. أمـا شـبـح الـقـتـيل، فقد أطـل عـلـيـهـم مـن سـمـاءٍ صـافية. وحين أطـلـقـوا عـلـيـه الـنـار لم يـــــــروا قـطـرة دم واحــــــــدة! .. صـاروا خائفين!