بنفسج

"بتذكر معلمتنا كانت..": حين يحضر فينا المعلم

الأحد 09 أكتوبر

منذ صغري وأنا أحب المدرسة، وكبرت وكبر حبها في قلبي. كنت على عكس الكثيرين، أكره عطلة نهاية الأسبوع. بعد تخرجي ودراستي للأحياء في الجامعة، عدت مباشرة لبيئة المدارس التي أحب، وعملت معلمة لمدة ١١ عامًا، أتبعتها بسبع سنوات أخرى في مجال الإدارة. فعليًا قضيت ما يقارب نصف عمري في المدارس، بين كوني طالبة ومعلمة ومديرة. أشتاق كثيرًا لمهنة التعليم، وأحن للأيام التي كنت فيها معلمة. وأستطيع القول إنني لم أكن معلمة عادية، وإنني استطعت أن أترك أثرًا وبصمة في نفوس البعض من طلابي وطالباتي الذين أراهم الآن وقد تخرجوا ودخلوا معترك العمل، وتميزوا في مجالاتهم المختلفة.

أنظر إليهم بعيون الفخر، ويراودني ذلك الشعور الجميل بالرضا بأني كنت يومًا ما معلمة لهم. وأتمنى في داخلي أن أكون قد أثّرت بشكل إيجابي في البعض منهم على الأقل. أقدّر كثيرًا مهنة التعليم، وأنظر إليها كمهنة راقية، رغم صعوبتها وحساسيتها، وأؤمن بالرسالة السامية التي يجب أن ينشرها المعلم، وأدرك ثقل الأمانة التي لا يشعر بها إلا من كان معلمًا مخلصًا. بما أني كنت ولا زلت في الميدان،  فإني أتعاطف جدّا مع المعلمين، وأعلم حجم الأعباء الملقاة على عاتقهم، والمصاعب التي يواجهونها.

أعلم علم اليقين أن التعليم من أقل المهن تقديرًا، وأنه يعتبر مهنة من لا مهنة له، لذلك نرى قلة من الخريجين الذين يقبلون على التعليم بشغف وحب. أؤمن بشدة أن كونك معلّمًا، يتخطى المعلومات الموضوعة بين دفتي كتاب، ويتجاوز بأميال دفتر التحضير. أحيانًا، يشرد ذهني وأنا أفكر بعظم المسؤولية التي يحملها المعلم، والتي لو أدركها لبكى خشية من التفريط بها، ولو أدركها الناس، لانحنوا للمعلم إجلالًا وتقديرًا.

وفي نفس الوقت، وللأسف، أعلم علم اليقين أن التعليم من أقل المهن تقديرًا، وأنه يعتبر مهنة من لا مهنة له، لذلك نرى قلة من الخريجين الذين يقبلون على التعليم بشغف وحب. أؤمن بشدة أن كونك معلّمًا، هذا يعني أنك تتخطى المعلومات الموضوعة بين دفتي كتاب، وتتجاوز بأميال دفتر التحضير، والعلامات ودفتر الحضور والغياب. أحيانًا، يشرد ذهني وأنا أفكر بعظم المسؤولية التي يحملها المعلم، والتي لو أدركها حد البكاء خشية من التفريط بها، ولو أدركها الناس، لانحنوا للمعلم إجلالًا وتقديرًا.

في بداية كل عام دراسي، ومع خروجي يوميًا إلى العمل، تلفتني حركة الشوارع النشطة، فأراقب السيارات والحافلات التي تنقل الطلاب إلى مدارسهم، أراقب بفرح طفولي كل المشاهد الجميلة حولي. الطلاب والمشاة الذين يحملون حقائبهم ويلبسون الزي المدرسي الجديد، بوابات المدارس المكتظة بالأهالي الممسكين بالأيادي الصغيرة، تشدّني تمشيطات البنات الصغيرات، والخصلات المجدلة بعناية، والشبرات البيضاء الجميلة، أتخيل الوقت الذي قضته الأمهات صباحًا في تسريح شعور بناتهن، وتحضير صناديق الطعام لأطفالهن. جميلة جدًا هذه الصورة، لكن تخفي وراءها جانبًا مخيفًا جدًا. دعوني أعيد صياغة ما سبق بلغة صريحة بعيدة عن المجاملة والصور التعبيرية.


اقرأ أيضًا: "ماما يا مس؟": حينما أصبحتُ معلمة لأول مرة


عام دراسي جديد، يعني أن يرسل الأهل فلذات قلوبهم، وأغلى هبات الله، إلى مدارسهم. يرسلونهم بإرادتهم بعيدًا عن أعينهم، إليكم أنتم أيها المعلمون والمعلمات، يفصلون أبناءهم عنهم، ويرسلونهم إلى المكان الذي يؤمنون فيه أنه المكان الآمن لهم، وأنه المكان الذي سيتلقون فيه التربية والتعليم اللازمين لتربية مواطنين صالحين. يخيفني هذا التفكير، يخيفني أن تكون المدرسة مسؤولة عن صناعة هذا الإنسان الذي سيعيش في كنف المدارس لمدة 12 عامًا تلي عامين في الروضة. يدفعني هذا الخوف للتفكير بالتأهيل الذي حصل عليه الخريجون قبل أن يُسمح لهم بالتدريس. أعرف الإجابة مسبقًا، فأخاف أكثر!

يدخل المعلم سوق العمل متسلحًا بالحد الأدنى من المقومات التي تجعل منه معلمًا جاهزًا ليكون شريكًا في بناء الإنسان. فليست العلامات التي حصل عليها في الجامعة هي المقياس، ولا كم المعلومات التي انتقلت إليه وأصبح مستعدًا لينقلها إلى غيره هي المعيار. ولا ذنب للمعلمين في ذلك، فهذا ما تعلموه، وهذا ما عرفوه. لو كان الأمر بيدي، لخصصت الميزانية الأكبر لدعم قطاع التعليم، وعملت على بناء المعلم الإنسان. لو كان الأمر بيدي لجعلت تأهيل المعلمين يتجاوز سنواتهم الأربعة في الجامعة، ولألزمتهم بالورشات والندوات والدروس التي تساعدهم على تحضير الجيل لتحديات المستقبل.

لو كان الأمر بيدي، لجعلت راتب المعلم هو الأعلى، وامتيازاته الأكثر، لو كان الأمر بيدي، لجعلت مهنة التعليم حلمًا لا يتحقق الا بالكفاءة العالية. لو كان الأم بيدي لعكفت على إعداد منهاج "بناء_الإنسان" بالتوازي مع المنهاج الأكاديمي، حتى يتعلم الطلبة ما لا يمكن أن يتعلمونه في الكتب المدرسية الأخرى، ليتخرج الطلاب من مدارسهم وجامعاتهم مواطنين صالحين، أصحاب ذهن متقد وقلب كبير، يحملون هموم الإنسانية كأنها همومهم الشخصية، ويحملون فكرًا فضوليًا ناقدًا لا تابعًا. جيلًا واعيًا مثقفًا قادرًا على العطاء والبناء، قائدًا في إدارة الأزمات، بارعًا في حل المشكلات وتقبل الاختلافات.

أكره أن أكون من أولئك الذين يلعنون الظلام فقط، بل أحب أن أكون من الذين يضيئون شمعة. ولهذا، أقول يا معشر المعلمين والمعلمات، دعونا لا ننتظر أن تحصل معجزة وينقلب الحال، فلتبدأ أنت بالتغيير، ولتنظر إلى طلابك كمشاريعك الخاصة والتي تريد أن تتميز بها، وتتفرد بمخرجاتها الراقية، كن أنت الشمعة وأبدأ الآن! وكلما استيقظت صباحًا لتذهب إلى مدرستك، تذكر أنك مسؤول عن أمانة عظيمة، وأن هذا اليوم الجديد هو فرصة جديدة لتترك أثرًا طيبًا في نفس أحدهم على الأقل.