بنفسج

بيسان وصفي قبها: زهرة "نصير الأسرى" وغرسه

الأحد 19 فبراير

"حبيبة أبوكي أنتِ.. بنت أبوكي بصحيح".. تلك الكلمات كانت تجعلها تحلق كعصفور نال حريته للتو، وتسأل نفسها هل أنا مثله حقًا "يا هناي يا فرحي". هو رجل محب يقدس العائلة، فكان فخرها وقدوتها على الدوام، لم يكن والدها رجلًا عاديًا في نظرها وبنظر فلسطين كلها، فهو أسير سابق، عايش حياة الاعتقال في سجن "هداريم" الذي يُعتقل به أسرى المؤبدات، وحين أُفرج عنه وودع رفاقه في السجن، وصل بيته منهكًا من حزنه، ففقد وعيه.

يعرفه الشارع الفلسطيني بـــــــــ"نصير الأسرى"، فهو أفضل من يروي قسوة التجربة بحكم معايشتها لأربعة عشر عامًا متفرقة، لم يتراجع يومًا عن وجوده في ميدان المواجهة، ولا عن قول رأيه الحر، ودفع ثمن ذلك من أمنه واستقراره، فعاش أسيرًا ومطاردًا طوال حياته، وحُرم من قضاء أجمل الأوقات مع أبنائه، ولكنه كان راضيًا يزرع الرضا والحب في نفوس عائلته ويردد "كله بهون لأجل الوطن ".

نصير الأسرى

الرجل القائل "لن أصمت إلا تحت التراب" لم يخف ولو لمرة من قول كلمة الحق، وهو يعلم جيدًا أنه سيدفع الثمن غاليًا من حياته وحريته، كان نصيرًا للكل الفلسطيني بغض النظر عن توجهاته وأثبت وجوده في كل المجالات الاجتماعية والوطنية والمهنية، هو أول الملبين لكل الوقفات التضامنية مع الأسرى، تعرفه كل بيوت الشهداء والأسرى بلا استثناء.
 
"نصير الأسرى" في كل مرة يخرج من السجن يعاني القهر والحزن على رفاقه الذين عاش معهم ليال طوال، كانوا يخبرونه بأن أحلامهم تتجسد في قضاء ليلة واحدة برفقة عوائلهم لتناول طعام العشاء على ضوء القمر.

بيسان قبها تتحدث لــ "بنفسج" عن والدها والصديق الأول في حياتها الأسير المحرر ووزير الأسرى السابق وصفي قبها الذي أحب جنين وبلدته برطعة، وعاد إليها راكضًا بعد غربة استمرت سنوات لدراسة الهندسة المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية وقال وقتها: "عدت وقد أعادني خبز الطابون".

تقول بيسان لــ "بنفسج": "تربيت في ساحات السجون الإسرائيلية منذ طفولتي، كنا في كل زيارة نود أن نرتمي بين أحضانه، لكن الزجاج الفاصل بيننا يحول دون ذلك في كل مرة ، رأيت دموع والدي المشتاقة لنا في كل زيارة، وعلى الرغم من سجنه إلا أنه كان حريصًا على متابعة ما يجري في الخارج، ويرسل برقيات التهنئة أو التعزية للأهل والأحباب، وله حضور في كل المناسبات بالرغم من غيابه القسري".

الرجل القائل "لن أصمت إلا تحت التراب" لم يخف ولو لمرة من قول كلمة الحق، وهو يعلم جيدًا أنه سيدفع الثمن غاليًا من حياته وحريته، كان نصيرًا للكل الفلسطيني بغض النظر عن توجهاته وأثبت وجوده في كل المجالات الاجتماعية والوطنية والمهنية، هو أول الملبين لكل الوقفات التضامنية مع الأسرى، تعرفه كل بيوت الشهداء والأسرى بلا استثناء.


اقرأ أيضًا: كيف يحيا فينا الشهيد؟ في ضيافة عائلة الشهيد رائد مسك


تضيف الابنة بيسان: "في اعتصامات الأسرى المضربين عن الطعام كان يعود إلى المنزل بماء وملح ويجعلنا نشرب منها حتى نشعر بما يشعره ويعانيه الأسرى".

"نصير الأسرى" في كل مرة يخرج من السجن يعاني القهر والحزن على رفاقه الذين عاش معهم ليال طوال، كانوا يخبرونه بأن أحلامهم تتجسد في قضاء ليلة واحدة برفقة عوائلهم لتناول طعام العشاء على ضوء القمر. تردف بيسان: "أذكر مرة خرج فيها والدي من الأسر من قهره وبكائه على رفاق قيده الذين تركهم خلفه، ارتفع لديه مستوى السكر في الدم وأغمي عليه على باب السجن، ونقل إلى المستشفى".

العائلة البيت الآمن

22.jpg
نصير الأسرى وصفي قبها مع ابنته وزوجته

وعن علاقة الأب والابنة، بيسان كانت كاتمة أسرار أبيها ومستشارته العقلانية ، فما أعظم أن تكون الفتاة صديقة والدها ومأمنه، حين يتداعى عليه العالم بأسره يركض نحوها لتطبطب على قلبه بحنو. تقول بيسان بابتسامة رقيقة: "والدي شجعني على الالتحاق بالدراسات العليا، وفي فترة تقديم امتحانات التوظيف كان يصطحبني هو ووالدتي إلى رام الله وينتظراني حتى أنتهي، وخلال عملي التطوعي أيضًا أصرّ أن أكمل ثلاثة شهور وكان يعتني بابني، ويلتقط له الصور التذكارية بكثرة، فهو من محبي توثيق الذكريات بالصور".


اقرأ أيضًا: نورا ومحمد.. 48 مؤبدًا بميثاقِ حُبٍّ وانتظار


نور قلب وصفي قبها كان ساطعًا وشمسه تبث الدفء في قلوب من حوله، أثناء سجنه كان يبعث لأبنائه بملخصات الكتب والمقالات التي قرأها، وفي حريته يناقشهم بكل القضايا، يقدم النصح والإرشاد دون إجبار أو تنفير، حنونًا محبًا يحرص على جلب الهدايا في كل المناسبات، يهدي بناته وزوجته الورود بشكل دائم ، لم تنس بيسان أن تخبرنا عن والدتها التي جسدت نموذج للمرأة الصابرة المحتسبة، فكانت نعم الأم والأب طوال فترة غياب زوجها.

رحيل نصير الأسرى

11.jpg
نصير الأسرى وصفي قبها

ظل وصفي قبها يتنقل بين تجمعات أهالي الأسرى وبيوت الشهداء حتى طارده الاحتلال، فاضطر أن يختفي في منزل بيسان قسريًا، وظل حوالي عشرين يومًا في منزلها، تقول بيسان ببحة صوت حزينة: "كان صوامًا قوامًا يقضي وقته بين الكتب، ويشاركني الأحاديث الكثيرة، وفي يوم خروجه من منزلي احتضنته واعتذرت منه إن كنت قد قصرت في استقباله أو ضيافته، ففاضت عيناه بالبكاء واحتضنني حضن المودع، وفعلًا لم أره بعدها إلا مرات عديدة قبل أن يصاب بفايروس كورونا وترتقي روحه".

فقدت حبيبة أبيها كما تُحب أن تُنادى، رفيق حياتها ولم تستوعب معنى أنه غادر الحياة بالفعل، ولن تدفن رأسها بين يديه تشكو له وتحكي له أسرارها بعد اليوم، تداركت نفسها وتذكرت أنه يجب عليها أن تكون "ابنة أبيها" بحق، عليها الصمود كما صمد هو طوال سنين عمره حتى فاضت روحه لخالقها.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


هون عليها جنازته التي حضرها الكثير الكثير من محبيه من كل أنحاء فلسطين، ودفنوه في جنين كما طلب في وصيته، تقول: "ويكأن الله سبحانه وتعالى يرسل لنا البشريات بأنه من المقبولين في أهل السماء حتى وضع له القبول في الأرض، ففي تلك اللحظة شعرت بالفخر والاعتزاز بأن والدي شهيد بإذن الله تعالى ولا نزكيه على الله".

رحل وصفي قبها بعد رحلة طويلة من الكفاح على أرض فلسطين، وروحه لم تزل تحلق بين محبيه جميعا، يذكره الأسرى وأهالي الشهداء بالخير، وسيظل اسمه خالدًا في التاريخ الفلسطيني كرجل ناضل من أجل قضيته.