بنفسج

"جبل المحامل".. أم عاصف البرغوثي

الأربعاء 08 مارس

من اللحظة الأولى التي مال فيها عُمر برأسه وهو يقول لها: عليكِ التفكير جيدًا، أنا رجل "كثير غلبة ،  اليوم الذي لا أكون فيه مُطاردًا أكون فيه أسيرًا، واليوم الذي ستُطلق فيه حريتي ربما أكون على مشارفِ الشهادة". نظرتْ إليه سُهير، أجمل فتاةٍ عرفتْها قرية كوبر في رام الله، تسردُ له جوابَ قلبها: "سأعيش معك ولو بلغتْ بنا المصاعب أن يكون الحصير أدفئ فراشنا، والزيت والزعتر أجود طعامنا".

لم تكن هذه كلمات الشغف التي تنتابُ العروس قبل أن تعقد قرانها فحسب، بل سرعان ما أصبحت مبدأ حياة بين رجلٍ عاش مسيرةً جهادية طويلة، وامرأةٍ غزلتْ من خيوط الفراق عزيمةً تشدُّ بها طريق الصبر والصمود رفقة أبنائها.

هذه سهير البرغوثي (أم عاصف)، السيدة التي كانت تجلس في غرف التحقيق لساعاتٍ طويلة بهدوءٍ واثق، لا تُبالي بصراخ المحققين في وجهها، حتَّى استفزهم هدوؤها وهم يقولون: "عرفنا الآن سرَّ الثباتِ الذي يدخل به أبو عاصف إلى السجن في كلِّ مرة، إنَّه يعرف من ترك خلفه!".

أبو عاصف: سيرة مناضل

عاشت أم عاصف وهي تحمل إرثَ الجهاد أبًا عن جد، وكان عليها أن تنقله إلى أبنائها الأربعة دون أن يغلبها حنان الأم .. فبعد عامٍ ونصف من زواجها رزقها الله ببكرها "عاصف"، وبعد فترةٍ وجيزة اعتُقل أبو عاصف، وحُكِم عليه بالمؤبد. عرفتْ حينها أم عاصف أن العهد بينها وبين زوجها عُمر قد بدأ من لحظةِ الفراق الأولى.
 
ذهب رجلُ البيت وترك خلفه فتاة لم تتم عمر التاسعة عشر عامًا، كان هذا العمر مجرد أرقامٍ بسيطة أمام سيدةٍ بقيتْ على يقين الانتظار، تسمع صوتَ ميثاقِ الحب بينها وبين رجُلِها: "عُمر سيخرج حُرًّا يا سهير، وسيمتلأ هذا البيت بأطفالكما". وهل يكذبُ صوتُ الحبِّ يا أم عاصف؟!

عاشت أم عاصف وهي تحمل إرثَ الجهاد أبًا عن جد، وكان عليها أن تنقله إلى أبنائها الأربعة دون أن يغلبها حنان الأم .. فبعد عامٍ ونصف من زواجها رزقها الله ببكرها "عاصف"، وبعد فترةٍ وجيزة اعتُقل أبو عاصف، وحُكِم عليه بالمؤبد. عرفتْ حينها أم عاصف أن العهد بينها وبين زوجها عُمر قد بدأ من لحظةِ الفراق الأولى. ذهب رجلُ البيت وترك خلفه فتاة لم تتم عمر التاسعة عشر عامًا، كان هذا العمر مجرد أرقامٍ بسيطة أمام سيدةٍ بقيتْ على يقين الانتظار، تسمع صوتَ ميثاقِ الحب بينها وبين رجُلِها: "عُمر سيخرج حُرًّا يا سهير، وسيمتلأ هذا البيت بأطفالكما". وهل يكذبُ صوتُ الحبِّ يا أم عاصف؟!

كان هذا اليقين على مرأى أم عاصف حقيقةً بيضاء، فبعد تسع سنواتٍ خرج أبو عاصف حرًّا طليقًا في صفقةِ تبادل الأسرى التي تمَّتْ عام 1985، لتكتملَ بعدها الذُّريَّة التي لطالما حلمت بها هذه العائلة ،  فكان الحمل الأول ابنها "عاصم" وبعد تسعة أشهرٍ أخرى، أنجبتْ ابنتها " إقبال"، ومن بعدها ابنها صالح ومن ثم محمد ويافا. تضحكُ أم عاصف وهي تسردُ ترتيبَ أبنائها: "أنجبْتُهم جميعًا على "روس بعض"؛ لأنتهزَ الفرصة قبل اعتقال أبو عاصف مرةً أخرى".


اقرأ أيضًا: ساجدة أبو الهيجا: سفيرة العائلة وأم أبيها وأمها


والحقيقة أنَّ الفرحة لم تكتمل فيما بين ولادةٍ وأخرى كان يُعاد مطاردة أبو عاصف واعتقاله؛ فكان يدخل إلى السجن وخلفه أطفال رُضع وعندما يخرج يجدهم قد أصبحوا رجالًا أسودًا، حفظوا درسهم جيدًا ليرددوه في كل موقف: "يا أبي! من باع نفسه لله لن يخسر أبدًا".

أبناءٌ بعزيمة الجبال

 
 
لم تخبْ نظرة أم عاصف في أبنائها، فكانت البداية مع ابنها عاصم، شابٌ عُرِفَ بذكائه، وسرعة بديهته، كان قريبًا منها للحد الذي يجعل بداية كل حديثٍ له معها: "المهم رضاكِ يا إمي". هذا الشاب الذي اعتقل للمرة الأولى في سن الثامنة عشر على خلفية انضمامه للكتلة الإسلامية وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف .
 
وعندما خرج من السجن نظرت إليه أمه وهي تقول: "أسد يمّا وبترفع الراس" ، وما لبث عاصم سوى أشهرٍ معدودة حتى خاض معركته التالية محاولاً  خطف مستوطنٍ إسرائيلي، ليُحاكم بعدها بالسجن لمدة 11 عامًا ونصف . كانت تقف أم عاصف عند شباك الزيارة بعيونٍ ثاقبة، وهي تقول له: "ارفع رأسك، فمن خلفك والدك عمر ومعه عمك نائل".

كان أبناء أم عاصف زادها الحقيقي الذي يشد من أزرها، وكانوا هم الأصدقاء الذي تؤمِّن على سرها في أحضانهم، والسَّند الذي لا يعوجُّ بأوتاده أبدًا، فما بين طاولةِ الدراسة، ومقاعد التحفيظ في المساجد علَّمتهم كيف يُهتدَى لحفظ شرف الأرض ، فبعد كلِّ زيارةٍ لوالدهم في السجن، كانت تعود مشحونةً بعزيمة كفيلة لشحذ همة كل أبناء القرية، وقلبُها ينير لهم نهاية حكاية الشرفاء ، وفي الحقيقة هذا ما كان يدفعُها عندما تؤنِّب أحد أبنائها إذا فعل خطأً مهما كان بسيطًا: "من حمل اسم عُمر البرغوثي لا بُدَّ أن يكون على قدر هذا الشرف الثمين".

لم تخبْ نظرة أم عاصف في أبنائها، فكانت البداية مع ابنها عاصم، شابٌ عُرِفَ بذكائه، وسرعة بديهته، كان قريبًا منها للحد الذي يجعل بداية كل حديثٍ له معها: "المهم رضاكِ يا إمي". هذا الشاب الذي اعتقل للمرة الأولى في سن الثامنة عشر على خلفية انضمامه للكتلة الإسلامية وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف .

3.jpg

وعندما خرج من السجن نظرت إليه أمه وهي تقول: "أسد يمّا وبترفع الراس" ،  وما لبث عاصم سوى أشهرٍ معدودة حتى خاض معركته التالية محاولاً خطف مستوطنٍ إسرائيلي، ليُحاكم بعدها بالسجن لمدة 11 عامًا ونصف . كانت تقف أم عاصف عند شباك الزيارة بعيونٍ ثاقبة، وهي تقول له: "ارفع رأسك، فمن خلفك والدك عمر ومعه عمك نائل".

مضتْ السنوات، وبمجرد خروج عاصم، كانت أمه قد جهَّزت له بيتًا أقلُّ ما يُقال عنه "بيت الأحلام"، فلم يبقَ أحدٌ في القرية إلَّا وأبدى إعجابه بجمالِ هذا البيت، كانتْ أمنية أم عاصف أن ترى ابنها عريسًا، وأن تغيظَ عيون كل جنود الاحتلال بهذا الفرح الكبير.

received_583616643325941.gif
عاصم نجل عمر البرغوثي 

مضتْ الأيام، وفي الحقيقةِ لم تكن تخلو من فراق، حتّى في المرة التي قررت فيها أم عاصف أن تزوِّج ابنها صالح، كانت تنتظر قرار الإفراج عن أبو عاصف لتتم مراسم العرس، وعندما علِمتْ إدارة السجن بنيةِ أم عاصف، رفضوا الإفراج عن أبو عاصف، إلى أن تمَّ زفاف صالح بعد تأجيل فرحه أكثر من 3 مرات، ليصدرَ قرار الإفراج عن أبو عاصف بعد فترةٍ بسيطة.

6.jpg

الحقيقة أنه رغم كل هذه المنغِّصات كانت أم عاصف "مدرسة" في نشر الفرحة، جميلة المبسم، لها من الذوق ما يكفي أن يُضرب به المثل، كانت تعرف جيدًا كيف تحوِّل كل أيام حرية أبو عاصف إلى عيدٍ وطنيٍ كبير ، وفي المرات القليلة التي يشتدُّ فيها نقاشًا معينًا، كانت تُسارع بالصلح، فضحكةٌ من أبو عاصف "بتسوى الدنيا كلها" عند قلب أم عاصف.

اللقاء اليتيم

______-______-____________.jpg
أبناء المناضل عمر البرغوثي

مرة واحدة منذ 12 عامًا، كتب اللهُ لعائلة أبو عاصف فيها أن تلتقي دون نقصانِ أحدٍ من الأبناء، كانت لأيامٍ بسيطة، وكان قلبُ أم عاصف حينها يبشِّرها بشيءٍ خفي لا تعرف ماهيته ، إلى أن حملتْ لها الأيام ببشرى تنفيذ ابنها صالح لعملية استشهادية نال بها هذا الشرف العظيم: "لم أبكِ حين وصلني خبر شهادة حبيبي صالح، فأبنائي كلُّهم مشاريع شهادة، والحقيقة أني لم أكن أعرف أن صالح كان يفكر بهذا الأمر. لقد كان هادئًا وغامضًا لا يخبرُ أحدًا بما يفكر به، لكنّ روحه طلبت هذا الشرف، ونالها في النهاية الحمد لله".


اقرأ أيضًا: ذاكرة مؤجلة ولمسة أصبع: برواية أم أحمد مناصرة


تتذكرُ أم عاصف أيام العزاء الأولى، بعد أن اقتحم جنود الاحتلال الإسرائيلي بيت العزاء لاعتقال أبو عاصف، وحرمانه من الأخذ بعزاء ابنه، وما هي إلَّا أيام حتى اعتقلت أم عاصف ، كان المحققون يظنون أن هذا الاعتقال سيكسرُ عزيمة أم عاصف، لكنَّها وقفتْ أمامهم وهي تقول: "ومن أخبرك أنَّي حزينة على ابني؟! صالح وكل أبنائي أمامهم خيارين إمَّا الأسر وإمِّا الشهادة".

4.jpg

كانت عبارة أم عاصف مستفزَّة للمحققين حتَّى اتهموها بالجنون: "هل تتمنين لأبنائك الموت؟!". تضحك أم عاصف وهي تنظر إليه، فكيف له أن يعرف أنني واحدةٌ فقط من كلِّ هؤلاء الأمهات اللواتي يبعن كلَّ ما يملكن ليشتري أبناؤهن "البندقية" ومستلزمات الجهاد؟!

استمرَّ اعتقال أم عاصف مدة شهر كامل، قضتْ فيه 18 يومًا في عزلٍ انفرادي، و12 يومًا في معتقل الأسيرات الفلسطينيات ، وخلال فترة أسر أم عاصف، أُعلِنَ عن اعتقال ابنها عاصم بعد تنفيذه هجومًا مُسلَّحًا، أدى إلى مقتل اثنين من جنود الاحتلال وإصابة اثنين آخرين ، كان جنودُ الاحتلال ينتظرون خروجَ أم عاصف من السجن "ليحرقوا قلبها" كما كانوا يظنون، فأصدروا قرار هدم بيت ابنها عاصم، هذا البيت الذي بنتهُ أم عاصف بعينيها، حجرًا فوق جحر، وأسستْ جدرانه بالحب والمودة.

5.jpg

بعينين شامختين ورأسٍ مرفوع، وقفتْ أم عاصف أمام ركامِ البيت، وهي تقول: "وماذا تعني حجارةُ البيت؟! ولو هدموا كلَّ البيوت فليس لهم أن يهدموا منَّا طرفًا من عزيمة". في كلِّ مرةٍ، وبعد كلِّ حدث كانت أم عاصف تقف كالجبل، هذا اللقب الذي كان يحب أبو عاصف أن يناديها به، فكلَّما قال له أحد: أنت جبل يا أبو عاصف. كان يجيبه ليس أنا إنما أم عاصف سلسلة الجبال التي من خلفي ،  كل هذه الوقفات كانت فيها أم عاصف تسردُ فيها عهد مواصلة الطريق، إلى أن جاءت تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام كفن حبيبها وزوجها المجاهد أبو عاصف ، نظرتْ إليه طويلًا، وهي تردد: "اليوم يرحلُ عن ربوعكِ يا سهير فارسُكِ المغوار".


اقرأ أيضًا: نورا ومحمد.. 48 مؤبدًا بميثاقِ حُبٍّ وانتظار


لقد رحل المجاهد أبو عاصف البرغوثي يوم 25 آذار/مارس عام 2021، بعد إصابته بفايروس كورونا ، لم يكن رحيل السَّند نهاية الحكاية عند أم عاصف ، فلم تزل تسيرُ على ذات الطريق الذي أناره راحلها ، تصلُ رحمه، وتتحدَّثُ باسمه،و تفتح بيتها لكلِّ الأحباب والزائرين، وتعطي النصائح لنا جميعًا دون استثناء ، و تحدِّثني وهي تضحك قائلة: "أنا زي إمّك واحفظي عني":

"أبناؤك أمانة من الله وإلى الله، فهذه القضية بحاجة إلى رجال وليس إلى ذكور، أرضيعهم لبنَ العزة والكرامة، وإذا ما حادوا عن الطريق ضعي غضبكِ عليهم في الكفة الأخرى، ففلسطين قضية الشرفاء لا يحملها إلَّا من أدرك أنَّها عرضه وشرفه ". ختمتُ هذا الحوار وأنا أُرددُ بين جملةٍ وأخرى: "للهِ درُّكِ يا أم عاصف، لله درُّك".