بنفسج

سيما متولي: خلسة العيش بعيدًا عن قبضة السجان

الأربعاء 17 اغسطس

"فديتك روحي يا روح الفؤاد.. فأنت شطري بكل المداد.. شريكة عمري في أسري وقهري في خطوي وصبري بدرب الجهاد". فترد هي "وصبرك يبعث فيا اليقين بقيد سيكسر وسجن سيقهر وبيت يعمر بشمل متين".

أن تكوني رفيقة حياة لرجل حياته رهن الاعتقال والتنكيل في أي لحظة ليس بالشيء اليسير، فهذا يتطلب نفسًا طويًلا وصبرًا عميقًا، ولأنها سيما، المؤمنة الصابرة، قبلت بأن تكون أنيسته في وجه نوائب الدهر، هو رجل فلسطيني آمن بنهج النضال والمقاومة فدفع ثمن هذا غاليًا حين حرم وحبيبته من إقامة حفل زفافهما بشكل طبيعي بسبب اعتقالاته المتكررة.

اعتقال لمرة فثانية وثالثة فيتأجل الحفل كل مرة، فهل تثبط عزيمة فتاته التي وقعت في الإعجاب به من النظرة الأولى؟ أبدًا وحاشا، ظل صوته يتردد في أذنها "صبرًا يا صاحبة الصبر الجميل". فما كان من الشريكين إلا أن يكون قوت حياتهما الأمل والصبر حتى توج الحب فكان ثمرته نور ويمان، فأصبحا شاهدين على الاعتقال الأعنف في حياته الذي تم ليلة إعداد الحوار. بنفسج تستضيف الأم والزوجة والناشطة سيما متولي لتحكي لنا حكاية زفافها المؤجل، وذكريات الاعتقال لزوجها فادي حمد، ولتروي لنا عن ترشحها لانتخابات المجلس التشريعي عن قائمة "بيرزيت المستقلة".

| من أمن إلى تشتت

لم تنس سيما متولي حرقة قلبها وقت اعتقال حبيبها أثناء خطوبتهما، فلم تتوقع أن يُعتقل بهذه السرعة، مع أنها على علم مسبق بمشاهد حياته القادمة ولكنها حزنت حينها، وآثرت أن تصمد في أول اختبار حياة لهما سويًا.
 
 تضيف لبنفسج: "كنا نفكر في تفاصيل يوم الزفاف المقرر بعد 8 أشهر، ولكن ليس كل يتمناه المرء يدركه، فتأجل الحفل، ظللت انتظر بأمل أن يحين اللقاء، فالتقينا بعد 27 شهرًا من الاعتقال الإداري، فعوضنا شهور الفرقة وروينا ظمأ الحنين".
تدور بعجلة الذاكرة نحو سنوات بعيدة، وبابتسامة حانية تخبرنا بأنها ابنة القدس وتفتخر بأصولها تلك، لكن شاءت الأقدار أن يكون منشؤها في مدينة البيرة برام الله، فأحبتها بشوارعها وهوائها وسمائها. لم تغب عن عينيها سيما الطفلة الهادئة التي كانت تركض نحو مسجد البيرة لتحفظ آيات من الذكر الحكيم. تؤنسها في وحدتها ذكريات طفولتها حيث رحلات المدرسة الشيقة. تقدس الصداقة والعائلة، وكلما حزن القلب يدق بابه حكايات والدها ولمة أخوتها التي كانت تدب الدفء في فؤادها في ليالي الشتاء، فيسكن ويهدأ.

عادت سريعًا من حديث الزمن الجميل لتروي حكايات سيما الشابة التي كبرت أعوامًا في فترة وجيزة، أدركت أكثر أن أعظم ما يمكن أن يناله المرء هو الأمن في زمن ينقلب الحال في ثانية واحدة، فمن سكينة واطمئنان إلى قهر وألم، في بداية خطبتها من الشاب التي أرادت، وهي تدرسه ويدرسها يتشاركان الطموح والمُنى باغتتهما شدة دنيوية من نوع يعرفه الفلسطينيون جيدًا وخبر مفاده "اعتقال الناشط فادي حمد"، فوقع قلب سيما وأصابها الدوار وأبت دموعها أن تسقط، وتحشرج صوتها، فمر في خاطرها صورة الحبيب وهو يقول: "بتعرفي ممكن اعتقل بأي وقت".

inbound4704027990635739345.jpg
فادي غانم وسيما متولي وابنتهما نور

بحب جارف وضحكة تصل لعينيها حين يُذكر اسم فادي تقول لبنفسج: "حقيقة فكرة الارتباط برجل قد يُعتقل في أي وقت، أو يداهم منزله ويتعرض لعملية تخريب ممنهجة، لم تكن سهلة عليَّ، ولكني دائمًا كنت أؤمن بأن الأسير يجب أن تكون له حبيبة تعينه وتتحمل معه أعباء الحياة، فوافقت أن أكون رفيقة كفاح لأشاركه العمل لخدمة وطنه ودينه".

يمر شريط حياة المرء أمامه كشريط سينمائي وهو يُحدّث الآخرين قصته، فيصفعه شعوره في تلك اللحظة، كيف كان وكيف صار! المشاعر لا تُنسى على الإطلاق ولو مر عمرًا كاملًا بعدها، لم تنس سيما حرقة قلبها وقت اعتقال حبيبها أثناء خطوبتهما، فلم تتوقع أن يُعتقل بهذه السرعة، مع أنها على علم مسبق بمشاهد حياته القادمة ولكنها حزنت حينها، وآثرت أن تصمد في أول اختبار حياة لهما سويًا. تضيف لبنفسج: "كنا نفكر في تفاصيل يوم الزفاف المقرر بعد 8 أشهر، ولكن ليس كل يتمناه المرء يدركه، فتأجل الحفل، ظللت انتظر بأمل أن يحين اللقاء، فالتقينا بعد 27 شهرًا من الاعتقال الإداري، فعوضنا شهور الفرقة وروينا ظمأ الحنين".


اقرأ أيضًا: مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش


تكمل سيما: "ولكن الراحة لم تدم، فبعد شهر اعتقلته أجهزة السلطة الفلسطينية، وجاءت الضربة التي كنت أظنها وقتها قاضية، ولكني علمت بعدها أن هناك لحظات أصعب في هذه الدنيا، هنا تأجل للمرة الثانية حفل زفافنا بعدما جهزت كل شيء في عش الزوجية وحتى دعوات عرسنا، أُفرج عنه بعد حوالي شهر، ليعتقله جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد أسبوع مرة أخرى من في ليلة زفافنا، وأفرج عنه بعد ١٧ يومًا من التحقيق في زنازين المسكوبية".

| اعتقالات لا تنتهي

inbound1321102584537510005.jpg
سيما متولي وزوجها فادي غانم

بعد ليال طويلة وشهور عجاف من الانتظار، وعطش للقاء أبدي لا ينغصه سجان، وبيت معمر بالرضا والسكينة، تم حفل زفاف الحبيبين في أجواء مليئة بالدفء والسكينة، وها هو الحب قد انتصر بعد ابتلاءات وقفت كسد منيع أمامه.

بوجه يعلوه الحماسة لانعقاد القلب بالقلب، والظفر بالحب المختلف في زمن كثُرت به المتشابهات، تقول سيما عن فادي: "مُذ أن تزوجنا وهو زوج حقيقي وداعم لتفاصيل حياتي، يدعم شخصيتي الحساسة، وشريك في حسم قراراتي المترددة، كنت أعلم أن نوائب الدنيا لن تقف بمجرد زواجنا، بل يمكن أن تزداد، لكني أردت أن أكون على قدر ثقته بي، وأصبر وأنا راضية بكل ما يغزو حياتنا من صعاب".

شجرة الحب أثمرت وطرحت نور ويمان، فكانا بلسمًا شافيًا لكل الجراح التي بقيت ندوبها عالقة بالرفيقين، نور، البكر لهما، منحت لحياتهما رونقًا من نوع آخر، فكانت نور في وسط عتمة شديدة السواد. لم تنس سيما فادي وهو متمسك بالدخول معها حين ولادة الابنة الأولى، فظل يهدهد عليها برقة يهوّن عليها ألم المخاض.

حياة سيما وفادي تغمرها الاعتقالات من كل صوب وحدب وبشكل فجائي، لم يعتادا على ذلك مهما تكرر، في كل مرة يذوب القلب من قهره، ولكنهما ثابتان ثبات شجرة الزيتون المعمرة في أرض أجدادهما، يقوى حبل الوفاق بينهما أكثر، تضيف سيما: "حين اعتُقل فادي وأنا على وشك الولادة بطفلي الثاني يمان تأثر فادي جدًا بفراقنا، وخصوصًا أنه كان متحمسًا لقدوم يمان".

تقول سيما: "عشنا شهرين سويًا بعد ولادة النور، تعلق بها فادي وصارت صاحبته ومدللته الصغيرة، إلى أن هاجم جنود الاحتلال منزلنا واعتقلوا فادي ليحرموه من أن يرى نور قلبه تكبر أمام ناظريه. فور مغادرة الجنود المنزل لملمت شتات نفسي ووضعت حزني جانبًا وأغلقت عليه بمفتاح لأقوى على أن أكون أبًا وأمًا في آن واحد، وبعد ذلك حرصت على اصطحابها معي لزيارة والدها في الأسر بالرغم من صغر سنها، ورسمت صورته في ذهنها بالحديث الدائم عنه، حتى جاء يوم اللقاء بعد 19 شهرًا من الفراق، فاحتضنته نور دون خوف أو بكاء".

حياة سيما وفادي تغمرها الاعتقالات من كل صوب وحدب وبشكل فجائي، لم يعتادا على ذلك مهما تكرر، في كل مرة يذوب القلب من قهره، ولكنهما ثابتين ثبات شجرة الزيتون المعمرة في أرض أجدادهما، يقوى حبل الوفاق بينهما أكثر، تضيف سيما: "حين اعتُقل فادي وأنا على وشك الولادة بطفلي الثاني يمان تأثر فادي جدًا بفراقنا، وخصوصًا أنه كان متحمسًا لقدوم يمان".


اقرأ أيضًا: ساجدة أبو الهيجا: سفيرة العائلة وأم أبيها وأمها


"ماما أنا رح أستنى بابا عشان يرجع ونلعب أنا وإياه بغرفتي". هكذا ردت نور حين أخبرتها عن إحدى اعتقالات والدها وهي بعمر الرابعة، ظلت تبكي ومن بين شهقاتها تخبرني كيف ستشتاق لأن ترتمي بين يديه وتقفز عليه وهي تشاكسه. بقينا أنا وهي ندون الذكريات في ذاكرتنا ونعيد كل موقف وهمسة له. ومارست نور دور الأخت الكبرى وهي تروي ليمان عن والدهما وحنانه، رسمنا كلنا صورة للقاء بعد التحرر وقمنا بإعداد جدول بالأيام وكل يوم نمحو يوم حتى نقترب من اللحظة المنتظرة، حتى تحققت، فكنا الأسعد والأجمل"، تقول سيما.

لم تدم الفرحة طويلًا فعكرها الاحتلال بهمجيته، بعد تحرره بحوالي ثلاث شهور، وتحديدًا في ٢٢ تموز/يوليو ٢٠٢٢ اقتحم الاحتلال منزل فادي، تروي سيما لبنفسج التفاصيل: "كانت بداية الليلة هادئة لا تخلو من لعب زوجي مع صغاره، وحين خلدنا للنوم طلبت نور أن تنام بجانبنا وافقتها على الفور دون نقاش، وعند الساعة الثالثة ليلًا استيقظت على ضجيج في الخارج فقمنا لنرى ما الذي يجري، وبمجرد أن أضاء فادي الأنوار لقينا الجندي يوجه بندقيته ناحيتي وأخرى نحو فادي".

تكمل بتنهيدة والمشهد يُعاد في ذهنها من جديد: "لم أستطع الاستيعاب حينها فما زلت في مرحلة النوم، طلبوا مني بعنف أن أُحضر هويته و"اللابتوب" الخاص به، لم أدر كيف تحركت من مكاني ونفذت طلباتهم، وبعدما أرعبونا اقتادوا فادي واعتقلوه ولم أعلم إلى أين، بعد أيام علمت مكانه وقد حولته محكمة الاحتلال الإسرائيلي للاعتقال الإدراي لستة أشهر".

 

| عن "بيرزيت المستقلة"

سيما متولي
سيما متولي مع زوجها الأسير فادي غانم

في كل سقوط يعتريها الضعف، ولكنها لا تفقد أملها ويقينها أبدًا، فتأتيها سورة الحديد لتهدهد على قلبها بحنو، تضيف: "أطفالي زادي في هذه الدنيا. أحاول أن أقف ثابتة وبقوة لأجلهم، أمارس دور الصديق معهم وأتبع أسلوب الحوار حين توجيههم، وأزرع فيهم معنى الوطن وحب البلاد".

ترشحت ضمن قائمة "بيرزيت المستقلة". ما الذي دفعك لخوض تجربة الانتخابات؟ تجيب سيما: "رغم كوني أمًا وبالنسبة لي تربية أبنائي هي الأهم؛ لكن ذلك لم يكن يغنيني عن أحد القيم التي أودّ حصادها لدى أبنائي، وهي مساعدة الغير، ومساعدة المجتمع، وخدمة أبناء بلدتي ومجتمعي الذي أعيش فيه، فأردت أن أخوض التجربة لأحدث تغيير ولو يسير في المجتمع، والحمد لله، نجحت القائمة التي ترشحت بها لرئاسة البلدية".

شاركت سيما رفقة "بيرزيت المستقلة" بأنشطة مجتمعية عديدة، وعكفت مع زميلاتها في القائمة على تنظيم زيارات اجتماعية لأهالي الأسرى والشهداء، إضافة إلى اهتمامهن بالأطفال؛ فنظمن رحلات للصغار للمساجد لزرع حب المساجد في قلوبهم.

"من ذاق حلاوة الصبر، نسي مرارة الفراق".. في كل فراق للحبيبين ينخر الألم قلب سيما، لكنها صابرة مؤمنة بالقضاء خيره وشره، تقف كجبل ثابت وراء فادي، تحكي لأطفالها عن تاريخ فلسطين، وتحاول بثّ الأمل فيهم بلقاء أبدي لا ينغصه جيش الاحتلال الإسرائيلي.