بنفسج

منى منصور: سيرة ممتدة لشهي.د جبل النار

الأربعاء 08 يونيو

نعلم أنها الأصيلة، بنت البلاد. هذه المرأة التي تجيء دائمًا، تصعد من قلب الأرض وكأنها ترتقي سلمًا لا نهاية له، كالماء يسري في عمق الأرض، وينشر حوله خضراء الضفاف. إنها سيدة في الخمسين، قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهابًا، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنزع حياة نظيفة، لها، وأولادها. وهي المرأة التي تُوجَد مرَّة واحِدة في عُمر الرجُل، والرجُل في عمرها واحد. إنها منى منصور (أم بكر)، البنت النابلسية. الناشطة منذ شبابها، ومن ثم فهي الزوجة المحبة، والأم القوية، والمربية المتميزة، ومن ثم السياسية الرائدة.

عملت  ضمن صفوف الحركة الطلابية النقابية الإسلامية في المدارس والجامعات. وفي فترة الجامعة، تعرفت إلى الشهيد الراحل جمال منصور، وتزوجا في عام 1986، وأنجبا ثلاث بنات وولدين. تربت منى، المولودة في عام 1961، في نابلس، ودرست في مدارسها، وتخرجت في كلية العلوم من جامعة النجاح الوطنية في عام 1985 تخصص الفيزياء، لتعمل لاحقًا معلمة فيزياء في المدراس الحكومية لمدة 10 سنوات، قبل أن تلتحق بالسلك السياسي وتكون عضوًا في المجلس التشريعي.

| الارتباط بشخصية سياسية

منى منصور (أم بكر)، البنت النابلسية. الناشطة منذ شبابها، ومن ثم فهي الزوجة المحبة، والأم القوية، والمربية المتميزة، ومن ثم السياسية الرائدة. عملت في ضمن الحركة الطلابية النقابية الإسلامية في المدارس والجامعات. وفي فترة الجامعة، تعرفت إلى الشهيد جمال منصور، وتزوجا في عام 1986، وأنجبا ثلاث بنات وولدين.

تقول المربية منى منصور: "لم يكن ارتباطي بالشهيد جمال منصور فيه جهل لما سيكون بعد الزواج، على العكس، كنت على علم، وكل الفخر، أن يشاطرني شريكي ذات الأفكار من التضحية والفداء في سبيل الوطن بكل الطرق الممكنة".

صديقان نحن، فسيري بقربي كفًا بكف، معًا نصنع الخبز والأغنيات.. لماذا نسأل هذا الطريق، لأي مصيرٍ يسير بنا. وسعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده، ويجعلها ويجعله عضوًا واحدًا من جسم الحياة وكلمة واحدة.

تقول المربية منى منصور: "لم يكن ارتباطي بالشهيد جمال منصور فيه جهل لما سيكون بعد الزواج، على العكس، كنت على علم، وسبق الإصرار، وكل الفخر، أن يشاطرني شريكي ذات الأفكار من التضحية والفداء في سبيل الوطن بكل الطرق الممكنة". وتضيف: "لا أنكر أني من الناحية النظرية كنت ملمّة تمامًا بحياة الداعي والداعية، وأن كلانا سيعمل في النهار ولن تسمح لنا الفرصة باللقاء إلا ليلًا. وإن للطريق تضحيات جمّة وصعبة، ولكن كان التطبيق أصعب بكثير، فالبعد عن الشريك والاعتقالات والغياب المستمر يكون صعبًا على المرأة مهما كانت عقديتها ثابتة، وخلفيتها الفكرية متينة، ولديها الجهوزية النفسية لكل شي".

منى منصور٣
كانت المربية منى تحمل أعباءً مضاعفة في غياب زوجها، قسرًا، في معتقل أو مطارد، ولكنها تقول: "رغم صعوبة الحياة، وصعوبة اللقاء، والتلوّع والألم المستمر كان هناك متعة في التضحية. وكما يُقال: من رأى نور الفجر هانت عليه مشقة التكليف. وبالنسبة لنا كانت حياتنا رغم صعوبتها واختلافها عن الوضع الطبيعي، فيها لذة الاصطفاء الذي نحن عليه عن الناس الآخرين".

من جانب آخر ترى المربية منى أن الزواج عندما يكون فيه قواسم كثيرة مشتركة بين الزوجين يكون ذا قيمة أكبر؛ فالزوجان عندما يشتركا بالفكر الراسخ والمبادئ الثابتة ويزرعا هذه البذور في أبنائهم ويتشاركون التضحية في سبيل فكرة سامية ووطن غالٍ يكون أعظم من روتين يومي لا تقديم فيه ولا تأخير.

| الأبناء وتضافر الصعاب

منى منصور2.jpg
السيدة منى منصور مع زوجها وأطفالها

إن قلب المرأة لا يتغير مع الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلًا ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطّخ صخورها بالدماء، ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة ويظل فيها الربيع ربيعاً والخريف خريفاً إلى نهاية الدهور. إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلاً إذا لم يكن زيته شحيحاً؟

أنجبت المربية منى منصور بعد عام من زواجها ابنتها الأولى ابتهال التي انطلقت معها مرحلة جديدة في حياة منى منصور، فبعد ولادتها لابتهال، بدأت الحركة الإسلامية التي تنتمي لها هي وزوجها، تأخذ مسارًا آخر، وكان زوجها من أبرز قادتها، ومع انطلاق الحركة، انطلقت الانتفاضة الأولى، فزادت الصعوبات في حياة الزوجين، وأصبح اجتماعهما ولقاؤهما أصعب، وبدأت تحديات جديدة تظهر في حياة منى منصور، حيث اعتُقل الشهيد جمال منصور أول مرة حين كانت ابتهال في عمر الـ 9 شهور، وحكم بالإداري لمدة 6 شهور، وتجددت مرة أخرى بعد ذلك.

منى منصور ٢
"كانت أكبر صعوبة في هذه البداية وقتها، خروجي من بيتي للعيش مع أهلي حتى يخرج زوجي من السجن، وهكذا مع الطفلة الثانية وما بعدها"، تضيف أم بكر. كانت المربية منى تفقد زوجها مع كل طفل جديد يأتي، حيث تستذكر أنها في حملها الثاني لطفلتها بيان، اعتقال زوجها. كانت تضع مولدتها في غرفة الولادة وصواريخ العراق تسقط في منطقة النقب بقرب السجن الذي كان الشهيد جمال منصور معتقلًا فيه. وبعد أن أنجت طفلها الثالث بكر أُبعد زوجها إلى مرج الزهور.

والموقف الأصعب حين كانت بداية المخاض لطفلتها الرابعة أمان التي حملت بها بعد عودة الشهيد من مرج الزهور؛ إذ جاء جيش الاحتلال واعتقله وتركها تصارع الألم وحيدة، فما كان منها إلا أن طرقت باب الجيران ليأخذوها للمشفى لتضع طفلتها. عاشت منى حالة صعبة في نفاسها مع غياب والديها اللذان غيبها الموت؛ ففوق التعب النفسي والجسدي ومسؤولية الصغار كان زوجها يتعرض لأشد أشكال التحقيق العسكري في سجن عسقلان لمدة 105 يومًا. وحتى في طفلها الأخير بدر الذي حملت به بعد خروجه من سجون السلطة، وقد مكث فيها 3 سنوات، كان زوجها مطاردًا وكأنه لم يخرج من السجن. ومع كل طفل تزيد المسؤوليات والأعباء والصعوبات التي تهون في سبيل الله، كما تقول المربية منى.


اقرأ أيضًا: لمى خاطر: معادلات الكلمة ورحلة دفع الثمن


تضيف منى منصور: "إلى جانب الأجر الكبير الذي كنت ألمح نوره مع كل صعوبة، كان ارتباطي بمثل هذه الشخصية تهوّن عليّ كثيرًا، فأن يكون زوجي مضحيًا، ويغيب عن بيته لأجل شرف الأمة ومبدأ قيّم، لهو شرف عظيم. إن من وفاء الزوجة لزوجها في أن تسانده قلبًا وعقلًا وحبًا في هذا الطريق، فكيف أحضر الطعام للمنزل، وكيف أحتوي أبنائي في غياب والدهم، وكيف وكيف، كانت كلها سهلة في سبيل الهدف السامي الذي يحمله زوجي وأحمله معه". وتسترشد هنا بمثال من سيرة حسن البنا حين توفي ابنه وهو غائب عن المنزل. وعندما أخبرته زوجته قال لها: "جده يعرف المقبرة"، لشدة انشغاله بالعلم الدعوي الذي يحمل معه بعد هم بيته هم الأمه كاملة.

| غياب متقطع ودائم

منى منصور1.jpg
السيدة منى منصور

عاش الزوجان حياة لها طراز خاص، فلا يستيقظان صباحًا ويتناولا طعامهما على مائدة واحدة، ويتجهان إلى عملهما، ولا هما يحتضنان أطفالهما سويًا، ولا يجتمعان في المناسبات كما معظم العائلات. اتصالهما بين مدة وأخرى، وهذه المدة ربما سنة أو سنتان، وربما...ربما دهرًا. ومنى تعلم أن الشهادة، انتقاء، وارتقاء، واختصاص. والشهداء لهم أجرهم ونورهم. الشهيد ليس إنسانًا عاديًا، ولا يصطفيك الله إلا لقلبك النقي، وإيمانك الذي لا شك فيه، وتفانيك الذي لا ينقطع.

وهل تليق الشهادة إلا بك يا جمال، إن لك من اسمك كل النصيب، عُرفت رجلًا خلوقًا، محببًا، حكيمًا، وأنت الذي يليق بك عهد الشهادة. وحبيبتك تعلم أن فيك صفات الشهيد، ولكنها تعلم أيضًا أنها لحظة فراق الحبيب، فهل تأخذ من روحها روحًا وترحل! تقول منى: "قبل استشهاده، في الفترة الأخيرة، بات يلمح للموضوع كثيرًا، وأنا كنت دائمة السؤال: هل يُغتال السياسيون؟! فيجيبني أن كل شيء وارد، فأجلس وأبكي. يحاول أن يهدئ من روعي ولكن من دون جدوى، فيذهب لأبنائه مباشرة ويحدثهم عن الشهادة والجنة محاولًا تهيئتهم في حال وقع الأمر".

منى منصور١
يا بوز البارودة من دمه مبتل.. طلت البارودة والسبع ما جاش.. يا بوز البارودة من دمه مرتاش.. (طلت البارودة والسبع ما طل)
(يا بوز البارودة من دمه مبتل).. ما بيني وبينك سلسلة ووادي.. وين رحت غادي يا أعز أحبابي؟.. ما بيني، ما بيني وبينك سلسلة ووادي.. وين رحت غادي يا أعز أحبابي؟ طلت البارودة والسبع ما طل.. يا بوز البارودة من دمه مبتل.. حمره يا أصيلة، وين رحتي فيه.. بباب السرايا علمي تركتيه.. مع السلامة وين رايح.. مع السلامة يا مسك فايح.

في صباح رحيل الشهيد جمال منصور؛ استيقظ باكًرا ولبس أجمل ثيابه، وحلق شعر رأسه، وكأنه ذاهب إلى عرس، فتعجبت، فقال لها مازحًا: ربما يكون موعدي مع الشهادة اليوم! وسرد لها منامه؛ فقد رأى أنه أمام قصر كبير على بابه حراس كثر، وأراد الدخول، فقالوا إن فيه امرأة قال هذه زوجتي تطبب الجرحى، فدخلت. وهنا تساءلت منى وقلبها في انقباض: وهل التقينا في النهاية؟ فطمأنها أنهما التقيا في النهاية.

خرج الشيخ من بيته ورفض أن يصطحب ابنه بكر معه، كما اعتاد، وذهب إلى المكتب السياسي الذي كان يعمل فيه، وقبل خروجه، أوصى زوجته بأن لا تترك الأبناء مهما حدث، وأن تقف دومًا إلى جانب أسر الشهداء. وبعد خروجه، ذهبت في زيارة لإحدى عوائل الشهداء، ومن هناك اتجهت للسوق لتشتري بعض الحاجيات، وفي داخلها نداء مستمر لسماع صوت زوجها، خصوصًا عندما اقتربت من مكتبه الكائن في السوق، وعندما همت بالاتصال به قررت ألا تشغله عن عمله. وبعد لحظات، سمعت صوت انفجار قوي في المنطقة، عندها حاولت الاتصال به أو بأحد من رفاقه ولكن أحدهم لم يرد. وقفت في حيرة، هل تذهب إلى البيت، كما أوصاها، أم تذهب إلى المكتب للاطمئنان عليه، ولكنها عملت بوصيته وذهبت إلى البيت. وفي الشارع، التقت بأحد زوجات زملائه في العمل، والذي استشهد هو الآخر! هرعت أم بكر إلى المشفى لتلقى مشهدًا مهولًا، الكل يبكون، كبارًا وصغارًا...لله درك يا أم بكر، كيف لقلبك أن يحمل عظم الصدمة!

| يد تسلم يد

منى منصور ٤
فازت المربية منى منصور في عام 2006 في انتخابات التشريعي، وعاشت هذه الفترة صعوبات أكبر لم تثنيها، فقد حصل الانقسام بعد الانتخابات بعام، وتعرض في إثره أعضاء التشريعي الشرعيين لمشاق كبيرة، مثل قطع المعاشات، والتضييق عليهم من كل الجوانب، واعتبارهم غير موجودين على الساحة. في حين أصرت هي وزملائها إكمال الطريق رغم تعرضها للاعتقال حينها بسبب كونها عضو تشريعي، كما عملت قبل ذلك وحتى اليوم في المؤسسات النسوية التابعة. كما أنها كانت أحد مرشحي الانتخابات التي كان يجب أن تُقام قبل عدة شهور قبل إلغائها.

لم يكن استشهاد الشيخ جمال منصور نهاية لطريقه، كما تقول المربية، بل إنها أقسمت يوم تأبينه أن تكمل الطريق عنه قدر المستطاع. وكونها امرأة، لا يعني أن هذا معيقًا، بل وصفت أن المرأة قادرة على كل شيء معية الله. "أنا وأبنائي سنكمل طريق والدهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. زوجي أمدني بالعزيمة والإيمان، وأنا غرست ذلك في أبنائه، ولن يستطيع الاحتلال الذي يحاول قتل روح التضحية والعزيمة في قلوب أهالي الشهداء والأسرى والجرحى من ثنينا، هو أو سواه"، هذا ما تقوله منى منصور ختامًا في مشوارها الذي بدأته مع زوجها وتكمله الآن من خلفه.