بنفسج

فادي حسونة... شهيد العدسة وحارس الحقيقة

الثلاثاء 16 سبتمبر

فادي حسونة
فادي حسونة

مع ارتعاش الزمن أمام هول الفواجع، واصطدام الآمال بجدران الفاقدين، تساءلت بيأس مرير: هل توقف الوقت عند ضحايا الأمل؟ أم أضحى الزمن كعقارب تقطع الوصل بين الروح والجسد؟ وفي خضم تساؤلاتي وضبابية الإجابات، تذكرت محمد الدرة، الطفل الذي قُتل أمام عدسات الصحافة وأعين العالم.

الطفل الذي سقط في حضن والده، ليوقظ فينا ما تبقى من إنسانية. كيف يُقتل طفل بريء أمام الكاميرا؟ وكيف يظل الظلم قائمًا في مرآة الحقيقة؟
عدت إلى واقعي المنكسر، إذ استُشهد عشرات الآلاف من أمثال محمد الدرة أمام كاميرات البشر، في صمت رهيب، تحت شعار سلام مزيف رعته أيادي القتلة. لم يكتفوا بقتل الطفل، بل قتلوا الحقيقة نفسها، فانكسرت العدسات واحترقت، ومعها احترقت قلوب الشاكين. احتل مصاصو الدماء الأرض، فقتلوا كل ما تبقى من حياة.

قتلوا خمس عدسات بوحشية، كانت تسعى لبث الحقيقة إلى عالمٍ نائم، فأصبحت الكاميرا شهيدة أيضًا. في تلك اللحظة كان أحدهم ينتظر طفلاً، فولد الصغير يتيمًا، وبقيت القصص الموجعة بتفاصيلها الغامضة. لكنني أعلم يقينًا أن مصاصي الدماء أرادوا القضاء على الحقيقة، وكان فادي حسونة أحد من حملوها.

فادي، الصحافي في قناة القدس اليوم، الذي كان رفاقه يقولون عنه: "فادي يعمل كل شيء: تصويرًا، مونتاجًا، وتقارير". عندما نادته عدسته لتوثيق الحقائق، لبّى النداء بشجاعة بطل. كانت شقيقته تقول: “كان يزورنا مرة كل شهر”، وعندما توسلت عائلته أن يترك العمل خوفًا عليه، كان يجيب: "هذا طريقي وسأكمل به، فما الذي يمنعني من الاستشهاد؟".

فادي، الصحافي في قناة القدس اليوم، الذي كان رفاقه يقولون عنه: "فادي يعمل كل شيء: تصويرًا، مونتاجًا، وتقارير". عندما نادته عدسته لتوثيق الحقائق، لبّى النداء بشجاعة بطل. كانت شقيقته تقول: “كان يزورنا مرة كل شهر”، وعندما توسلت عائلته أن يترك العمل خوفًا عليه، كان يجيب: "هذا طريقي وسأكمل به، فما الذي يمنعني من الاستشهاد؟".

كان مديره يردد: "أنت ابني يا فادي، كنز ثمين، احرصوا عليه"، وكنت أتساءل: كيف كان يحوّل العدسة إلى ريشة، والصورة إلى لوحة فنية؟ لقد كان موهوبًا، حالمًا في عالم مليء بالفراغات.

رحل فادي إلى الجنة وهو راصد الحقيقة، وهناك مآسي شعبنا تتراكم. لكنه ظل يأمل أن توقظ هذه المآسي العالم من غفلته، وأن يرى الحقيقة كما هي. كان يعرضها للناس لعلهم يستفيقون، وكان يتمنى أن تتوقف الأرواح البليدة عن سُكر اللامبالاة، لتقف ولو بكلمة مع المظلومين.

كان محبوبًا من الجميع، يساعد من يحتاجه، يوزع الطعام في المخيمات على النازحين، ويشارك الخبز رغم شحه، والخضار رغم قلته، ويوفر الدواء لبعض العائلات حتى في أشد العوز. كان بحق الفتى المنقذ. في آخر زيارة لوالدته إلى مكان عمله، جاءت الخالة “أم فادي” لتطفئ شوقها إليه، ففرح بها وأخذها إلى السوق واشترى لها عباءة، ثم مازحها قائلًا: "أريد أن أتزوج باثنتين وسبعين حورية في الجنة". 

وفي يومه الأخير، قال ممازحًا: "سأرحل وستندمون" لم يدرك أهله أن تلك الكلمات كانت الوداع الأخير، إذ من طيبة روحه لم يظنوا أن اللقاء سيكون مختلفًا عن غيره. عندها أيقنت أن الشهداء يشبهون بعضهم في صفاء الروح ورحيلهم المبكر.

اتصلتُ بأسيل، لكن كلماتها كانت مشوشة، يثقلها الحزن والدموع. قالت بصوت مختنق: "فادي شهيد" انطفأ صوتها في بحر حزنها، وشد الألم قلبها إلى الهلاك. وجدت نفسها في قوقعة الحزن، كُبلت أناملها، وأُثقل كاهلها، فبدت كسجينة مثل شعبها بأسره.

عاودت الاتصال بها، فأجابت بصوت مكسور: “لم أنم ليلة ولا ليلتين ولا ثلاثًا…” كانت عيناها تبحثان عن أفق بعيد، عن حلم ضائع، وعن أرض غارقة، بينما الأرواح من حولها تبحث عن أمل مفقود كالحلم.

سُحبت منها أحلام العودة إلى الشمال مع أخيها البطل، فانكسرت عدسته الشهيدة مع رفاقه. تركوا قصصهم في ذاكرة العالم، ثم رحلوا إلى الجنة حيث لا ظلم ولا ألم، مستبشرين بما عند الله، منتظرين باقي الأحبة ليحلّقوا في سماء لا تعرف سوى النور.

وها هي أسيل تنتظر، وقلبها معلق بحافة الكلمات، وصوتها محبوس كمدينتها، تبحث عن صرخة لا تجدها، وتصرخ: "يا عالم الظلم، يا غريب، أراك ميتًا أم قتيلًا؟".